الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{وَمَن يَعۡشُ عَن ذِكۡرِ ٱلرَّحۡمَٰنِ نُقَيِّضۡ لَهُۥ شَيۡطَٰنٗا فَهُوَ لَهُۥ قَرِينٞ} (36)

قوله : { وَمَن يَعْشُ } : العامَّة على ضم الشين مِن عشا يعشو أي : يتعامى ويتجاهل . وقتادة ويحيى بن سلام " يَعْشَ " بفتحها بمعنى يَعْمَ . وزيد بن علي " يَعْشو " بإثبات الواو . قال الزمخشري : " على أنّ " مَنْ " موصولة وحَقُّ هذا أن يقرأَ نقيضُ بالرفع " . قال الشيخ : " ولا تتعيَّنُ موصوليتُها بل تُخَرَّج على وجهين : إمَّا تقديرِ حذفِ حركةِ حرفِ العِلة ، وقد حكاها الأخفش لغةً ، وتقدَّم منه في سورةِ يوسفَ شواهدُ ، وإمَّا على أنه جزمٌ ب " مَنْ " الموصولة تشبيهاً لها ب " مَنْ " الشرطيةِ " . قال : " وإذا كانوا قد جَزَموا ب " الذي " ، وليس بشرطٍ قط فأَوْلَى بما اسْتُعْمِلَ شرطاً وغيرَ شرطٍ . وأنشد :

3993 ولا تَحْفِرَنْ بِئْراً تُريد أخاً بها *** فإنّك فيها أنت مِنْ دونِه تقَعْ

كذاكَ الذي يَبْغي على الناسِ ظالماً *** يُصِبْه على رَغْمٍ عواقبُ ما صَنَعْ

/قال : " وهو مذهبُ الكوفيين ، وله وَجْهٌ من القياسِ : وهو أنَّ " الذي " أَشْبَهَتْ اسمَ الشرطِ في دخولِ الفاءِ في خبرِها ، فتُشْبِهُ اسمَ الشرطِ في الجزم أيضاً . إلاَّ أنَّ دخولَ الفاءِ منقاسٌ بشرطِه ، وهذا لا ينقاسُ " .

ويقال : عَشا يَعْشُو ، وعَشِي يَعْشَى . فبعضُهم جعلهما بمعنىً ، وبعضُهم فَرَّقَ : بأنَّ عَشِيَ يَعْشَى إذا حَصَلَتْ الآفَةُ من بَصَرَه ، وأصلُه الواوُ وإنما قُلِبَتْ ياءً لانكسارِ ما قبلها كرضِيَ يَرْضى وعَشَا يَعْشُو أي : تفاعَل ذلك . ونَظَرَ نَظَرَ العَشِي ولا آفَةَ ببصرِه ، كما قالوا : عَرَجَ لمَنْ به آفةُ العَرَجِ ، وعَرُجَ لمَنْ تعارَجَ ، ومَشَى مِشْيَةَ العُرْجان . قال الشاعر :

3994 أَعْشُو إذا ما جارتي بَرَزَتْ *** حتى يُوارِيْ جارتي الخِدْرُ

أي : أنظرُ نَظَرَ الَعَشِي . وقال آخر :

3995 متى تَأْتِه تَعْشُوا إلى ضَوْءِ نارِه *** تَجِدْ خيرَ نارٍ عندها خيرُ مُوْقِدِ

أي : تَنْظُرُ نَظَرَ العشِي لضَعْفِ بصرِه مِنْ كثرةِ الوَقودِ . وفَرَّق بعضُهم : بأنَّ عَشَوْتُ إلى النارِ إذا اسْتَدْلَلْتَ عليها بنظرٍ ضعيفٍ وقيل : وقال الفراء : " عَشا يَعْشى يُعْرِض ، وعَشِي يَعْشَى عَمِيَ " . إلاَّ أنَّ ابن قتيبة قال : " لم نَرَ أحداً حكى عَشَوْتُ عن الشيء : أَعْرَضْتُ عنه ، وإنما يقال : تعاشَيْتُ عن كذا إذا تغافَلْتَ عنه وتعامَيْتَ " .

وقرأ العامَّةُ " نُقَيِّضْ " بنونِ العظمةِ . وعلي بن أبي طالب والأعمش ويعقوبُ والسلميُّ وأبو عمروٍ وعاصمٌ في روايةٍ عنهما " يُقَيِّضْ " بالياء من تحت أي : يُقَيِّض الرحمنُ . و " شيطاناً " نصبٌ في القراءتين . وابن عباس " يُقَيَّضْ " مبنياً للمفعول ، " شيطانٌ " بالرفع ، قائمٌ مقامَ الفاعلِ .