الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{وَلَا تَأۡكُلُواْ مِمَّا لَمۡ يُذۡكَرِ ٱسۡمُ ٱللَّهِ عَلَيۡهِ وَإِنَّهُۥ لَفِسۡقٞۗ وَإِنَّ ٱلشَّيَٰطِينَ لَيُوحُونَ إِلَىٰٓ أَوۡلِيَآئِهِمۡ لِيُجَٰدِلُوكُمۡۖ وَإِنۡ أَطَعۡتُمُوهُمۡ إِنَّكُمۡ لَمُشۡرِكُونَ} (121)

قوله تعالى : { وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ } : هذه الجملة فيها أوجه ، أحدهما : أنها مستأنفة قالوا : ولا يجوز أن تكون منسوقةً على ما قبلها ، لأن الأولى طلبية وهذه خبرية ، وتُسَمَّى هذه الواوُ واوَ الاستئناف . والثاني : أنها منسوقةٌ على ما قبلها ولا يُبالى بتخالفهما وهو مذهب سيبويه ، وقد تقدَّم تحقيق ذلك ، وقد أَوْرَدْتُ من ذلك شواهد صالحة من شعر وغيره . والثالث : أنها حالية أي : لا تأكلوه والحال أنه فسق . وقد تبجَّح الإِمام الرازي بهذا الوجه على الحنفيَّة حيث قَلَبَ دليلهم عليهم بهذا الوجه ، وذلك أنهم يمنعون مِنْ أَكْلِ متروك التسمية ، والشافعية لا يمنعون منه ، استدلَّ عليهم الحنفية بظاهر هذه الآية فقال الرازي : " هذه الجملة حالية ، ولا يجوز أن تكون معطوفة لتخالفهما طلباً وخبراً فتعيَّن أن تكون حالية ، وإذا كانت حالية كان المعنى : لا تأكلوه حال كونه فسقاً ، ثم هذا الفسق مجمل قد فسَّره الله تعالى في موضع آخر فقال : { أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ } [ الأنعام : 145 ] يعني أنه إذا ذُكر على الذبيحة غيرُ اسم الله فإنه لا يجوز أكلُها لأنه فسقٌ " ونحن نقول به ، ولا يلزم من ذلك أنه إذا لم يُذْكَر اسمُ الله ولا اسمُ غيره أن تكون حراماً لأنه ليس بالتفسير الذي ذكرناه . وللنزاع فيه مجال من وجوه ، منها : أنها لا نُسَلِّم امتناع عطف الخبر على الطلب والعكس كما قدَّمْتُه عن سيبويه ، وإن سُلِّم فالواو للاستئناف كما تقدَّم وما بعدها مستأنف ، وإن سُلِّم أيضاً فلا نُسَلِّم أنَّ " فسقاً " في الآية الأخرى مُبَيِّن للفسق في هذه الآية ، فإنَّ هذا ليس من باب المجمل والمبيِّن لأن له شروطاً ليست موجودةً هنا .

وهذا الذي قاله مستمد من كلام الزمخشري فإنه قال " فإن قلت : قد ذهب جماعة من المجتهدين إلى جواز أَكْلِ ما لم يُذْكَرِ اسم الله عليه بنسيانٍ أو عَمْد . قلت : قد تأوَّله هؤلاء بالميتة وبما ذُكر غيرُ اسمِ الله عليه كقوله :

{ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ } [ الأنعام : 145 ] فهذا أصل ما ذكره ابن الخطيب وتبجَّح به .

والضمير في " إنَّه " يحتمل أن يعود على الأكل المدلول عليه ب " لا تأكلوا " وأن يعود على الموصول ، وفيه حينئذ تأويلان : أن تجعل الموصول نفس الفسق مبالغةً أو على حذف مضاف أي : وإن أكله لفسق ، أو على الذِّكْرِ المفهوم من قوله " ذُكر " . قال الشيخ : " والضمير في " إنه " يعود على الأكل قاله الزمخشري واقتصر عليه " . قلت : لم يَقْتَصِرْ عليه بل ذكر أنه يجوز أن يعود على الموصول ، وذكر التأويلين المتقدمين فقال : " الضمير راجع على مصدر الفعل الداخل عليه حرفُ النهي بمعنى : وإن الأكل منه لفسق ، أو على الموصول على أن أكلَه لفِسْق ، أو جَعَلَ ما لم يُذكر اسمُ الله عليه [ في ] نفسه فسقاً " .

قوله : { لِيُجَادِلُوكُمْ } متعلقٌ ب " يُوحُون " أي : يوحون لأجل مجادلتكم . وأصل " يُوحون " : يُوحِيُون فأُعِلّ . " وإن أَطَعْتموهم " قيل : إنَّ لام التوطئة للقسم فلذلك أجيب القسم المقدَّر بقوله " إنكم لمشركون " وحُذِف جواب الشرط لسدّ جواب القسم مَسَدَّه ، وجاز الحذف لأنَّ فعل الشرط ماض . وقال أبو البقاء : " حَذَفَ الفاء من جواب الشرط ، وهو حسن إذا كان الشرط بلفظ الماضي ، وهو ههنا كذلك وهو قوله وإن أَطَعْتموهم " . قلت : كأنه زعم أن جواب الشرط هو الجملة من قوله " إنكم لمشركون " ، والأصل " فإنكم " بالفاء لأنها جملة اسمية ، ثم حُذِفت الفاءُ لكونِ فعل الشرط بلفظ المُضيّ ، وهذا ليس بشيء فإن القَسَمَ مقدر قبل الشرط ، ويدل على ذلك حذفُ اللام الموطئة قبل " إن " الشرطية وليس فعل الشرط ماضياً كقوله تعالى : { وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ } [ الأعراف : 23 ] فههنا لا يُمْكنه أن يقول : إن الفاء محذوفة لأن فعل الشرط مضارع ، وكأن أبا البقاء والله أعلم أخذ هذا من الحوفي فإني رأيته فيه كما ذكره أبو البقاء ، وردَّه الشيخ بنحوٍ مما تقدم .