فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{وَمَا لَكُمۡ أَلَّا تَأۡكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ ٱسۡمُ ٱللَّهِ عَلَيۡهِ وَقَدۡ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيۡكُمۡ إِلَّا مَا ٱضۡطُرِرۡتُمۡ إِلَيۡهِۗ وَإِنَّ كَثِيرٗا لَّيُضِلُّونَ بِأَهۡوَآئِهِم بِغَيۡرِ عِلۡمٍۚ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعۡلَمُ بِٱلۡمُعۡتَدِينَ} (119)

{ وما لكم أن لا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه } الاستفهام للإنكار أي ما المانع لكم من أكل ما سميتم عليه بعد أن أذن لكم بذلك ، وفيه تأكيد في إباحة ما ذبح على اسم الله دون غيره { وقد فصل لكم ما حرم عليكم } أي والحال أنه قد بين لكم بيانا مفصلا يدفع الشك ويزيل الشبهة بقوله : { قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما } الآية وقال السيوطي يعني آية { حرمت عليكم الميتة } أي آية المائدة .

وحينئذ في المقام إشكال أورده الرازي وحاصله أن سورة الأنعام مكية وسورة المائدة مدنية من آخر القرآن نزولا بالمدينة ، وقوله : { وقد فصل لكم } يقتضي أن ذلك التفضيل قد تقدم على هذا المحل ، والمدني متأخر عن المكي ، فيمتنع كونها متقدمة ثم قال : بل الأولى أن يقال هو قوله بعد هذه الآية : { قل لا أجد } وهذه وإن كانت مذكورة بعدها بقليل إلا أن هذا القدر من التأخير لا يمنع أن يكون هو المراد انتهى .

قلت وذكر المفسرون وجها آخر وهو أن الله علم أن سورة المائدة متقدمة على سورة الأنعام في الترتيب لا في النزول فبهذا الاعتبار حسنت الحوالة على ما في المائدة بقوله : { وقد فصل لكم } باعتبار تقدمه في الترتيب وإن كان متأخرا في النزول والله أعلم .

ثم استثنى فقال : { إلا ما اضطررتم إليه } من جميع ما حرمه عليكم فإن الضرورة تحلل الحرام وقد تقدم تحقيقه في البقرة قال قتادة : ما اضطررتم إليه من الميتة والدم ولحم الخنزير والاستثناء كما قال الحوفي منقطع ، وبه قال التفتازاني ، وقال أبو البقاء : متصل من طريق المعنى لأنه وبخهم بترك الأكل مما سمي عليه ، وذلك يتضمن إباحة الأكل مطلقا ، وحاصله أن الاستثناء من الجنس فهو متصل ، وقال زكريا فيه : إنه لا يكون حينئذ استثناء متصلا بل هو استثناء مفرغ من الظرف العام المقدر .

{ وإن كثيرا ليضلون بأهوائهم بغير علم } هم الكفار الذين كانوا يحرمون البحيرة السائبة ونحوهما فإنهم بهذه الأفعال المبنية على الجهل كانوا يضلون الناس فيتبعونهم ولا يعلمون أن ذلك جهل وضلالة لا يرجع إلى شيء من العلم ، قال سعيد بن جبير : يعني من مشركي العرب ليضلون في أمر الذبائح { إن ربك هو أعلم بالمعتدين } أي بمن تعدى حدوده فأحل ما حرم وحرم ما أحل الله فيجازيهم على سوء صنيعهم .