تأويلات أهل السنة للماتريدي - الماتريدي  
{وَمَا لَكُمۡ أَلَّا تَأۡكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ ٱسۡمُ ٱللَّهِ عَلَيۡهِ وَقَدۡ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيۡكُمۡ إِلَّا مَا ٱضۡطُرِرۡتُمۡ إِلَيۡهِۗ وَإِنَّ كَثِيرٗا لَّيُضِلُّونَ بِأَهۡوَآئِهِم بِغَيۡرِ عِلۡمٍۚ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعۡلَمُ بِٱلۡمُعۡتَدِينَ} (119)

الآية 119 ثم أمر بأكل ما ذكر اسم الله [ عليه ]{[7672]} ، وعاتب عن ترك ما ذكر اسم الله [ عليه ]{[7673]} بقوله تعالى { وما لكم ألا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه } ولم يبين بم ؟ وبأي وجه ؟ بالذبح أو بغيره . وكذلك قوله تعالى : { اليوم أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم } [ المائدة : 5 ] ولم يبين من أي وجه ؟ لكن الناس أنفقوا على صرف ذلك إلى الذبح ، فكان الذبح مضمرا فيه ؛ كأنه قال : فكلوا مما ذبح بذكر اسم الله عليه .

ثم لا يخلو اتفاقهم بمعرفة ذلك ؛ إما أن عرفوا ذلك بالسماع من رسول الله ، وإما أن ]{[7674]} عرفوا ذلك بنوازل الأحكام ، إذ ليس في الآية بيان ذلك . فكيف ما كان ففيه دلالة نقض قول من يقول بأن من عرف نوازل الأحكام ، أو عنده دراية ، يفسق لأنه لم يذكر ههنا النوازل ولا السماع . دل أنه لا يفسق إن كان قوله تعالى : { فكلوا مما ذكر اسم الله عليه } ذكر لمكان قول الوثنية لأنهم يحرمون الذبائح ، ويقولون : ليس من الحكمة إيلام من لا ذنب له ، أو ذكر لمكان قول من يقول : إنكم أكلتم ما تذبحون بأيديكم ، ولا تأكلون ما يولي الله قتله .

ثم قوله تعالى : { فكلوا مما ذكر اسم الله عليه } وقوله تعالى : { ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق } [ الأنعام : 121 ] أباح عز وجل من الأنعام ما ذكر اسم الله عليه ، وحظر ما لم يذكر اسم الله عليه ، ونهى عن أكله بقوله تعالى : { ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه } وبقوله تعالى : { وما أهل به لغير الله } [ البقرة : 173 و . . ] جعل المهل لغير الله [ به ]{[7675]} ميتة حراما ، وجعل المذكور اسم الله عليه ذكيا حلالا ، فدل أن التسمية شرط في حل الذبيحة ؛ لأنه لو لم يكن شرطا في حل الذبيحة لم يكن المهل به لغير الله ميتة حراما ، ولأنه سمى ما لم يذكر اسم الله عليه فسقا ؛ والفسق هو الخروج عن أمر الله كقوله تعالى : { ففسق عن أمر ربه } [ الكهف : 50 ] ، فدل أن التسمية شرط فيها . ولهذا يحل{[7676]} لنا ذبائح أهل الكتاب إذا سمعناهم يذكرون اسم الله عليه ، وإن كانوا لا يذكرون في الحقيقة غير الله ؛ لأنهم لا يعرفون الله حقيقة ، ولكن إذا ذكروا اسم الله عليه يحل لنا .

ولا يحل [ لنا ]{[7677]} ذبائح أهل الشرك ؛ لأن أهل الشرك لا يرون الذبائح رأسا ؛ يذهبون مذهب الزنادقة ، والزنادقة لا يرون الذبائح ؛ يقولون لنا : تقولون : إن ربكم رحيم حكيم ، وليس من الحكمة أو الرحمة أن يأمر أحدا بذبح آخر ، ويقتله ، فيأكلون الميتة ، ولا يرون أكل الذبيحة ، ويقولون : ليس هذا أمر من كان موصوفا بالرحمة أو بالحكمة .

لكنا نقول : [ إن ذلك في أمرين :

أحدهما : ]{[7678]} أن كراهة الذبح والنفور عنه نفور طبع ، [ وكراهته كراهة الطبع لا كراهة العقل ]{[7679]} ؛ [ يجوز أن يباح [ أمر ]{[7680]} لما يعقب نفعا في المتعقب نحو ما يباح الافتصاد والحجامة والتداوي بأدوية كريهة لنفع يعقب ، ويؤمل{[7681]} ، وإن كان الطبع يكرهه ، وينفر عنه ]{[7682]} ، وليس هو مما يقبحه العقل . إن ما لا يجوز أن يباح فعل ، ويؤمر به ، مما يقبحه العقل ، [ ويكرهه العقل ]{[7683]} .

وأما كراهة الطبع ونفوره فإنه يجوز أن يباح لما ذكرنا ، ويرتفع ذلك بالعادة . فعلى ذلك الذبح{[7684]} كراهته [ ليست ]{[7685]} كراهة العقل ونفوره .

والثاني : أن هذه الأشياء كلها إنما [ خلقت لنا ، وسخرت ]{[7686]} لمنافعنا ، لم تخلق لأنفسها . فإذا كان ذلك{[7687]} يحل لنا ذبحها والتناول منها بأمر الذي أنشأها ، وسخرها{[7688]} لنا .

وبعد فإن مذهبهم أن العالم إنما كان بامتزاج النور والظلمة ، والروح من النوراني ، والجسم من الظلماني . ففي الذبح استخراج الروح ورده إلى أصله ؛ إذ من قولهم : إنه يرجع كل إلى أصله في العاقبة على ما كان في الأول .

وأما جواب{[7689]} ما قاله أهل الشرك . أكلتم ما ذبحتم أنتم ، وتركتم ذبيحة الله [ ففي وجهين ]{[7690]} :

أحدهما : ما قاله أهل التأويل : إن الخلق له ، وله الحكم عليهم ، فأحل لهم هذا ، وحرم عليهم هذا .

والثاني : تعبدنا بذكر اسمه عليها ، فصار اسم الله إقامة عبادة تعبدنا بها ، وفي ما لم تذكر لم تكن عبادة . كذلك حل لنا ما كان في ذلك إقامة عبادة ، ولم يحل لنا ما لم يكن فيه{[7691]} والله أعلم .

وقوله تعالى : { فكلوا مما ذكر اسم الله عليه } هو في الظاهر أمر . لكن الأمر الذي يرجع إلى شهوات النفس ولذاتها فإنه يخرج على وجهين ؛ إما أن يخرج على بيان ما يحل والنهي عما{[7692]} لا يحل . فههنا خرج على ما يحل ، وتحريم ما لا يحل ؛ كأنه قال : كلوا مما ذكر اسم الله عليه ، ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه .

وقوله تعالى : { وقد فصل لكم ما حرم عليكم } هو صلة قوله : { وما لكم لا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه وقد فصل لكم ما حرم عليكم } أي ما لكم ألا تأكلوا كذا ، وقد بين{[7693]} لكم ما حرم عليكم من الميتة والدم ولحم الخنزير إلا ما اضطررتم إليه .

قال الحسن : له أن يتناول من الميتة حتى يشبع ؛ لأنه أحل له التناول . وعلى قولنا : لا يحل له الشبع ؛ لأنه إنما أحل عند /160-أ/ الاضطرار لا الشبع . ويقول الحسن : لو ترك التناول منها حتى هلك لا شيء عليه ؛ يقول : إنما أحلت له رخصة ورحمة ، وليس على من لم يعمل بالرخص إثم .

ولكن عندنا : أنها أبيحت في حال الاضطرار ؛ فإذا ترك التناول منها حتى هلك صار ملقيا نفسه في التهلكة ، وقد حرم الله علينا أن نهلك أنفسنا ، أو نلقيها في التهلكة بقوله : { ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة } [ البقرة : 195 ] ولا فرق بين ترك التناول من الميتة ، وقد أحل لنا التناول من غيرها{[7694]} من الأطعمة المحللة ، أو [ أن ]{[7695]} نأتي بأسباب إتلاف النفس ، فهما سواء .

ويقول أيضا : له أن يتناول عند الاضطرار من مال غيره بلا بدل . وإذا نهى صاحبه عن ذلك يضمن بدل ذلك بالغا ما بلغ ، فهذا بعيد لا يجوز أن يتناول من{[7696]} مال غيره ، ولا يلزمه البدن . وإذا نهاه عن ذلك يلزمه البدل ؛ لأن من كان له حق التناول من مال آخر بغير بدل ، ثم إذا نهي ، أو منع ، يلزمه البدل . دل أنه ليس له التناول إلا ببدل ، وقد ذكرنا .

وقوله تعالى : { وإن كثيرا ليضلون بأهوائهم بغير علم } دل هذا على أن الكل منهم لم يكونوا يضلون ، ولكن البعض هم الأئمة منهم والرؤساء ؛ لأن الأتباع منهم كانوا لا يضلون الناس إنما [ كان يضلهم ]{[7697]} الكبراء منهم والعظماء { إن ربك هو أعلم بالمعتدين } وقد ذكرنا هذا في ما تقدم .


[7672]:- من م، ساقطة من الأصل.
[7673]:- ساقطة من الأصل وم.
[7674]:- في الأصل وم: أو.
[7675]:- من م، ساقطة من الأصل.
[7676]:- أدرج قبلها في الأصل: لم، وفي م: ما.
[7677]:- ساقطة من الأصل وم.
[7678]:- ساقطة من الأصل وم.
[7679]:- في الأصل: وكراهة طبع لا كراهة العقل مما يكرهه الطبع وينفر عنه، في م: وكراهته كراهة طبع يكرهه وينفر عنه.
[7680]:- ساقطة من الأصل.
[7681]:- في الأصل: ويتأمل.
[7682]:- ساقطة من م.
[7683]:- من م، ساقطة من الأصل.
[7684]:- في الأصل وم: الذبيحة.
[7685]:- ساقطة من الأصل وم.
[7686]:- في الأصل وم: خلق لنا، وسخر.
[7687]:- في الأصل وم: كذلك.
[7688]:- في الأصل وم: لنا وسخر.
[7689]:- في الأصل وم: الجواب.
[7690]:- في الأصل وم: وجهان.
[7691]:- في الأصل وم: فيها.
[7692]:- في الأصل وم: على ما.
[7693]:- في الأصل وم: يبين، وهو إشارة إلى قوله تعالى: {حرمت عليكم الميتة} [المائدة: 3].
[7694]:- في الأصل وم: غيره.
[7695]:- ساقطة من الأصل وم.
[7696]:- في الأصل وم عن.
[7697]:- في الأصل وم: كانوا يضلون.