البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{وَلَقَدۡ جَآءَتۡ رُسُلُنَآ إِبۡرَٰهِيمَ بِٱلۡبُشۡرَىٰ قَالُواْ سَلَٰمٗاۖ قَالَ سَلَٰمٞۖ فَمَا لَبِثَ أَن جَآءَ بِعِجۡلٍ حَنِيذٖ} (69)

حنذت الشاة أحنذها حنذا شويتها ، وجعلت فوقها حجارة لتنضجها فهي حنيذ ، وحنذت الفرس أحضرته شوطاً أو شوطين ثم ظاهرت عليه الجلال في الشمس ليعرق .

{ ولقد جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا سلاماً قال سلام فما لبث أن جاء بعجل حنيذ فلما رأى أيديهم لا تصل إليه نكرهم وأوجس منهم خيفة قالوا لا تخف إنّا أرسلنا إلى قوم لوط وامرأته قائمة فضحكت فبشرناها بإسحاق ومن ورآء إسحاق يعقوب قالت يويلتى أألد وأنا عجوز وهذا بعلي شيخاً إن هذا لشيء عجيب قالوا أتعجبين من أمر الله رحمت الله وبركاته عليكم أهل البيت { إنه حميد مجيد } : تقدم أن ترتيب قصص هذه السورة كترتيب قصص الأعراف ، وإنما أدرج شيئاً من أخبار إبراهيم عليه السلام بين قصة صالح ولوط ، لأنّ له مدخلاً في قصة لوط ، وكان ابراهيم بن خالة لوط .

والرسل هنا الملائكة ، بشرت إبراهيم بثلاث بشائر : بالولد ، وبالخلة ، وبإنجاء لوط ومن آمن معه .

قيل : كانوا اثنى عشر ملكاً ، روى ذلك عن ابن عباس .

وقال السدي : أحد عشر ، وحكى صاحب الغنيان عشرة منهم جبريل .

وقال الضحاك : تسعة ، وقال محمد بن كعب : ثمانية ، وحكى الماوردي : أربعة ، وقال ابن عباس وابن جبير : ثلاثة جبريل ، وميكائيل ، وإسرافيل .

وقال مقاتل : جبريل ، وميكائيل ، وملك الموت .

وروي : أن جبريل عليه السلام كان مختصاً بإهلاك قوم لوط ، وميكائيل ببشرى إبراهيم بإسحاق عليهما السلام ، وإسرافيل بإنجاء لوط ومن آمن معه .

قيل : وكانت الملائكة جرداً مرداً على غاية من الحسن والجمال والبهجة ، ولهذا يضرب بهم المثل في الحسن كما قال تعالى حكاية عما قيل في يوسف : { ما هذا بشراً إن هذا إلا ملك كريم } وقال الغزي :

قوم إذا قوبلوا كانوا ملائكة *** حسناً وإن قوتلوا كانوا عفاريتا

وانتصب سلاماً على إضمار الفعل أي : سلمنا عليك سلاماً ، فسلاماً قطعه معمولاً للفعل المضمر المحكى بقالوا ، قال ابن عطية : ويصح أن يكون سلاماً حكاية لمعنى ما قالوا ، لا حكاية للفظهم ، قاله : مجاهد ، والسدي .

ولذلك عمل فيه القول ، كما تقول لرجل قال : لا إله إلا الله قلت : حقاً وإخلاصاً ، ولو حكيت لفظهم لم يصح أن يعمل فيه القول انتهى .

ويعني لم يصح أن يعمل في لفظهم القول ، يعني في اللفظ ، وإن كان ما لفظوا به في موضع المفعول للقول .

وسلام خبر مبتدأ محذوف أي : أمري أو أمركم سلام ، أو مبتدأ محذوف الخبر أي : عليكم سلام ، والجملة محمية وإن كان حذف منها أحد جزءيها كما قال :

إ ذا ذقت فاها قلت طعم مدامة *** أي طعمه طعم مدامة .

وقرأ الإخوان قال : سلم ، والسلم السلام كحرم وحرام ، ومنه قول الشاعر :

مررنا فقلنا ايه سلم فسلمت *** كما اكتل بالبرق الغمام اللوائح

اكتل اتخذ إكليلاً .

قال ابن عطية : ويحتمل أن يريد بالسلم ضد الحرب تقول : نحن سلم لكم انتهى .

ونصب سلاماً يدل على التجدد ، ورفع سلام يدل على الثبوت والاستقرار ، والأقرب في إعراب فما لبث أن تكون ما نافية ، ولبث معناه تأخر وأبطأ ، وأن جاء فاعل بلبث التقدير فما تأخر مجيئه قاله : الفراء .

وجوزوا أن يكون في لبث ضمير إبراهيم فهو فاعل ، وأن جاء على إسقاط الحرف فقدر بأن وبعن ، وبفي ، وجعل بعضهم أن بمعنى حتى حكاه ابن العربي .

وأن تكون ما مصدرية ، وذلك المصدر في موضع رفع بالابتداء ، وأن تكون بمعنى الذي أي : فلبثه ، أو الذي لبثه ، أو الذي لبثه ، والخبر أن جاء على حذف أي : قدر مجيئه ، وهذا من أدب الضيافة ، وهو تعجيل القرى .

وكان مال إبراهيم البقر ، فقدم أحسن ما فيه وهو العجل .

قال مجاهد : حنيذ مطبوخ ، وقال الحسن : نضيج مشوي سمين يقطر ودكا .

وقال السدي : سمين ، وقيل : سميط لا يصل إليه ، أي إلى العجل .