البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{قَالَ لَنۡ أُرۡسِلَهُۥ مَعَكُمۡ حَتَّىٰ تُؤۡتُونِ مَوۡثِقٗا مِّنَ ٱللَّهِ لَتَأۡتُنَّنِي بِهِۦٓ إِلَّآ أَن يُحَاطَ بِكُمۡۖ فَلَمَّآ ءَاتَوۡهُ مَوۡثِقَهُمۡ قَالَ ٱللَّهُ عَلَىٰ مَا نَقُولُ وَكِيلٞ} (66)

ولما كان يعقوب غير مختار لإرسال ابنه ، وألحوا عليه في ذلك ، علق إرساله بأخذ الموثق عليهم وهو الحلف بالله ، إذ به تؤكد العهود وتشدد ، ولتأتنني به جواب للحلف ، لأن معنى حتى تؤتون موثقاً : حتى تحلفوا لي لتأتنني به .

وقوله : إلا أن يحاط بكم ، لفظ عام لجميع وجوه الغلبة ، والمعنى : تعمكم الغلبة من جميع الجهات حتى لا يكون لكم حيلة ولا وجه تخلص .

وقال مجاهد : إلا أن تهلكوا .

وعنه أيضاً : إلا أن لا تطيقوا ذلك .

وهذا الاستثناء من المفعول من أجله مراعى في قوله : لتأتنني ، وإن كان مثبتاً معنى النفي ، لأن المعنى : لا تمتنعون من الإتيان به لشيء من الأشياء إلا لأن يحاط بكم .

ومثاله من المثبت في اللفظ ومعناه النفي قولهم : أنشدك الله إلا فعلت أي : ما أنشدك إلا الفعل .

ولا يجوز أن يكون مستثنى من الأحوال مقدراً بالمصدر الواقع حالاً ، وإن كان صريح المصدر قد يقع حالاً ، فيكون التقدير : لتأتنني به على كل حال إلا إحاط بكم أي : محاطاً بكم ، لأنهم نصوا على أنّ أنْ الناصبة للفعل لا تقع حالاً وإن كانت مقدرة بالمصدر الذي قد يقع بنفسه حالاً .

فإن جعلت أنْ والفعل واقعة موقع المصدر الواقع ظرف زمان ، ويكون التقدير : لتأتنني به في كل وقت إلا إحاطة بكم أي : إلا وقت إحاطة بكم .

قلت : منع ذلك ابن الأنباري فقال : ما معناه : يجوز خروجنا صياح الديك أي : وقت صياح الديك ، ولا يجوز خروجنا أن يصيح الديك ، ولا ما يصيح الديك .

وإن كانت أنْ وما مصدريتين ، وإنما يقع ظرفا المصدر المصرح بلفظه .

وأجاز ابن جني أن تقع أنْ ظرفاً ، كما يقع صريح المصدر ، فأجاز في قول تأبط شراً :

وقالوا لها لا تنكحيه فإنه *** لأول فصل أن يلاقي مجمعا

وقول أبي ذؤيب الهذلي :

وتالله ما أن شهلة أم واحد *** بأوجد مني أن يهان صغيرها

أنْ يكون أنْ يلاقي تقديره : وقت لقائه الجمع ، وأن يكون أنْ يهان تقديره : وقت إهانة صغيرها .

فعلى ما أجازه ابن جني يجوز أن تخرج الآية ويبقى لتأتنني به على ظاهره من الإثبات ، ولا يقدر فيه معنى النفي .

وفي الكلام حذف تقديره : فأجابوه إلى ما طلبه ، فلما آتوه موثقهم قال يعقوب : الله على ما نقول من طلب الموثق وإعطائه وكيل رقيب مطلع .

ونهيه إياهم أن يدخلوا من باب واحد هو خشية العين ، وكانوا أحد عشر لرجل واحد أهل جمال وبسطة قاله : ابن عباس ، والضحاك ، وقتادة ، وغيرهم ، والعين حق .

وفي الحديث : « إن العين لتدخل الرجل القبر والجمل القدر وفي التعوذ ومن كل عين لامة » وخطب الزمخشري فقال : لأنهم كانوا ذوي بهاء وشارة حسنة ، وقد أشهرهم أهل مصر بالقربة عند الملك والكرامة الخاصة التي لم تكن لغيرهم ، فكانوا مظنة لطموح الأبصار إليهم من الوفود ، وأن يشار إليهم بالأصابع ، ويقال : هؤلاء أضياف الملك انظروا إليهم ما أحسنهم من فتيان ، وما أحقهم بالإكرام ، لأمر ما أكرمهم الملك وقربهم وفضلهم على الوافدين عليه .