البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{فَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمۡ جَعَلَ ٱلسِّقَايَةَ فِي رَحۡلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا ٱلۡعِيرُ إِنَّكُمۡ لَسَٰرِقُونَ} (70)

العير الإبل التي عليها الأحمال ، سميت بذلك لأنها تعير أي تذهب وتجيء .

وقيل : هي قافلة الحمير ، ثم كثر حتى قيل لكل قافلة عير ، كأنها جمع عير .

وأصلها فعل كسقف ، وسقف فعل به ما فعل ببيض وعيد ، والعير مؤنث .

وقالوا في الجمع : عيرات ، فشذوا في جمعه بالألف والتاء ، وفي فتح يائه وقال الشاعر :

غشيت ديار الحي بالبكرات *** فعارمة فبرقة العيرات

قال الأعلم : هنا مواضع الأعيار ، وهي الحمير .

وقرأ عبد الله فيما نقل الزمخشري : وجعل السقاية في رحل أخيه ، أمهلهم حتى انطلقوا ، ثم أذن .

وفي نقل ابن عطية وجعل السقاية بزيادة واو في جعل دون الزيادة التي زادها الزمخشري بعد قوله : في رحل أخيه ، فاحتمل أن تكون الواو زائدة على مذهب الكوفيين ، واحتمل أن يكون جواب لما محذوفاً تقديره : فقدها حافظها كما قيل : إنما أوحى إلى يوسف أن يجعل السقاية فقط ، ثم إن حافظها فقدها ، فنادى برأيه على ما ظهر له ، ورجحه الطبري .

وتفتيش الأوعية يرد هذا القول ، والذي يظهر أنّ تأذين المؤذن كان عن أمر يوسف .

وقال السدي : كان هذا الجعل من غير علم من بنيامين ، وما تقدم يدل على أنه كان بعلم منه .

وقال الجمهور : وابن عمر ، وابن عباس ، والحسن ، ومجاهد ، والضحاك ، وابن زيد : السقاية إناء يشرب به الملك ، وبه كان يكال الطعام للناس .

وقيل : كان يسقى بها الملك ثم جعلت صاعاً يكال به ، وقيل : كانت الدواب تسقى بها ويكال بها .

وقال ابن جبير : الصواع هو مثل المكوك الفارسي ، وكان إناء يوسف الذي يشرب فيه ، وكان إلى الطول ماهر .

قال : وحدثني ابن عباس أنه كان للعباس مثله يشرب به في الجاهلية .

وقال ابن جبير أيضاً : الصواع المكوك الفارسي الذي يلتقي طرفاه .

كانت تشرب به الأعاجم .

والسقاية من فضة أو ذهب أو فضة مموهة بالذهب ، أو نحاس ، أو مسك ، أو كانت مرصعة بالجواهر أقوال أولها للجمهور ، ولعزة الطعام في تلك الأعوام قصر كيله على ذلك الإناء .

ثم أذن مؤذن أي : نادى مناد ، أذن : أعلم .

وآذن أكثر الإعلام ، ومنه المؤذن لكثرة ذلك منه .

وثم تقتضي مهلة بين جعل السقاية والتأذين ، فروي أنه لما فصلت العير بأوقارها وخرجوا من مصر أدركوا وقيل لهم ذلك .

وقيل : قبل الخروج من مصر أمر بهم فحبسوا ، وأذن مؤذن .

والظاهر وقول الجمهور : إن العير الإبل .

وقال مجاهد : كانت دوابهم حميراً ، ومناداة العير والمراد أصحابها كقوله : يا خيل الله اركبي ، ولذلك جاء الخطاب : إنكم لسارقون ، فروعي المحذوف ، ولم يراع العير كما روعي في اركبي .

وفي قوله : والعير التي أقبلنا فيها .

ويجوز أن تطلق العير على القافلة ، أو الرفقة ، فلا يكون من مجاز الحذف : والذي يظهر أن هذا التحيل ، ورمى أبرياء السرقة ، وإدخال الهم على يعقوب ، بوحي من الله .

لما علم تعالى في ذلك من الصلاح ، ولما أراد من محنتهم بذلك .

ويقويه قوله : كذلك كدنا ليوسف .

وقيل : لما كانوا باعوا يوسف استجيز أن يقال لهم هذا ، ونسبة السرقة إليهم جميعاً : وإن كان الصواع إنما وجد في رحل واحد منهم كما تقول : بنو فلان فتلوا فلاناً ، والقاتل واحد منهم .