الجواهر الحسان في تفسير القرآن للثعالبي - الثعالبي  
{قَالَ لَنۡ أُرۡسِلَهُۥ مَعَكُمۡ حَتَّىٰ تُؤۡتُونِ مَوۡثِقٗا مِّنَ ٱللَّهِ لَتَأۡتُنَّنِي بِهِۦٓ إِلَّآ أَن يُحَاطَ بِكُمۡۖ فَلَمَّآ ءَاتَوۡهُ مَوۡثِقَهُمۡ قَالَ ٱللَّهُ عَلَىٰ مَا نَقُولُ وَكِيلٞ} (66)

وقوله تعالى : { فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ } [ يوسف : 66 ] أي لمَّا عاهدوه ، أشْهَدَ اللَّه بينه وبينهم بقوله : { الله على مَا نَقُولُ وَكِيلٌ } ، و«الوكيلُ » : القيِّم الحافظُ الضَّامن .

وقوله : { إِلاَّ أَن يُحَاطَ بِكُمْ } : لفظٌ عامٌّ لجميع وجوه الغَلَبة ، وانظر أنَّ يعقوبَ عليه السلام قد توثَّق في هذه القصَّة ، وأشْهَدَ اللَّه تعالى ، ووصَّى بنيه ، وأخبر بعد ذلك بتوكُّله ، فهذا توكُّل مع سبب ، وهو توكُّل جميعِ المؤمنين إِلا مَنْ شَذَّ في رَفْض السعْي بالكليَّة ، وقَنِعَ بالماء وبَقْلِ البَرِّيَّة ، فتلك غايَةُ التوكُّل ، وعليها بعضُ الأنبياء عليهم السلام ، والشارعُونَ منهم مثبتون سُنَنَ التسبُّب الجائز .

قال الشيخُ العارِفُ باللَّه عَبْدُ اللَّه بْنُ أَبي جَمْرَةَ رضي اللَّه عنه : وقد اشتمل القُرْآنَ على أَحكامٍ عديدةٍ ، فمنها : التعلُّق باللَّه تعالَى ، وتركُ الأسبابِ ، ومنها : عمل الأسبابِ في الظاهِرِ ، وخُلُوُّ الباطن من التعلُّق بها ، وهو أجلُّها وأزكاها ؛ لأن ذلك جَمْعٌ بينَ الحكمَةِ وحقيقة التَّوْحيد ، وذلك لا يكُونُ إِلا للأفذاذِ الذين مَنَّ اللَّه عليهم بالتوْفِيق ؛ ولذلك مَدَحَ اللَّه تعالَى يعقُوبَ عليه الصلاة والسلام في كتابه ، فقال :

{ وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِّمَا عَلَّمْنَاهُ ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ } [ يوسف : 68 ] لأنه عمل الأسباب ، واجتهد في توفيتها ، وهو مقتضَى الحكمةِ ، ثم رَدَّ الأمر كلَّه للَّه تعالى ، واستسلم إِليه ، وهو حقيقةُ التَّوحيد ، فقال : { وَمَا أُغْنِي عَنكُم مِّنَ الله مِن شَيْءٍ إِنِ الحكم إِلاَّ لِلَّهِ } [ يوسف : 67 ] ، فأثنَى اللَّه تعالَى عَلَيْهِ مِنْ أَجْلِ جمعه بَيْن هاتين الحَالَتَيْنِ العظيمتين .