البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{وَٱصۡبِرۡ نَفۡسَكَ مَعَ ٱلَّذِينَ يَدۡعُونَ رَبَّهُم بِٱلۡغَدَوٰةِ وَٱلۡعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجۡهَهُۥۖ وَلَا تَعۡدُ عَيۡنَاكَ عَنۡهُمۡ تُرِيدُ زِينَةَ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَاۖ وَلَا تُطِعۡ مَنۡ أَغۡفَلۡنَا قَلۡبَهُۥ عَن ذِكۡرِنَا وَٱتَّبَعَ هَوَىٰهُ وَكَانَ أَمۡرُهُۥ فُرُطٗا} (28)

قال كفار قريش لو أبعدت هؤلاء عن نفسك لجالسناك وصحبناك ، يعنون عماراً وصهيباً وسلمان وابن مسعود وبلالاً ونحوهم من الفقراء ، وقالوا : إن ريح جبابهم تؤذينا ، فنزلت { واصبر نفسك } الآية ، وعن سلمان أن قائل ذلك عيينة بن حصين والأقرع وذووهم من المؤلفة فنزلت ، فالآية على هذا مدنية والأول أصح لأن السورة مكية ، وفعل المؤلفة فعل قريش فردّ بالآية عليهم { واصبر نفسك } أي احبسها وثبتها .

قال أبو ذؤيب :

فصبرت عارفة لذلك حرة***ترسو إذا نفس الجبان تطلع

وفي الحديث النهي عن صبر الحيوان أي حبسه للرمي ، و { مع } تقتضي الصحبة والموافقة والأمر بالصبر هنا يظهر منه كبير اعتناء بهؤلاء الذين أمر أن يصبر نفسه معهم .

وهي أبلغ من التي في الأنعام { ولا تطرد الذين يدعون } الآية .

وقال ابن عمر ومجاهد وإبراهيم : { بالغداة والعشي } إشارة إلى الصلوات الخمس .

وقال قتادة : إلى صلاة الفجر وصلاة العصر ، وقد يقال : إن ذلك يراد به العموم أي { يدعون ربهم } دائماً ، ويكون مثل : ضرب زيد الظهر والبطن يريد جميع بدنه لا خصوص المدلول بالوضع .

وتقدّم الكلام على قوله { بالغداة والعشي } قراءة وإعراباً في الأنعام .

{ ولا تعد } أي لا تصرف { عيناك } النظر عنهم إلى أبناء الدنيا ، وعدا متعد تقول : عدا فلان طوره وجاء القوم عدا زيداً ، فلذلك قدرنا المفعول محذوفاً ليبقى الفعل على أصله من التعدية .

وقال الزمخشري : وإنما عدَّي بعن لتضمين عدا معنى نبا وعلا في قولك : نبت عنه عينه ، وعلت عنه عينه إذا اقتحمته ولم تعلق به .

فإن قلت : أي غرض في هذا التضمين ؟ وهلا قيل ولا تعدهم عيناك أو { ولا تعد عيناك عنهم } .

قلت : الغرض فيه إعطاء مجموع معنيين .

وذلك أقوى من إعطاء معنى فذ ، ألا ترى كيف رجع المعنى إلى قولك ولا تقتحمهم عيناك مجاوزين إلى غيرهم ونحو قوله { ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم } أي ولا تضموها إليها آكلين لها انتهى .

وما ذكره من التضمين لا ينقاس عند البصريين وإنما يذهب إليه عند الضرورة ، أما إذا أمكن إجراء اللفظ على مدلوله الوضعي فإنه يكون أولى .

وقرأ الحسن : { ولا تعد } من أعدى ، وعنه أيضاً وعن عيسى والأعمش { ولا تعد } .

قال الزمخشري : نقلاً بالهمزة وبنقل الحشو ومنه قوله .

فعد عما ترى إذ لا ارتجاع له . . .

لأن معناه فعد همك عما ترى انتهى .

وكذا قال صاحب اللوامح .

قال : وهذا مما عديته بالتضعيف كما كان في الأولى بالهمز ، وما ذهبا إليه ليس بجيد بل الهمزة والتكثير في هذه الكلمة ليسا للتعدية وإنما ذلك لموافقة أفعل وفعل للفعل المجرد ، وإنما قلنا ذلك لأنه إذا كان مجرداً متعد وقد أقر بذلك الزمخشري فإنه قال : يقال عداه إذا جاوزه ، ثم قال : وإنما عدّي بعن للتضمين والمستعمل في التضمين هو مجاز ولا يتسعون فيه إذا ضمنوه فيعدونه بالهمزة أو التضعيف ، ولو عدِّي بهما وهو متعد لتعدى إلى اثنين وهو في هذه القراءة ناصب مفعولاً واحداً ، فدل على أنه ليس معدى بهما .

وقال الزمخشري : { تريد زينة الحياة الدنيا } في موضع الحال انتهى .

وقال صاحب الحال : إن قدر { عيناك } فكان يكون التركيب تريدان ، وإن قدر الكاف فمجيء الحال من المجرور بالإضافة مثل هذا فيها إشكال لاختلاف العامل في الحال وذي الحال ، وقد أجاز ذلك بعضهم إذا كان المضاف جزءاً أو كالجزء ، وحسن ذلك هنا أن المقصود نهيه عليه الصلاة والسلام عن الإعراض عنهم والميل إلى غيرهم ، وإنما جيء بقوله { عيناك } والمقصود هو لأنهما بهما تكون المراعاة للشخص والتلفت له ، والمعنى { ولا تعد } أنت { عنهم } النظر إلى غيرهم .

وقال الزمخشري : { من أغفلنا قلبه } من جعلنا قلبه غافلاً عن الذكر بالخذلان أو وجدناه غافلاً عنه كقولك : أجبنته وأفحمته وأبحلته إذا وجدته كذلك ، أو من أغفل إبله إذا تركها بغير سمة أي لم نسمه بالذكر ، ولم نجعلهم من الذين كتبنا في قلوبهم الإيمان ، وقد أبطل الله توهم المجبرة بقوله { واتبع هواه } انتهى .

وهذا على مذهب المعتزلة ، والتأويل الآخر تأويل الرماني وكان معتزلياً قال : لم نسمه بما نسم به قلوب المؤمنين بما يبين به ، فلاحهم كما قال : كتب في قلوبهم الإيمان من قولهم بعير غفل لم يكن عليه سمة ، وكتاب غفل لم يكن عليه إعجام ، وأما أهل السنة فيقولون : إن الله تعالى أغفله حقيقة وهو خالق الضلال فيه والغفلة .

وقال المفضل : أخليناه عن الذكر وهو القرآن .

وقال ابن جريج : شغلنا قلبه بالكفر وغلبة الشقاء ، والظاهر أن المراد بمن { أغفلنا } كفار قريش .

وقيل : عيينة والأقرع والأول أولى لأن الآية مكية .

وقرأ عمر بن فائد وموسى الأسواري وعمرو بن عبيد { أغفلنا } بفتح اللام { قلبه } بضم الباء أسند الأفعال إلى القلب .

قال ابن جنيِّ من ظننا غافلين عنه .

وقال الزمخشري : حسبنا قلبه غافلين من أغفلته إذا وجدته غافلاً انتهى .

{ واتبع هواه } في طلب الشهوات { وكان أمره فرطاً } .

قال قتادة ومجاهد : ضياعاً .

وقال مقاتل بن حيان : سرفاً .

وقال الفرّاء : متروكاً .

وقال الأخفش : مجاوزاً للحد .

قيل : وهو قول عتبة إن أسلمنا أسلم الناس .

وقال ابن بحر : الفرط العاجل السريع ، كما قال { وكان الإنسان عجولاً } وقيل : ندماً .

وقيل : باطلاً .

وقال ابن زيد : مخالفاً للحق .

وقال ابن عطية : الفرط يحتمل أن يكون بمعنى التفريط والتضييع ، أي أمره الذي يجب أن يلزم ، ويحتمل أن يكون بمعنى الإفراط والإسراف أي { أمره } و { هواه } الذي هو بسبيله انتهى .