البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{فَكُلِي وَٱشۡرَبِي وَقَرِّي عَيۡنٗاۖ فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ ٱلۡبَشَرِ أَحَدٗا فَقُولِيٓ إِنِّي نَذَرۡتُ لِلرَّحۡمَٰنِ صَوۡمٗا فَلَنۡ أُكَلِّمَ ٱلۡيَوۡمَ إِنسِيّٗا} (26)

قرة العين : مأخوذ من القر ، يقال : دمع الفرح بارد اللمس ودمع الحزن سخن اللمس . وقال أبو تمام :

فأما عيون العاشقين فأسخنت ***  وأما عيون الشامتين فقرت

وقريش تقول : قررت به عيناً ، وقررت بالمكان أقر وأهل نجد قررت به عيناً بالكسر .

وعن ابن زيد قال عيسى لها لا تحزني ، فقالت : كيف لا أحزن وأنت معي لا ذات زوج ولا مملوكة أي شيء عذري عند الناس ؟ { يا ليتني مت قبل هذا } الآية فقال لها عيسى : أنا أكفيك الكلام { فكلي واشربي وقرّي عيناً } .

قال الزمخشري : أي جمعنا لك في السري والرطب فائدتين إحداهما الأكل والشرب ، والثانية سلوة الصدر لكونهما معجزتين وهو معنى قوله { فكلي واشربي وقرّي عيناً } أي وطيبي نفساً ولا تغتمي وارفضي عنك ما أحزنك وأهمك انتهى .

ولما كانت العادة تقديم الأكل على الشرب تقدم في الآية والمجاورة قوله { تساقط عليك رطباً جنياً } ولما كان المحزون قد يأكل ويشرب قال : { وقرّي عيناً } أي لا تحزني ، ثم ألقى إليها ما تقول إن رأت أحداً .

وقرئ { وقري } بكسر القاف وهي لغة نجدية وتقدم ذكرها .

وقرأ أبو عمرو في ما روى عنه ابن رومي ترئن بالإبدال من الياء همزة وروى عنه لترؤن بالهمز أيضاً بدل الواو .

قال ابن خالويه : وهو عند أكثر النحويين لحن .

وقال الزمخشري : وهذا من لغة من يقول لبأت بالحج وحلأت السويق وذلك لتآخ بين الهمزة وحروف اللين في الإبدال انتهى .

وقرأ طلحة وأبو جعفر وشيبة { ترين } بسكون الياء وفتح النون خفيفة .

قال ابن جنيّ : وهي شاذة يعني لأنه لم يؤثر الجازم فيحذف النون .

كما قال الأفوه الأودي :

أما ترى رأسي أزرى به***مأس زمان ذي انتكاس مؤوس

والآمر لها بالأكل والشرب وذلك القول الظاهر أنه ولدها .

وقيل جبريل على الخلاف الذي سبق ، والظاهر أنه أبيح لها أن تقول ما أُمِرَت بقوله وهو قول الجمهور .

وقالت فرقة : معنى { فقولي } أي بالإشارة لا بالكلام وإلاّ فكان التناقض ينافي قولها انتهى .

ولا تناقض لأن المعنى { فلن أكلم اليوم إنسياً } بعد { قولي } هذا وبين الشرط وجزائه جملة محذوفة يدل عليه المعنى ، أي { فإما ترين من البشر أحداً } وسألك أو حاورك الكلام { فقولي } .

وقرأ زيد بن عليّ صياماً وفسر { صوماً } بالإمساك عن الكلام .

وفي مصحف عبد الله صمتاً .

وعن أنس بن مالك مثله .

وقال السدّي وابن زيد : كانت سنة الصيام عندهم الإمساك عن الأكل والكلام انتهى .

والصمت منهي عنه ولا يصح نذره .

وفي الحديث : « مره فليتكلم » وقد أمر ابن مسعود من فعل ذلك بالنطق وأمرت بنذر الصوم لأن عيسى بما يظهر الله عليه يكفيها أمر الاحتجاج ومجادلة السفهاء .

وقوله { إنسياً } لأنها كانت تكلم الملائكة دون الإنس .