البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{قُلۡنَا ٱهۡبِطُواْ مِنۡهَا جَمِيعٗاۖ فَإِمَّا يَأۡتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدٗى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوۡفٌ عَلَيۡهِمۡ وَلَا هُمۡ يَحۡزَنُونَ} (38)

تبع : بمعنى لحق ، وبمعنى تلا ، وبمعنى اقتدى .

والخوف : الفزع ، خاف ، يخاف خوفاً وتخوف تخوفاً ، فزع ، ويتعدى بالهمز وبالتضعيف ، ويكون للأمر المستقبل .

وأصل الحزن : غلظ الهم ، مأخوذ من الحزن : وهو ما غلظ من الأرض ، يقال : حزن يحزن حزناً وحزناً ، ويعدى بالهمزة وبالفتحة ، نحو : شترت عين الرجل ، وشترها الله ، وفي التعدية بالفتحة خلاف ، ويكون للأمر الماضي .

{ قلنا هبطوا } ، كرّر القول ، إما على سبيل التأكيد المحض ، لأن سبب الهبوط كان أول مخالفة ، فكرّر تنبيهاً على ذلك ، أو لاختلاف متعلقيهما ، لأن الأول علق به العداوة ، والثاني علق بإتيان الهدى .

وأما لا على سبيل التأكيد ، بل هما هبوطان حقيقة ، الأول من الجنة إلى السماء ، والثاني من السماء إلى الأرض .

وضعف هذا الوجه بقوله في الهبوط الأول : { ولكم في الأرض مستقر } ، ولم يحصل الاستقرار على هذا التخريج إلا بالهبوط الثاني ، فكان ينبغي الاستقرار أن يذكر فيه وبقوله في الهبوط الثاني منها ، وظاهر الضمير أنه يعود إلى الجنة ، فاقتضى ذلك أن يكون الهبوط الثاني منهما .

{ جميعاً } : حال من الضمير في اهبطوا ، وقد تقدم الكلام في لفظة جميعاً وأنها تقتضي التعميم في الحكم ، لا المقارنة في الزمان عند الكلام على قوله تعالى : { هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً } فهنا يدل على أنهم كلهم خوطبوا بالهبوط ، فقد دلا على اتحاد زمان الهبوط .

وأبعد ابن عطية في قوله : كأنه قال هبوطاً جميعاً ، أو هابطين جميعاً ، فجعله نعتاً لمصدر محذوف ، أو لاسم فاعل محذوف ، كل منهما يدل عليه الفعل .

قال : لأن جميعاً ليس بمصدر ولا اسم فاعل ، مع منافاة ما قدره للحكم الذي صدره ، لأنه قال : أولاً وجميعاً حال من الضمير في اهبطوا .

فإذا كان حالاً من الضمير في اهبطوا على ما قرر أولاً ، فكيف يقدر ثانياً ؟ كأنه قال : هبوطاً جميعاً ، أو هابطين جميعاً .

فكلامه أخيراً يعارض حكمه أولاً ، ولا ينافي كونه ليس بمصدر ولا اسم فاعل وقوعه حالاً حتى يضطر إلى هذا التقدير الذي قدره .

وأبعد غيره أيضاً في زعمه أن التقدير : وقلنا اهبطوا مجتمعين ، فهبطوا جميعاً ، فجعل ثم حالاً محذوفة لدلالة جميعاً عليها ، وعاملاً محذوفاً لدلالة اهبطوا عليه .

ولا يلتئم هذا التقدير مع ما بعده إلا على إضمار قول : أي فقلنا : إما يأتينكم .

وقد تقدم الكلام في المأمورين بالهبوط ، وعلى تقدير أن يكون هبوطاً ثانياً ، فقيل يخص آدم وحواء ، لأن إبليس لا يأتيه هدى ، وخصا بخطاب الجمع تشريفاً لهما .

وقيل : يندرج في الخطاب لأن إبليس مخاطب بالإيمان بالإجماع ، وإن شرطية وما زائدة بعدها للتوكيد ، والنون في يأتينكم نون التوكيد ، وكثر مجيء هذا النحو في القرآن : { فإما ترين } { وإما ينزغنك } { فإما تذهبن } قال أبو العباس المهدوي : إن : هي ، التي للشرط زيدت عليها ما للتأكيد ليصح دخول النون للتوكيد في الفعل ، ولو سقطت ، يعني ما لم تدخل النون ، فما تؤكد أول الكلام ، والنون تؤكد آخره .

وتبعه ابن عطية في هذا فقال : فإن هي للشرط ، دخلت ما عليها مؤكدة ليصح دخول النون المشددة ، فهي بمثابة لام القسم التي تجيء لمجيء النون ، انتهى كلامه .

وهذا الذي ذهبا إليه من أن النون لازمة لفعل الشرط إذا وصلت إن بما ، هو مذهب المبرد والزجاج ، زعما أنها تلزم تشبيهاً بما زيدت للتأكيد في لام اليمين نحو : والله لأخرجن .

وزعموا أن حذف النون إذا زيدت ما بعد إن ضرورة .

وذهب سيبويه والفارسي وجماعة من المتقدمين إلى أن ذلك لا يختص بالضرورة ، وأنه يجوز في الكلام إثباتها وحذفها ، وإن كان الإثبات أحسن .

وكذلك يجوز حذف ما وإثبات النون ، قال سيبويه : في هذه المسألة وإن شئت لم تقحم النون ، كما أنك إن شئت لم تجيء بما ، انتهى كلامه .

وقد كثر السماع بعدم النون بعد إما ، قال الشنفري :

فإما تريني كابنة الرمل ضاحياً *** على رقة أحفى ولا أتنعل

وقال آخر :

يا صاح إما تجدني غير ذي جدة *** فما التخلي عن الإخوان من شيمي

وقال آخر :

زعمت تماضر أنني إما أمت *** تسدد أبينوها الأصاغر خلتي

والقياس يقبله ، لأن ما زيدت حيث لا يمكن دخول النون ، نحو قول الشاعر :

إمّا أقمت وإمّا كنت مرتحلا *** فالله يحفظ ما تبقي وما تذر

فكما جاءت هنا زائدة بعد أن ، فكذلك في نحو : إما تقم يأتينكم ، مبني مفتوح الآخر .

واختلف في هذه الفتحة أهي للبناء ، أم بني على السكون وحرك بالفتحة لالتقاء الساكنين : وقد أوضحنا ذلك في كتابنا المسمى ( بالتكميل لشرح التسهيل ) .

{ مني } : متعلق بيأتينكم ، وهذا شبيه بالالتفات ، لأنه انتقل من الضمير الموضوع للجمع ، أو المعظم نفسه ، إلى الضمير الخاص بالمتكلم المفرد .

وقد ذكرنا حكمة ذاك الضمير في : قلنا ، عند شرح قوله : { وقلنا يا آدم اسكن } وحكمة هذا الانتقال هنا أن الهدى لا يكون إلا منه وحده تعالى ، فناسب الضمير الخاص كونه لا هادي إلا هو تعالى ، فأعطى الخاص الذي لا يشاركه فيه غيره الضمير الخاص الذي لا يحتمل غيره تعالى .

وفي قوله : مني ، إشارة إلى أن الخير كله منه ، ولذلك جاء : { قد جاءكم برهان من ربكم } { وقد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء } فأتى بكلمة : من ، الدالة على الابتداء في الأشياء ، لينبه على أن ذلك صادر منه ومبتدأ من جهته تعالى ، وأتى بأداة الشرط في قوله : { فإما يأتينكم مني هدى } ، وهي تدخل على ما يتردد في وقوعه ، والذي أنبهم زمان وقوعه ، وإتيان الهدى واقع لا محالة ، لأنه أنبهم وقت الإتيان ، أو لأنه آذن ذلك بأن توحيد الله تعالى ليس شرطاً فيه إتيان رسل منه ، ولا إنزال كتب بذلك ، بل لو لم يبعث رسلاً ، ولا أنزل كتباً ، لكان الإيمان به واجباً ، وذلك لما ركب فيهم من العقل ، ونصب لهم من الأدلة ، ومكن لهم من الاستدلال ، كما قال :

وفي كل شيء له آية *** تدل على أنه واحد

قال معناه الزمخشري غير إنشاد الشعر .

{ هدى } : تقدم الكلام على الهدى في قوله : { هدى للمتقين } ونكره لأن المقصود هو المطلق ، ولم يسبق عهد فيه فيعرّف .

والهدى المذكور هنا : الكتب المنزلة ، أو الرسل ، أو البيان ، أو القدرة على الطاعة ، أو محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أقوال .

فمن تبع : الفاء مع ما دخلت عليه جواب لقوله : { فإما يأتينكم } .

وقال السجاوندي : الجواب محذوف تقديره فاتبعوه ، انتهى .

فكأنه على رأيه حذف لدلالة قوله بعده : { فمن تبع هداي } .

وتظافرت نصوص المفسرين والمعربين على أن : من ، في قوله : فمن تبع ، شرطية ، وأن جواب هذا الشرط هو قوله : { فلا خوف } ، فتكون الآية فيها شرطان .

وحكى عن الكسائي أن قوله : { فلا خوف } جواب للشرطين جميعاً ، وقد أتقنا مسألة اجتماع الشرطين في ( كتاب التكميل ) ، ولا يتعين عندي أن تكون من شرطية ، بل يجوز أن تكون موصولة ، بل يترجح ذلك لقوله في قسيمه : { والذين كفروا وكذبوا } ، فأتى به موصولاً ، ويكون قوله : { فلا خوف } جملة في موضع الخبر .

وأما دخول الفاء في الجملة الواقعة خبراً ، فإن الشروط المسوّغة لذلك موجودة هنا .

وفي قوله : { فمن تبع هداي } ، تنزيل الهدى منزلة الإمام المتبع المقتدى به ، فتكون حركات التابع وسكناته موافقة لمتبوعه ، وهو الهدى ، فحينئذ يذهب عنه الخوف والحزن .

وفي إضافة الهدى إليه من تعظيم الهدى ما لا يكون فيه لو كان معرّفاً بالألف واللام ، وإن كان سبيل مثل هذا أن يعود بالألف واللام نحو قوله : { إلى فرعون رسولاً فعصى فرعون الرسول } والإضافة تؤدي معنى الألف واللام من التعريف ، ويزيد على ذلك بمزية التعظيم والتشريف .

وقرأ الأعرج : هداي بسكون الياء ، وفيه الجمع بين ساكنين ، كقراءة من قرأ : ومحياي ، وذلك من إجراء الوصل مجرى الوقف .

وقرأ عاصم الجحدري وعبد الله بن أبي إسحاق وعيسى بن أبي عمر : هديّ ، بقلب الألف ياء وإدغامها في ياء المتكلم ، إذ لم يمكن كسر ما قبل الياء ، لأنه حرف لا يقبل الحركة ، وهي لغة هذيل ، يقلبون ألف المقصور ياء ويدغمونها في ياء المتكلم ، وقال شاعرهم :

سبقوا هويّ وأعنقوا لهواهم *** فتخرموا ولكل قوم مصرع

{ فلا خوف عليهم } : قرأ الجمهور بالرفع والتنوين ، وقرأ الزهري وعيسى الثقفي ويعقوب بالفتح في جميع القرآن ، وقرأ ابن محيصن باختلاف عنه بالرفع من غير تنوين وجه قراءة الجمهور مراعاة الرفع في { ولا هم يحزنون } ، فرفعوا للتعادل .

قال ابن عطية : والرفع على إعمالها إعمال ليس ، ولا يتعين ما قاله ، بل الأولى أن يكون مرفوعاً بالابتداء لوجهين : أحدهما : أن إعمال لا عمل ليس قليل جداً ، ويمكن النزاع في صحته ، وإن صح فيمكن النزاع في اقتياسه .

والثاني : حصول التعادل بينهما ، إذ تكون لا قد دخلت في كلتا الجملتين على مبتدأ ولم تعمل فيهما .

ووجه قراءة الزهري ومن وافقه أن ذلك نص في العموم ، فينفي كل فرد من مدلول الخوف ، وأما الرفع فيجوزه وليس نصاً ، فراعوا ما دل على العموم بالنص دون ما يدل عليه بالظاهر .

وأما قراءة ابن محيصن فخرجها ابن عطية على أنه من إعمال لا عمل ليس ، وأنه حذف التنوين تخفيفاً لكثرة الاستعمال .

وقد ذكرنا ما في إعمال لا عمل ليس ، فالأولى أن يكون مبتدأ ، كما ذكرناه ، إذا كان مرفوعاً منوناً ، وحذف تنوينه كما قال لكثرة الاستعمال ، ويجوز أن يكون عري من التنوين لأنه على نية الألف واللام ، فيكون التقدير : فلا الخوف عليهم ، ويكون مثل ما حكى الأخفش عن العرب : سلام عليكم ، بغير تنوين .

قالوا : يريدون السلام عليكم ، ويكون هذا التخريج أولى ، إذ يحصل التعادل في كون لا دخلت على المعرفة في كلتا الجملتين ، وإذا دخلت على المعارف لم تجر مجرى ليس ، وقد سمع من ذلك بيت للنابغة الجعدي ، وتأوله النحاة وهو :

وحلت سواء القلب لا أنا باغياً *** سواها ولا في حبها متراخيا

وقد لحنوا أبا الطيب في قوله :

فلا الحمد مكسوباً ولا المال باقياً***

وكنى بقوله : { عليهم } عن الاستيلاء والإحاطة ، ونزل المعنى منزلة الجرم ، ونفى كونه معتلياً مستولياً عليهم .

وفي ذلك إشارة لطيفة إلى أن الخوف لا ينتفي بالكلية ، ألا ترى إلى انصباب النفي على كينونة الخوف عليهم ؟ ولا يلزم من كينونة استعلاء الخوف انتفاء الخوف في كل حال ، ولذلك قال بعض المفسرين : ليس في قوله : { فلا خوف عليهم } دليل على نفي أهوال يوم القيامة وخوفها عن المطيعين لما وصفه الله تعالى ورسوله من شدائد القيامة ، إلا أنها مخففة عن المطيعين .

فإذا صاروا إلى رحمته ، فكأنهم لم يخافوا ، وقدم عدم الخوف على عدم الحزن ، لأن انتفاء الخوف فيما هو آت آكد من انتفاء الحزن على ما فات ، ولذلك أبرزت جملته مصدرة بالنكرة التي هي أوغل في باب النفي ، وأبرزت الثانية مصدرة بالمعرفة في قوله : { ولا هم يحزنون } .

وفي قوله : { ولا هم يحزنون } إشارة إلى اختصاصهم بانتفاء الحزن ، وأن غيرهم يحزن ، ولو لم يشر إلى هذا المعنى لكان : ولا يحزنون ، كافياً .

ولذلك أورد نفي الحزن عنهم وإذهابه في قوله : { إن الذين سبقت لهم } إلى قوله : { لا يحزنهم الفزع الأكبر وتتلقاهم الملائكة } ومعلوم أن هذين الخبرين وما قبلهما من الخبر مختص بالذين سبقت لهم من الله الحسنى ، وفي قوله : { الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن } فدل هذا كله على أن غيرهم يحزنه الفزع ، ولا يذهب عنهم الحزن .

وحكى عن المفسرين في تفسير هذه الجملة أقوال : أحدها : لا خوف عليهم فيما يستقبلون من العذاب ولا يحزنون عند الموت .

الثاني : لا يتوقعون مكروهاً في المستقبل ، ولا هم يحزنون لفوات المرغوب في الماضي والحال .

الثالث : لا خوف عليهم فيما يستقبلهم ، ولا هم يحزنون فيما خلفه .

الرابع : لا خوف عليهم فيما بين أيديهم من الآخرة ، ولا هم يحزنون على ما فاتهم من الدنيا .

الخامس : لا خوف عليهم من عقاب ، ولا هم يحزنون على فوات ثواب .

السادس : إن الخوف استشعار غم لفقد مطلوب ، والحزن استشعار غم لفوات محبوب .

السابع : لا خوف عليهم فيما بين أيديهم من الدنيا ، ولا هم يحزنون على ما فاتهم منها .

الثامن : لا خوف عليهم يوم القيامة ، ولا هم يحزنون فيها .

التاسع : أنه أشار إلى أنه يدخلهم الجنة التي هي دار السرور والأمن ، لا خوف عليهم فيها ولا حزن .

العاشر : ما قاله ابن زيد : لا خوف عليهم أمامهم ، فليس شيء أعظم في صدر الذي يموت مما بعد الموت ، فأمنهم الله منه ، ثم سلاهم عن الدنيا ، ولا هم يحزنون على ما خلفوه بعد وفاتهم في الدنيا .

الحادي عشر : لا خوف حين أطبقت النار ، ولا حزن حين ذبح الموت في صورة كبش على الصراط ، فقيل لأهل الجنة والنار : خلود لا موت .

الثاني عشر : لا خوف ولا حزن على الدوام .

وهذه الأقوال كلها متقاربة ، وظاهر الآية عموم نفي الخوف والحزن عنهم ، لكن يخص بما بعد الدنيا ، لأنه في دار الدنيا قد يلحق المؤمن الخوف والحزن ، فلا يمكن حمل الآية على ظاهرها من العموم لذلك . .