تلقى : تفعل من اللقاء ، نحو تعدى من العدو ، قالوا : أو بمعنى استقبل ، ومنه : تلقى فلان فلاناً استقبله .
ويتلقى الوحي : أي يستقبله ويأخذه ويتلقفه ، وخرجنا نتلقى الحجيج : نستقبلهم ، وقال الشماخ :
إذا ما راية رفعت لمجد *** تلقاها عرابة باليمين
وقال القفال : التلقي التعرض للقاء ، ثم يوضع موضع القبول والأخذ ، ومنه وإنك لتلقى القرآن ، تلقيت هذه الكلمة من فلان : أخذتها منه .
الكلمة : اللفظة الموضوعة المعنى ، والكلمة : الكلام ، والكلمة : القصيدة سميت بذلك لاشتمالها على الكلمة والكلام ، ويجمع بحذف التاء فيكون اسم جنس ، نحو : نبقة ونبق .
التوبة : الرجوع ، تاب يتوب توباً وتوبة ومتاباً ، فإذا عدى بعلى ضمن معنى العطف .
{ فتلقى آدم من ربه كلمات } ، تلقى : تفعل من اللقاء ، وهو هنا بمعنى التجرد ، أي لقي آدم ، نحو قولهم : تعداك هذا الأمر ، بمعنى عداك ، وهو أحد المعاني التي جاءت لها تفعل ، وهي سبعة عشر معنى مطاوعة فعل ، نحو : كسرته فتكسر ، والتكلف نحو : تحلم ، والتجنب نحو : تجنب ، والصيرورة نحو : تألم ، والتلبس بالمسمى المشتق منه نحو : تقمص ، والعمل فيه نحو : تسحر ، والاتخاذ نحو : تبنيت الصبي ، ومواصلة العمل في مهلة نحو : تفهم ، وموافقة استفعل نحو : تكبر ، وموافقة المجرد نحو : تعدى الشيء ، أي عداه ، والإغناء عنه نحو : تكلم ، والإغناء عن فعل نحو : توبل ، وموافقة فعل نحو : تولى ، أي ولى ، والختل ، نحو : تعقلته ، والتوقع نحو : تخوفه ، والطلب نحو : تنجز حوائجه ، والتكثير نحو : تعطينا .
ومعنى تلقي الكلمات : أخذها وقبولها ، أو الفهم ، أو الفطانة ، أو الإلهام أو التعلم والعمل بها ، أو الاستغفار والاستقالة من الذنب .
وقول من زعم أن أصله : تلقن ، فأبدلت النون ألفاً ضعيف ، وإن كان المعنى صحيحاً ، لأن ذلك لا يكون إلا مما كان عينه ولامه من جنس واحد نحو : تظني ، وتقضى ، وتسرّى ، أصله : تظنن ، وتقضض ، وتسرر .
وقرأ الجمهور : برفع آدم ونصب الكلمات ، وعكس ابن كثير .
ومعنى تلقي الكلمات لآدم : وصولها إليه ، لأن من تلقاك فقد تلقيته فكأنه قال : فجاءت آدم من ربه كلمات .
وظاهر قوله : كلمات ، أنها جملة مشتملة على كلم ، أو جمل من الكلام قالها آدم ، فلذلك قدروا بعد قوله : كلمات ، جملة محذوفة وهي فقالها فتاب عليه .
واختلفوا في تعيين تلك الكلمات على أقوال ، وقد طولوا بذكرها ، ولم يخبرنا الله بها إلا مبهمة ، ونحن نذكرها كما ذكرها المفسرون ، قال ابن عباس والحسن وابن جبير ومجاهد وابن كعب وعطاء الخراساني والضحاك وعبيد بن عمير وابن زيد : هي { ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا } الآية .
وروي عن ابن مسعود ، أن أحب الكلام إلى الله ما قاله أبونا حين اقترف الخطيئة : «سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدّك ، لا إله إلا أنت ظلمت نفسي فاغفر لي ، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت » .
وسئل بعض السلف عما ينبغي أن يقوله المذنب فقال : يقول ما قاله أبواه : «ربنا ظلمنا أنفسنا رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي » وما قاله يونس : «لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين » .
وروي عن ابن عباس ووهب أنها : «سبحانك اللهم وبحمدك عملت سوءاً وظلمت نفسي ، فاغفر لي إنك خير الغافرين » .
وقال محمد بن كعب هي : «لا إله إلا أنت سبحانك اللهم وبحمدك عملت سوءاً وظلمت نفسي فتب عليّ إنك أنت التوّاب الرحيم » .
وحكى السدّي عن ابن عباس أنه قال : «رب ألم تخلقني بيدك ؟ » قال : بلى ، قال : ألم تنفخ فيّ من روحك ؟ قال : بلى ، قال : ألم تسبق رحمتك غضبك ؟ قال : بلى ، قال : ألم تسكني جنتك ؟ قال : بلى ، قال : رب إن تبت وأصلحت أراجعي إلى الجنة ؟ قال : «نعم » .
وزاد قتادة في هذا : «وسبقت رحمتك إليّ قبل غضبك ؟ قيل له بلى ، قال : رب هل كتبت هذا عليّ قبل أن تخلقني ؟ قيل له : نعم ، فقال : رب إن تبت وأصلحت أراجعي أنت إلى الجنة ؟ قيل له : «نعم » .
وقال قتادة هي : «أستغفرك وأتوب إليك إنك أنت التوّاب الرحيم » .
وقال عبيد بن عمير ، قال : «يا رب خطيئتي التي أخطأتها أشيء كتبته عليّ قبل أن تخلقني ؟ أو شيء ابتدعته من قبل نفسي ؟ قال : بل شيء كتبته عليك قبل أن أخلقك ، قال : «فكما كتبت عليّ فاغفر لي » .
وقيل إنها : «سبحانك اللهم لا إله إلا أنت ظلمت نفسي فاغفر لي إنك أنت الغفور » .
وقيل : رأى مكتوباً على ساق العرش محمد رسول الله ، فتشفع بذلك فهي الكلمات .
وقيل : قوله حين عطس : «الحمد لله » .
وقيل : هي الدعاء والحياء والبكاء .
وقيل : الاستغفار والندم والحزن .
قال ابن عطية : وسماها كلمات ، مجازاً لما هي في خلقها صادرة عن كلمات ، وهي : «كن في كل واحدة منهن » ، وهذا قول يقتضي أن آدم لم يقل شيئاً إلا الاستغفار المعهود .
{ فتاب عليه } : أي تفضل عليه بقبول توبته وأفرده بالإخبار عنه بالتوبة عليه ، وإن كانت زوجته مشاركة له في الأمر بالسكنى والنهي عن قربان الشجرة وتلقي الكلمات والتوبة ، لأنه هو المواجه بالأمر والنهي ، وهي تابعة له في ذلك .
فكملت القصة بذكره وحده ، كما جاء في قصة موسى والخضر ، إذ جاء { حتى إذا ركبا في السفينة } فحملاها بغير نول ، وكان مع موسى يوشع ، لكنه كان تابعاً لموسى فلم يذكره ولم يجمع معهما في الضمير ، أو اكتفى بذكر أحدهما ، إذ كان فعلهما واحداً ، نحو قوله تعالى : { والله ورسوله أحق أن يرضوه } { فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى } أو طوى ذكرها كما طواه عند ذكر المعصية في قوله : { وعصى آدم ربه فغوى }
وقد جاء طي ذكر النساء في أكثر القرآن والسنة ، وقد ذكرها في قوله : { قالا ربنا ظلمنا أنفسنا } وإنما لم يراع هذا الستر في امرأتي نوح ولوط لأنهما كانتا كافرتين ، وقد ضرب بهما المثل للكفار ، لأن ذنوبهما كانت غاية في القبح والفحش .
والكافر لا يناسب الستر عليه ولا الإغضاء عن ذنبه ، بل ينادى عليه ليكون ذلك أخزى له وأحط لدرجته .
وحوّاء ليست كذلك ، ولأن معصيتهما تكرّرت واستمرّ منهما الكفر والإصرار على ذلك ، والتوبة متعذرة لما سبق في علم الله أنهما لا يتوبان ، وليست حوّاء كذلك لخفة ما وقع منها ، أو لرجوعها إلى ربها ، ولأن التبكيت للمذنب شرع رجاء الإقلاع ، وهذا المعنى معقود فيهما ، وذكرهما بالإضافة إلى زوجيهما فيه من الشهرة ما لا يكون في ذكر اسميهما غير مضافين إليهما .
وتوبة العبد : رجوعه عن المعصية ، وتوبة الله على العبد : رجوعه عليه بالقبول والرحمة .
واختلف في التوبة المطلوبة من العبد ، فقال قوم : هي الندم ، أخذاً بظاهر قوله صلى الله عليه وسلم : « الندم توبة » وقال قوم : شروطها ثلاثة : الندم على ما فات ، والإقلاع عنه ، والعزم على أن لا يعود .
وتأولوا : الندم توبة على معظم التوبة نحو : الحج عرفة ، وزاد بعضهم في الشروط ، يرد المظالم إذا قدر على ردها ، وزاد بعضهم : المطعم الحلال ، وقال القفال : لا بد مع تلك الشروط الثلاثة من الإشفاق فيما بين ذلك ، وذلك أنه مأمور بالتوبة ، ولا سبيل له إلى القطع بأنه أتى بها كما لزمه ، فيكون خائفاً .
ولهذا جاء يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه .
روي عن ابن عباس أن آدم وحوّاء بكيا على ما فاتهما من نعيم الجنة مائتي سنة .
وقد ذكروا في كثرة دموع آدم وداود شيئاً يفوت الحصر كثرة .
وقال شهر بن حوشب : بلغني أن آدم لما أهبط إلى الأرض مكث ثلاثمائة سنة لا يرفع رأسه حياء من الله تعالى .
وروي أن الله تعالى تاب على آدم في يوم عاشوراء .
وقرأ الجمهور { إنه } : بكسر الهمزة ، وقرأ نوفل بن أبي عقرب : أنه بفتح الهمزة ، ووجهه أنه فتح على التعليل ، التقدير : لأنه ، فالمفتوحة مع ما بعدها فضلة ، إذ هي في تقدير مفرد ثابت واقع مفروغ من ثبوته لا يمكن فيه نزاع منازع ، وأما الكسر فهي جملة ثابتة تامة أخرجت مخرج الإخبار المستقل الثابت ، ومع ذلك فلها ربط معنوي بما قبلها ، كما جاءت في :
{ وما أبرئ نفسي إن النفس لأمَّارة } { اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم } { وصلّ عليهم إن صلاتك } ، حتى لو وضعت الفاء التي تعطي الربط مكانها أغنت عنها ، وقالوا : إن ( إن ) إنما تجيء لتثبيت ما يتردد المخاطب في ثبوته ونفيه ، فإن قطع بأحد الأمرين ، فليس من مظانها ، فإن وجدت داخلة على ما قطع فيه بأحد الأمرين ظاهراً ، فيكون ذلك لتنزيله منزلة المتردد فيه لأمر ما ، وسيأتي الكلام على ذلك في نحو : { ثم إنكم بعد ذلك لميتون } إن شاء الله .
ولما دخلت للتأكيد في قوله : { إنه هو التواب الرحيم } ، قوي التأكيد بتأكيد آخر ، وهو لفظه : { هو } .
وقد ذكرنا فائدته في قوله : { وأولئك هم المفلحون } وبولغ أيضاً في الصفتين بعده ، فجاء التواب : على وزن فعال ، والرحيم : على وزن فعيل ، وهما من الأمثلة التي صيغت للمبالغة .
وهذا كله ترغيب من الله تعالى للعبد في التوبة والرّجوع إلى الطاعة ، واطماع في عفوه تعالى وإحسانه لمن تاب إليه .
والتواب من أسمائه تعالى ، وهو الكثير القبول لتوبة العبد ، أو الكثير الإعانة عليها .
وقد ورد هذا الاسم في كتاب الله معرفاً ومنكراً ، ووصف به تعالى نفسه ، فدل ذلك على أنه مما استأثر به تعالى .
وذهب بعضهم إلى أنه تعالى لا يوصف به إلا تجوزاً ، وأجمعوا أنه لا يوصف تعالى بتائب ولا آيب ولا رجاع ولا منيب ، وفرق بين إطلاقه على الله تعالى وعلى العبد ، وذلك لاختلاف صلتيهما .
ألا ترى : فتاب عليه ، وتوبوا إلى الله ؟ فالتوبة من الله على العبد هي العطف والتفضل عليه ، ومن العبد هي الرّجوع إلى طاعته تعالى ، لطلب ثواب ، أو خشية عقاب ، أو رفع درجات .
وأعقب الصفة الأولى بصفة الرحمة ، لأن قبول التوبة سببه رحمة الله لعبده ، وتقدم التواب لمناسبة فتاب عليه ، ولحسن ختم الفاصلة بقوله : { الرّحيم } .
وقد تقدم الكلام في البسملة على لفظة الرحيم وما يتعلق بها ، فأغنى ذلك عن إعادته .