القوم : اسم جمع لا واحد له من لفظه ، وإنما واحده امرؤ ، وقياسه أن لا يجمع ، وشذ جمعه ، قالوا : أقوام ، وجمع جمعه قالوا : أقاويم فقيل يختص بالرجال .
قال تعالى : { لا يسخر قوم من قوم } ، ولذلك قابله بقوله : { ولا نساء من نساء } وقال زهير :
قومي هم قتلوا أميم أخي *** فإذا رميت يصيبني سهمي
لا يبعدن قومي الذين هم *** سم العداة وآفة الجزر
وقيل : لا يختص بالرجال بل ينطلق على الرجال والنساء : { إنا أرسلنا نوحاً إلى قومه } { ويا قوم ما لي أدعوكم إلى النجاة } كان كل نبي يبعث إلى قومه خاصة ، قال هذا القائل : أما إذا قامت قرينة على التخصيص فيبطل العموم ويكون المراد ذلك الشيء المخصص .
والقول الأول أصوب ، ويكون اندراج النساء في القوم على سبيل الاستتباع وتغليب الرجال ، والمجاز خير من الاشتراك .
وسمي الرجال قوماً لأنهم يقومون بالأمور .
البارئ : الخالق ، برأ يبرأ : خلق ، وفي الجمع بين الخالق والبارئ في قوله : { هو الله خالق البارئ المصور } ما يدل على التباين ، إلا أن حمل على التوكيد .
وقد فرق بعض الناس بينهما ، فقال : البارئ هو المبدع المحدث ، والخالق هو المقدر الناقل من حال إلى حال .
وقال بعض العلماء : برأ وأنشأ وأبدع نظائر .
قال المهدوي وغيره : واللفظ له ، وأصله من تبرى الشيء من الشيء ، وهو انفصاله منه ، فالخلق قد فصلوا من العدم إلى الوجود ، انتهى .
وقال أميّة الخالق البارئ المصور في الأرحام ماء حتى يصير دماً .
القتل : إزهاق الروح بفعل أحد ، من طعن أو ضرب أو ذبح أو خنق أو ما شابه ذلك ، وأما إذا كان من غير فعل فهو موت هلاك ، والمقتل : المذلل ، وقال امرؤ القيس :
خير : هي أفعل التفضيل ، حذفت همزتها شذوذاً في الكلام فنقص بناؤها فانصرفت ، كما حذفوها شذوذاً في الشعر من أحب للتي للتفضيل ، وقال الأحوص :
وزادني كلفاً بالحب أن منعت *** وحب شيء إلى الإنسان ما منعا
وقد نطقوا بالهمزة في الشعر ، قال الشاعر :
وتأتي خير أيضاً لا ، بمعنى التفضيل ، تقول : في زيد خير ، تريد بذلك خصلة جميلة ، ومخففاً من خير : رجل خير ، أي فيه خير ، ويمكن أن يكون من ذلك : { فيهنّ خيرات حسان } .
{ وإذ قال موسى لقومه يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم } : عدّ صاحب المنتخب هذا إنعاماً خامساً ، وقيل : هذه الآية وما بعدها منقطعة مما تقدم من التذكير بالنعم ، وذلك لأنه أمر بالقتل ، والقتل لا يكون نعمة ، وضعف بأن من أعظم النعم التنبيه على ما به يتخلصون من عقاب الذنب العظيم ، وذلك هو التوبة .
وإذا كان قد عدّد عليهم النعم الدنيوية ، فلأن يعدد عليهم النعم الدينية أولى .
ولما لم يكمل وصف هذه النعمة إلا بمقدمة ما تسببت عنه ، قدم ذكر ذلك ، وهذا الخطاب هو محاورة موسى لقومه حين رجع من الميقات ووجدهم قد عبدوا العجل .
واللام في قوله : لقومه ، للتبليغ ، وإقبال موسى عليه بالنداء ، ونداؤه بلفظ يا قوم ، مشعر بالتحنن عليهم ، وأنه منهم ، وهم منه ، ولذلك أضافهم إلى نفسه ، كما يقول الرجل : يا أخي ، ويا صديقي ، فيكون ذلك سبباً لقبول ما يلقى إليه ، بخلاف أن لو ناداه باسمه ، أو بالوصف القبيح الصادر منه .
وفي ذلك أيضاً هزلهم لقبولهم الأمر بالتوبة ، بعد تقريعهم بأنهم ظلموا أنفسهم ، وأي ظلم أعظم من اتخاذ إله غيره { إن الشرك لظلم عظيم } ونص على أنهم ظلموا أنفسهم بذلك لأنه أفحش الظلم ، لأن نفس الإنسان أحب شيء إليه ، فإذا ظلمها ، كان ذلك أفحش من أن يظلم غيره .
ويا قوم : منادى مضاف إلى ياء المتكلم ، وقد حذفت واجتزى بالكسرة عنها ، وهذه اللغة أكثر ما في القرآن .
وقد جاء إثباتها كقراءة من قرأ : يا عبادي فاتقون ، بإثبات الياء ساكنة ، ويجوز فتحها ، فتقول : يا غلامي ، وفتح ما قبلها وقلب الياء ألفاً ، فتقول : يا غلاماً .
وأجاز الأخفش حذف الألف والاجتزاء بالفتحة عنها ، فتقول : يا غلام ، وأجازوا ضمه وهو على نية الإضافة فتقول : يا غلام ، تريد : يا غلامي .
وعلى ذلك قراءة من قرأ : قل { ربّ احكم بالحق } { قال ربّ السجن أحب إليّ } هكذا أطلقوا ، وفصل بعضهم بين أن يكون فعلاً أو اسماً ، إن كان فعلاً فلا يجوز بناؤه على الضم ، ومثل الفعل بمثل : يا ضاربي ، فلا يجيز في هذا يا ضارب ، وظاهر الخطاب اختصاصه بمتخذي العجل .
وقيل : يجوز أن يراد به : من عبد ومن لم يعبد جعلوا ظالمين ، لكونهم لم يمنعوهم ولم يقاتلوهم .
والباء في { باتخاذكم العجل } سببية ، واحتمال الوجهين السابقين في قوله : { ثم اتخذتم العجل } جاء هنا ، أي بعملكم العجل وعبادته ، أو { باتخاذكم العجل إلهاً } .
قال السلمي : عجل كل واحد نفسه ، فمن أسقط مراده وخالف هواه فقد برىء من ظلمه .
{ فتوبوا إلى بارئكم } الفاء في فتوبوا معها التسبيب ، لأن الظلم سبب للتوبة ، ولما كان السامريّ قد عمل لهم من حليهم عجلاً ، قيل لهم : توبوا إلى بارئكم ، أي منشئكم وموجدكم من العدم ، إذ موجد الأعيان هو الموجد حقيقة .
وأما عمل العجل واتخاذه فليس فيه إبراز الذواب من العدم ، إنما ذلك تأليف تركيبي لا خلق أعيان ، فنبهوا بلفظ الباري على الصانع ، أي الذي أوجدكم هو المستحق للعبادة ، لا الذي صنعه ، مصنوع مثله ، فلذلك ، والله أعلم ، كان ذكر الباري هنا .
وقرأ الجمهور : بظهور حركة الإعراب في بارئكم ، وروي عن أبي عمرو : الاختلاس ، روي ذلك عنه سيبويه ، وروى عنه : الإسكان ، وذلك إجراء للمنفصل من كلمتين مجرى المتصل من كلمة ، فإنه يجوز تسكين مثل إبل ، فأجرى المكسوران في بارئكم مجرى إبل ، ومنع المبرد التسكين في حركة الإعراب ، وزعم أن قراءة أبي عمرو لحن ، وما ذهب إليه ليس بشيء ، لأن أبا عمرو لم يقرأ إلا بأثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ولغة العرب توافقه على ذلك ، فإنكار المبرد لذلك منكر ، وقال الشاعر :
فاليوم أشرب غير مستحقب *** إثماً من الله ولا واغل
رحت وفي رجليك ما فيهما *** وقد بداهنك من المئزر
أو نهر تيرى فما تعرفكم العرب***
وقد خلط المفسرون هنا في الردّ على أبي العباس ، فأنشدوا ما يدل على التسكين مما ليست حركته حركة إعراب .
قال الفارسي : أما حركة البناء فلم يختلف النحاة في جواز تسكينها ، ومما يدل على صحة قراءة أبي عمر وما حكاه أبو زيد من قوله تعالى : { ورسلنا لديهم يكتبون } وقراءة مسلمة ابن محارب : { وبعولتهنّ أحقّ بردّهن في ذلك } وذكر أبو عمرو : أن لغة تميم تسكين المرفوع من يعلمه ونحوه ، ومثل تسكين بارئكم ، قراءة حمزة ، { ومكر السيئ } وقرأ الزهريّ : باريكم ، بكسر الياء من غير همز ، وروي ذلك عن نافع .
ولهذه القراءة تخريجان أحدهما : أن الأصل الهمزة ، وأنه من برأ ، فخففت الهمزة بالإبدال المحض على غير قياس ، إذ قياس هذا التخفيف جعلها بين بين .
والثاني : أن يكون الأصل باريكم ، بالياء من غير همز ، ويكون مأخوذاً من قولهم : بريت القلم ، إذا أصلحته ، أو من البري : وهو التراب ، ثم حرك حرف العلة ، وإن كان قياسه تقديراً لحركة في مثل هذا رفعاً وجراً ، وقال الشاعر :
ويوماً توافينا الهوى غير ماضي***
خبيث الثرى كأبي الأزيد *** وهذا كله تعليل شذوذ .
وقد ذكر الزمخشري في اختصاص ذكر البارئ هنا كلاماً حسناً هذا نصه .
فإن قلت : من أين اختص هذا الموضع بذكر البارئ ؟ قلت : البارئ هو الذي خلق الخلق بريئاً من التفاوت ، { ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت } ومتميزاً بعضه من بعض بالأشكال المختلفة والصور المتباينة ، فكان فيه تقريع بما كان منهم من ترك عبادة العالم الحكيم الذي برأهم بلطيف حكمته على الأشكال المختلفة ، أبرياء من التفاوت والتنافر إلى عبادة البقر التي هي مثل في الغباوة والبلادة .
في أمثال العرب : أبلد من ثور ، حتى عرضوا أنفسهم لسخط الله ونزول أمره بأن يفك ما ركبه من خلقهم وينثر ما نظم من صورهم وأشكالهم حين لم يشكروا النعمة في ذلك وغبطوها بعبادة من لا يقدر على شيء منها ، انتهى كلامه .
{ فاقتلوا أنفسكم } : ظاهر هذا أنه القتل المعروف من إزهاق الروح .
فظاهره أنهم يباشرون قتل أنفسهم .
والأمر بالقتل من موسى على نبينا وعليه السلام لا يكون إلا بوحي من الله تعالى ، إما بكونه كانت التوراة في شريعته متقررة بقتل النفس ، وإما بكونه أمر ذلك بأمر متجدد عقوبة لهؤلاء الذين عبدوا العجل ، والمأمور بقتل أنفسهم عبّاد العجل ، أو من عبد ومن لم يعبد .
والمعنى : اقتلوا الذين عبدوا العجل من أهلكم ، كقوله : { لقد جاءكم رسول من أنفسكم } أي من أهلكم وجلدتكم ، أو الجميع مأمورون بقتل أنفسهم ، ثلاثة أقوال .
وقال ابن إسحاق : أمروا بأن يستسلموا للقتل ، وسمي الاستسلام للتقل قتلاً على سبيل المجاز .
وقيل : معنى فاقتلوا أنفسكم : ذللوا أهواءكم .
وقد قدمنا أن التقتيل بمعنى التذليل ، ومنه أيضاً قول حسان :
إن التي عاطيتني فرددتها *** قتلت قتلت فهاتها لم تقتل
فتلخص في قوله : { فاقتلوا } ، ثلاثة أقوال : الأول : الأمر بقتل أنفسهم .
والأول هو الظاهر ، وهو الذي نقله أكثر الناس .
وظاهر الكلام أنهم هم المأمورون بقتل أنفسهم ، فقيل : وقع القتل هكذا قتلوا أنفسهم بأيديهم .
وقيل : قتل بعضهم بعضاً من غير تعيين قاتل ولا مقتول .
وقيل : القاتلون هم الذين اعتزلوا مع هارون ، والمقتولون عباد العجل .
وقيل : القاتلون هم الذين كانوا مع موسى في المناجاة بطور سيناء ، والمقتولون من عداهم .
وإذا قلنا : إن بعضهم قتل بعضاً ، فاختلفوا في كيفية القتل ، فقيل : اصطفوا صفين ، فاجتلدوا بالسيوف والخناجر ، فقتل بعضهم بعضاً حتى قيل لهم : كفوا ، فكان ذلك شهادة للمقتول ، وتوبة للقاتل ، وقيل : أرسل الله عليهم ظلاماً ففعلوا ذلك .
وقيل : وقف عباد العجل صفاً ، ودخل الذين لم يعبدوه عليهم بالسلاح فقتلوهم .
وقيل : احتبى عباد العجل في أفنية دورهم ، أو في موضع غيره ، وخرج عليهم يوشع بن نون وهم محتبون فقال : ملعون من حل حبوته ، أو مد طرفه إلى قاتله ، أو اتقاه بيد أو رجل ، فيقولون : آمين .
فما حل أحد منهم حبوته حتى قتل منهم سبعون ألفاً .
وفي رواية ، قال لهم : من حل حبوته لم تقبل توبته ، ولم يذكر اللعنة .
وقيل : إن الرجل كان يبصر ولده ووالده وجاره وقريبه ، فلم يمكنهم المضي لأمر الله ، فأرسل الله ضبابة وسحابة سوداء لا يتباصرون تحتها ، وأمروا أن يحتبوا بأفنية بيوتهم ، ويأخذ الذين لم يعبدوا العجل سيوفهم ، وقيل لهم : أصبروا ، فلعن الله من مد طرفه ، أو حل حبوته ، أو اتقى بيد أو رجل ، فيقولون : آمين ، فقتلوهم إلى المساء ، حتى دعا موسى وهارون ، قالا : يا رب ! هلكت بنو إسرائيل البقية البقية ، فكشفت السحابة ونزلت التوبة ، فسقطت الشفار من أيديهم ، وكانت القتلى سبعين ألفاً .
انتهى ما نقلناه من بعض ما أورده المفسرون في كيفية القتل وفي القاتلين والمقتولين .
وفي ذلك من الاتعاظ والاعتبار ما يوجب مبادرة الازدجار عن مخالفة الملك القهار .
وانظر إلى لطف الله بهذه الملة المحمدية ، إذ جعل توبتها في الإقلاع عن الذنب ، والندم عليه ، والعزم على عدم المعاودة إليه .
والفاء في قوله : { فاقتلوا أنفسكم } ، إن قلنا : إن التوبة هي نفس القتل ، وأن الله تعالى جعل توبتهم قتل أنفسهم ، فتكون هذه الجملة بدلاً من قوله ، فتوبوا ، والفاء كهي في فتوبوا معها السببية .
وإن قلنا : إن القتل هو تمام توبتهم ، فتكون الفاء للتعقيب ، والمعنى فأتبعوا التوبة القتل ، تتمة لتوبتكم .
وقد أنكر في المنتخب كون القتل يكون توبة وجعل القتل شرطاً في التوبة ، فأطلق عليه مجازاً ، كما يقال للغاصب إذا قصد التوبة : توبتك رد ما غصبت ، يعني أنه لا تتم توبتك إلا به ، فكذلك هنا .
وتعدية التوبة بإلى معناه الانتهاء بها إلى الله ، فتكون بريئة من الرياء في التوبة ، لأنهم إن راءوا بها لم تكن إلى الله .
ولا يلتفت إلى ما وقع في المنتخب من أن المفسرين أجمعوا على أنهم ما قتلوا أنفسهم بأيديهم ، إذ قد نقلنا أن منهم من قال ذلك ، فليس بإجماع .
وأما منع عبد الجبار ذلك من جهة العقل ، بأن القتل هو نقض البنية التي عنده ، يجب أن يخرج من أن يكون حياً ، وما عدا ذلك إنما يسمى قتيلاً على سبيل المجاز ، قال : وهذا لا يجوز أن يأمر الله به ، لأن العبادات الشرعية إنما تحسن لكونها مصالح لذلك المكلف ، ولا يكون مصلحة إلا في الأمور المستقبلة ، وليس بعد القتل حال تكليف حتى يكون القتل مصلحة فيه ، وهذا بخلاف ما يفعله الله من الإماتة ، لأن ذلك من فعل الله تعالى ، فيحسن أن يفعله إذا كان صلاحاً لمكلف آخر ، وبخلاف أن يأمر الله بأن يجرح نفسه أو يقطع عضواً من أعضائه ، ولا يحصل الموت عقيبه ، لأنه لما بقي بعد ذلك الفعل حياً لم يمتنع أن يكون ذلك الفعل صلاحاً في الأفعال المستقبلة .
انتهى كلامه ، وهو مبني على قاعدتهم في الاعتزال من مراعاة المصلحة .
والكلام معهم في ذلك مذكور في أصول الدين ، مع أنه يمكن أن يقال هنا بالمصلحة ، لأن الأمر بالقتل ليس إلا من باب الزواجر والروادع ، وليس من شرط ذلك اعتبار حال المكلف ، بل يصنع الزواجر لازدجار غيره .
وإذا فعل مثل هذا الفعل العظيم الذي هو القتل بمن عبد العجل ، اتعظ به غيره وانكف عن الوقوع فيما لا يكون التوبة منه إلا بالقتل .
وقرأ قتادة فيما نقل المهدوي وابن عطية والتبريزي وغيرهم : فأقيلوا أنفسكم وقال الثعلبي : قرأ قتادة : فاقتلوا أنفسكم .
فأما فأقيلوا ، فهو أمر من الإقالة ، وكأنّ المعنى : أن أنفسكم قد تورطت في عذاب الله بهذا الفعل العظيم الذي تعاطيتموه من عبادة العجل ، وقد هلكت فأقيلوها بالتوبة والتزام الطاعة ، وأزيلوا آثار تلك المعاصي بإظهار الطاعات .
وأما فاقتالوا أنفسكم ، فقالوا : هو افتعل بمعنى استفعل ، أي فاستقيلوها ، والمشهور استقال لا اقتال .
قال ابن جني : يضعف أن يكون عينها واواً كاقتادوا ، ويحتمل طأن تكون ياء كأقياس ، والتصريف يضعف أن يكون من الاستقالة ، كما قال ابن جني ، فهذه اللفظة لا شك مسموعة بدليل نقل قتادة لها ويكون مما جاءت فيه افتعل بمعنى استفعل ، وهو أحد المعاني التي جاءت لها افتعل ، وذلك نحو : اعتصم واستعصم .
قال السلميّ : فتوبوا إلى بارئكم .
ارجعوا إليه بأسراركم وقلوبكم ، فاقتلوا أنفسكم بالتبري منها ، فإنها لا تصلح لبساط الإنس .
وقال الواسطي : كانت توبة بني إسرائيل قتل أنفسهم ، ولهذه إلامة أشد ، وهو إفناء نفوسهم عن مرادها مع بقاء رسوم الهياكل .
وقال فارس : التوبة محو البشرية بمباينات الإلهية .
وقيل : توبوا إليه من أفعالكم وأقوالكم وطاعاتكم ، واقتلوا أنفسكم في طاعاته ، وقتل النفس عما دون الله وعن الله بالفراغ من طلب الجزاء حتى ترجع إلى أصل العدم ، ويبقى الحق كما لم يزل .
وقال بعض أهل اللطائف : التوبة بقتل النفس غير منسوخة ، لأن بني إسرائيل كان لهم قتل أنفسهم جهراً ، وهذه إلامة قتل أنفسهم في أنفسهم ، وأول قدم في القصد إلى الله الخروج عن النفس توهم الناس أن توبة بني إسرائيل كانت أشق ، ولا كما توهموا ، فإن ذلك كان مقاساة القتل مرة ، وأما أهل الخصوص ففي كل لحظة قتل ، قال الشاعر :
ليس من مات فاستراح بميت *** إنما الميت ميت الأحياء
{ ذلكم } : إشارة إلى المصدر المفهوم من قوله : فاقتلوا ، لأنه أقرب مذكور ، أي القتل : { خير لكم } وقال بعضهم : هو إشارة إلى المصدرين المفهومين من قوله : فتوبوا واقتلوا ، فأوقع المفرد موقع التثنية ، أي فالتوبة والقتل خير لكم ، فيكون مثل قولهم في قوله تعالى : { عوان بين ذلك } أي بين ذينك أي الفارض والبكر ، وكذلك قوله :
إن للخير وللشر مدى *** وكلا ذلك وجه وقبل
أي : وكلا ذينك ، وهذا ينبني على ما قدمناه من أن قوله : فاقتلوا ، هل هو تفسير للتوبة ؟ فتكون التوبة هي القتل .
فينبغي أن يكون ذلكم مفرداً أشير به إلى مفرد ، وهو القتل ، أو يكون القتل مغايراً للتوبة ، فيتحتمل هذا الذي قاله هذه القائل ، ولكن الأرجح خير ، إن كانت للتفضيل فقيل : المعنى خير من العصيان والأصرار على الذنب .
وقيل : خير من ثمرة العصيان ، وهو الهلاك الذي لهم ، إذ الهلاك المتناهي خبر من الهلاك غير المتناهي ، إذ الموت لا بد منه ، فليس فيه إلا التقديم والتأخير .
وكلا هذين التوجيهين ليس التفضيل على بابه ، إذ العصيان والهلاك غير المتناهي لا خير فيه ، فيوصف غيره بأنه أزيد في الخيرية عليه ، ولكن يكون على حد قولهم : العسل أحلى من الخل .
ويحتمل أن لا يكون للتفضيل بل أريد به خير من الخيور .
لكم : متعلق بخير إن كان للتفضيل ، وإن كانت على أنها خير من الخيور فيتعلق بمحذوف ، أي خير كائن لكم .
والتخريجان يجريان في نصب قوله : { عند بارئكم } .
والعندية هنا مجاز ، إذ هي ظرف مكان وتجوّز به عن معنى حصول ثوابهم من الله تعالى .
وكرر البارئ باللفظ الظاهر توكيداً ، ولأنها جملة مستقلة فناسب الإظهار ، وللتنبيه على أن هذا الفعل هو راجح عند الذي أنشأكم ، فكما رأى أن إنشاءكم راجح ، رأى أن إعدامكم بهذا الطريق من القتل راجح ، فينبغي التسليم له في كل حال ، وتلقي ما يرد من قبله بالقبول والامتثال .
{ فتاب عليكم } : ظاهره أنه إخبار من الله تعالى بالتوبة عليهم ، ولا بد من تقدير محذوف عطفت عليه هذه الجملة ، أي فامتثلتم ذلك فتاب عليكم .
وتكون هاتان الجملتان مندرجتين تحت الإضافة إلى الظرف الذي هو : إذ في قوله : { وإذ قال موسى لقومه } .
وأجاز الزمخشري أن يكون مندرجاً تحت قول موسى على تقدير شرط محذوف ، كأنه قال : فإن فعلتم فقد تاب عليكم ، فتكون الفاء إذ ذاك رابطة لجملة الجزاء بجملة الشرط المحذوفة ، هي وحرف الشرط ، وما ذهب إليه الزمخشري لا يجوز ، وذلك أن الجواب يجوز حذفه كثيراً للدليل عليه .
وأما فعل الشرط وحده دون الأداة فيجوز حذفه إذا كان منفياً بلا في الكلام الفصيح ، نحو قوله :
فطلقها فلست لها بكفؤ *** وإن لا يعل مفرقك الحسام
التقدير : وأن لا تطلقها يعل ، فإن كان غير منفي بلا ، فلا يجوز ذلك إلا في ضرورة ، نحو قوله :
سقته الرواعد من صيف وإن *** من خريف فلن يعدما
التقدير : وإن سقته من خريف فلن يعدم الري ، وذلك على أحد التخريجين في البيت ، وكذلك حذف فعل الشرط وفعل الجواب دون أن يجوز في الضرورة ، نحو قوله :
قالت بنات العمّ يا سلمى وإن *** كان عيياً معدماً قالت وإن
التقدير : وإن كان عيياً معدماً أتزوجه .
وأما حذف فعل الشرط وأداة الشرط معاً ، وإبقاء الجواب ، فلا يجوز إذا لم يثبت ذلك من كلام العرب .
وأما جزم الفعل بعد الأمر والنهي وأخواتهما فله .
ولتعليل ما ذكرنا من الأحكام مكان آخر يذكر في علم النحو .
وظاهر قوله : { فتاب عليكم } أنه كما قلنا : إخبار عن المأمورين بالقتل الممتثلين ذلك .
وقال ابن عطية : معناه على الباقين ، وجعل الله القتل لمن قتل شهادة ، وتاب على الباقين وعفا عنهم ، انتهى كلامه .
{ إنه هو التواب الرحيم } : تقدم الكلام على هذه الجملة عند قوله تعالى في قصة آدم : { فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم } فأغنى ذلك عن إعادته هنا .