البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{وَإِذۡ قُلۡنَا ٱدۡخُلُواْ هَٰذِهِ ٱلۡقَرۡيَةَ فَكُلُواْ مِنۡهَا حَيۡثُ شِئۡتُمۡ رَغَدٗا وَٱدۡخُلُواْ ٱلۡبَابَ سُجَّدٗا وَقُولُواْ حِطَّةٞ نَّغۡفِرۡ لَكُمۡ خَطَٰيَٰكُمۡۚ وَسَنَزِيدُ ٱلۡمُحۡسِنِينَ} (58)

الدخول : معروف ، وفعلة : دخل يدخل ، وهو مما جاء على يفعل بضم العين .

وكان القياس فيه أن يفتح ، لأن وسطه حرف حلق ، كما جاء الكسر في ينزع وقياسه أيضاً الفتح .

القرية : المدينة ، من قريت : أي جمعت .

سميت بذلك لأنها مجتمع الناس على طريق المساكنة .

وقيل : إن قلوا قيل لها قرية ، وإن كثروا قيل لها مدينة .

وقيل : أقل العدد الذي تسمى به قرية ثلاثة فما فوقها ، ومنه ، قريت الماء في الحوض ، والمقراة : الحوض ، ومنه القرى : وهو الضيافة ، والقرى : المجرى ، والقرى : الظهر .

ولغة أهل اليمن : القرية ، بكسر القاف ، ويجمعونها على قِرى بكسر القاف نحو : رشوة ورشا .

وأما قرية بالفتح فجمت على قرى بضم القاف ، وهو جمع على غير قياس .

قيل : ولم يسمع من فعله المعتل اللام إلا قرية وقرى ، وتروة وترى ، وشهوة وشهى .

الباب : معروف ، وهو المكان الذي يدخل منه ، وجمعه أبواب ، وهو قياس مطرد ، وجاء جمعه على أبوبة في قوله :

هتاك أخبية ولاج أبوبة***

لتشاكل أخبية ، كما قالوا : لا دريت ولا تليت ، وأصله تلوت ، فقلبت الواو ياء لتشاكل دريت .

سجداً : جمع ساجد ، وهو قياس مطرد في فاعل وفاعلة الوصفين الصحيحي اللام .

وقولوا : كل أمر من ثلاثي اعتلت عينه فانقلبت ألفاً في الماضي ، تسقط تلك العين منه إذا أسند لمفرد مذكر نحو : قل وبع ، أو لضمير مؤنث نحو : قلن وبعن ، فإن اتصل به ضمير الواحدة نحو : قولي ، أو ضمير الاثنين نحو : قولا ، أو ضمير الذكور نحو : قولوا ، ثبتت تلك العين ، وعلة الحذف والإثبات مذكورة في النحو .

وقد جاء حذفها في الشعر ، فجاء قوله : قلى وعشا .

حطة : على وزن فعلة من الحط ، وهو مصدر كالحط ، وقيل : هو هيئة وحال : كالجلسة والقعدة ، والحط : الإزالة ، حططت عنه الخراج : أزلته عنه .

والنزول : حططت .

وحكى : بفناء زيد نزلت به ، والنقل من علو إلى أسفل ، ومنه انحطاط القدر .

وقال أحمد بن يحيى ، وأبان بن تغلب ، الحطة : التوبة .

وأنشدوا :

فاز بالحطة التي جعل الله *** بها ذنب عبده مغفوراً

أي فاز بالتوبة ، وتفسيرهما الحطة بالتوبة إنما هو تفسير باللازم لا بالمرادف ، لأن من حط عنه الذنب فقد تيب عليه .

الغفر والغفران : الستر ، وفعله غفر يغفر ، بفتح الغين في الماضي وكسرها في المضارع .

والغفيرة : المغفرة ، والغفارة : السحاب وما يلبس به سية القوس ، وخرقة تلبس تحت الخمار ، ومثله المغفر والجماء ، الغفير : أي جماعة يستر بعضهم بعضاً من الكثرة .

وقول عمر لمن قال له : لم حصبت المسجد ؟ هو أغفر للنخامة ، كل هذا راجع لمعنى الستر والتغطية .

الخطيئة : فعيلة من الخطا ، والخطأ : العدول عن القصد ، يقال خطىء الشيء : أصابه بغير قصد ، وأخطأ : إذا تعمد ، وأما خطايا : فجمع خطية مشددة عند الفراء ، كهدية وهدايا ، وجمع خطيئة المهموز عند سيبويه والخليل .

فعند سيبويه : أصله خطائيّ ، مثل : صحائف ، وزنة ، فعائل ، ثم أعلت الهمزة الثانية بقلبها ياء ، ثم فتحت الأولى التي كان أصلها ياء المد في خطيئة فصار : خطأي ، فتحركت الياء وانفتح ما قبلها ، فصار : خطآء ، فوقعت همزة بين ألفين ، والهمزة شبيهة بالألف فصار : كأنه اجتمع ثلاثة أمثال ، فأبدلوا منها ياء فصار خطايا ، كهدايا ومطايا .

وعند الخليل أصله : خطايئ ، ثم قلب فصار خطائي على وزن فعالي ، المقلوب من فعائل ، ثم عمل فيه العمل السابق في قوله سيبويه .

وملخص ذلك : أن الياء في خطايا منقلبة عن الهمزة المبدلة من الياء بعد ألف الجمع التي كانت مدة زائدة في خطيئة ، على رأي سيبويه ، والألف بعدها منقلبة عن الياء المبدلة من الهمزة التي هي لام الكلمة ، ومنقلبة عن الهمزة التي هي لام الكلمة في الجمع والمفرد ، والألف بعدها هي الياء التي كانت ياء بعد ألف الجمع التي كانت مدة في المفرد ، على رأي الخليل .

وقد أمعنا الكلام في هذه المسألة في ( كتاب التكميل لشرح التسهيل ) من تأليفنا .

الإحسان والإنعام والإفضال : نظائر ، أحسن الرجل : أتى بالحسن ، وأحسن الشيء : أتى به حسناً : وأحسن إلى عمر وأسدي إليه خيراً .

{ وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية } .

القائل : هو الله تعالى ، وهل ذلك على لسان موسى أو يوشع عليهما السلام ، قولان : وانتصاب هذه على ظرف المكان ، لأنه إشارة إلى ظرف المكان ، كما تنتصب أسماء الإشارة على المصدر ، وعلى ظرف الزمان إذا كنّ إشارة إليهما تقول : ضربت هذا الضرب ، وصمت هذا اليوم .

هذا مذهب سيبويه في دخل ، إنها تتعدّى إلى المختص من ظرف المكان بغير وساطة في ، فإن كان الظرف مجازياً تعدّت بفي ، نحو : دخلت في غمار الناس ، ودخلت في الأمر المشكل .

ومذهب الأخفش والجرمي أن مثل : دخلت البيت ، مفعول به لا ظرف مكان ، وهي مسألة تذكر في علم النحو .

والألف واللام في القرية للحضور ، وانتصاب القرية على النعت ، أو على عطف البيان ، كما مرّ في إعراب الشجرة من قوله : { ولا تقربا هذه الشجرة } وإن اختلفت جهتا الإعراب في هذه ، فهي في : { ولا تقربا هذه } مفعول به ، وهي هنا على الخلاف الذي ذكرناه .

والقرية هنا بيت المقدس ، في قول الجمهور ، قاله ابن مسعود وابن عباس وقتادة والسدّي والربيع وغيرهم .

وقيل : أريحا ، قاله ابن عباس أيضاً ، وهي بأرض المقدس .

قال أبو زيد عمر بن شبة النمري : كانت قاعدة ومسكن ملوك ، وفيها مسجد هو بيت المقدس ، وفي المسجد بيت يسمى إيليا .

وقال الكواشي : أريحا قرية الجبارين ، كانوا من بقايا عاد ، يقال لهم : العمالية ورأسهم : عوج بن عنق ، وقيل : الرملة ، قاله الضحاك ؛ وقيل : أيلة ، وقيل : الأردن ؛ وقيل : فلسطين ؛ وقيل : البلقاء ؛ وقيل : تدمر ، وقيل : مصر ؛ وقيل : قرية بقرب بيت المقدس غير معينة أمروا بدخولها ؛ وقيل : الشام .

روي ذلك عن ابن كيسان ، وقد رجح القول الأوّل لقوله في المائدة :

{ ادخلوا الأرض المقدّسة } قيل : ولا خلاف ، أن المراد في الآيتين واحد .

وردّ هذا القول بقوله : فبدّل لأن ذلك يقتضي التعقيب في حياة موسى ، لكنه مات في أرض التيه ولم يدخل بيت المقدس .

وأجاب من قال إنها بيت المقدس بأن الآية ليس فيها ما يدل على أن القول كان على لسان موسى ، وهذا الجواب وهم ، لأنه قد تقدّم أن المراد في هذه الآية وفي التي في المائدة من قوله : ادخلوا الأرض المقدّسة واحد ، والقائل ذلك في آية المائدة قطعاً .

ألا ترى إلى قوله : { يا قوم ادخلوا الأرض المقدّسة } ، وقولهم : { قالوا يا موسى إن فيها قوماً جبارين } قال وهب : كانوا قد ارتكبوا ذنوباً ، فقيل لهم : { ادخلوا } الآية .

وقال غيره : ملوا المنّ والسلوى ، فقيل لهم : اهبطوا مصراً ، وكان أوّل ما لقوا أريحا .

وفي قوله : { هذه القرية } دليل على أنهم قاربوها وعاينوها ، لأن هذه إشارة لحاضر قريب .

قيل : والذي قال لهم ذلك هو يوشع بن نون ، فإنه نقل عنهم أنهم لم يدخلوا البيت المقدّس إلا بعد رجوعهم من قتال الجبارين ، ولم يكن موسى { معهم حين } دخلوها ، فإنه مات هو وأخوه في التيه .

وقيل : لم يدخلا التيه لأنه عذاب ، والله لا يعذب أنبياءه .

{ فكلوا منها حيث شئتم رغداً } : تقدّم الكلام على نظير هذه الجملة في قصة آدم في قوله : { وكلا منها رغداً حيث شئتما } ، إلا أن هناك العطف بالواو وهنا بالفاء ، وهناك تقديم الرغد على الظرف ، وهنا تقديم الظرف على الرغد ، والمعنى فيهما واحد ، إلا أن الواو هناك جاءت بمعنى الفاء ، قيل : وهو المعنى الكثير فيها ، أعني أنه يكون المتقدّم في الزمان والمعطوف بها هو المتأخر في الزمان ، وإن كانت قد ترد بالعكس ، وهو قليل .

وللمعية والزمان ، وهو دون الأول ، ويدل أنها بمعنى الفاء ما جاء في الأعراف من قوله : { فكلا } بالفاء ، والقضية واحدة .

وأما تقديم الرغد هناك فظاهر ، فإنه من صفات الأكل أو الآكل ، فناسب أن يكون قريباً من العامل فيه ولا يؤخر عنه ، ويفصل بينهما بظرف وإن لم يكن فاصلاً مؤثراً المنع لاجتماعهما في المعمولية لعامل واحد ، وأما هنا فإنه أخر لمناسبة الفاضلة بعده ، ألا ترى أن قوله : { فكلوا منها حيث شئتم رغداً } وقوله : { وادخلوا الباب سجداً } ، فهما سجعتان متناسبتان ؟ فلهذا ، والله أعلم ، كان هذان التركيبان على هذين الوضعين .

{ وادخلوا الباب } : الخلاف في نصب الباب كالخلاف في نصب القرية ، والباب أحد أبواب بيت المقدس ، ويدعى الآن : باب حطة ، قاله ابن عباس ؛ أو الثامن ، من أبواب بيت المقدس ، ويدعى باب التوبة ، قاله مجاهد والسدي ؛ أو باب القرية التي أمروا بدخولها ، أو باب القبة التي كان فيها موسى وهارون يتعبدان ، أو باب في الجبل الذي كلم الله عليه موسى .

{ سجداً } نصب على الحال من الضمير في ادخلوا ، قال ابن عباس : معناه ركعاً ، وعبر عن الركوع بالسجود ، كما يعبر عن السجود بالركوع ، قيل : لأن الباب كان صغيراً ضيقاً يحتاج الداخل فيه إلى الانحناء ، وبعد هذا القول لأنه لو كان ضيفاً لكانوا مضطرين إلى دخوله ركعاً ، فلا يحتاج فيه إلى الأمر ، وهذا لا يلزم ، لأنه كان يمكن أن تكون الحال لازمة بمعنى أنه لا يمكن أن يقع الدخول إلا على هذه الحال ، والحال اللازمة موجودة في كلام العرب .

وقيل : معناه خضعاً متواضعين ، واختاره أبو عبد الله محمد بن أبي الفضل في المنتخب ، ونذكر وجه اختياره لذلك .

وقيل : معناه السجود المعروف من وضع الجبهة على الأرض ، والمعنى : ادخلوا ساجدين شكراً لله تعالى ، إذ ردهم إليها .

وهذا هو ظاهر اللفظ .

قال أبو عبد الله بن أبي الفضل : وهذا بعيد ، لأن الظاهر يقتضي وجوب الدخول حال السجود ، فلو حملناه على ظاهره لامتنع ذلك ، فلما تعذر على حقيقة السجود وجب حمله على التواضع ، لأنهم إذا أخذوا في التوبة ، فالتائب عن الذنب لا بد أن يكون خاشعاً مستكيناً ، وما ذهب إليه لا يلزم ، لأن أخذ الحال مقارنة ، فتعذر ذلك عنده ، وليس بمتعذر لأنه لا يبعد أن أمروا بالدخول وهم ساجدون ، فيضعون جباههم على الأرض وهم داخلون .

وتصدق الحال المقارنة بوضع الجبهة على الأرض إذا دخلوا .

وأما إذا جعلنا الحال مقدرة فيصح ذلك ، لأن السجود إذ ذاك يكون متراخياً عن الدخول ، والحال المقدرة موجودة في لسان العرب .

من ذلك ما في كتاب سيبويه مررت برجل معه صقر صائداً به غداً .

وإذا أمكن حمل السجود على المتعارف فيه كثيراً ، وهو وضع الجبهة بالأرض يكون الحال مقارنة أو مقدرة ، كان أولى .

وقال الزمخشري : أمروا بالسجود عند الانتهاء إلى الباب ، شكراً لله وتواضعاً ، وما ذكره ليس مدلول الآية لأنهم لم يؤمروا بالسجود في الآية عند الانتهاء إلى الباب ، بل أمروا بالدخول في حال السجود .

فالسجود ليس مأموراً به ، بل هو قيد في وقوع المأمور به ، وهو الدخول ، والأحوال نسب تقييدية ، والأوامر نسب إسنادية ، فتناقضتا ، إذ يستحيل أن يكون الشيء تقييدياً إسنادياً ، لأنه من حيث التقييد لا يكتفي كلاماً ومن حيث الإسناد يكتفي ، فظهر التناقض .

وفي كيفية دخولهم الباب أقوال : قال ابن عباس وعكرمة : دخلوا من قبل أستاههم ، وقال ابن مسعود : دخلوا مقنعي رؤوسهم ، وقال مجاهد : دخلوا على حروف أعينهم ، وقال مقاتل : دخلوا مستلقين ، وقيل : دخلوا منزحفين على ركبهم عناداً وكبراً ، والذي ثبت في البخاري ومسلم أنهم دخلوا الباب يزحفون على أستاههم .

فاضمحلت هذه التفاسير ، ووجب المصير إلى تفسير رسول الله صلى الله عليه وسلم .

وقوله : { وقولوا حطة } ، حطة : مفر ، ومحكي القول لا بد أن يكون جملة ، فاحتيج إلى تقدير مصحح للجملة ، فقدر مسألتنا حطة هذا تقديراً لحسن بن أبي الحسن .

وقال الطبري : التقدير دخولنا الباب كما أمرنا حطة ، وقال غيرهما : التقدير أمرك حطة .

وقيل : التقدير أمرنا حطة ، أي أن نحط في هذه القرية ونستقر فيها .

قال الزمخشري : والأصل النصب بمعنى حط عنا ذنوبنا حطة ، وإنما رفعت لتعطي معنى الثبات كقوله :

صبر جميل فكلانا مبتلى *** والأصل صبراً .

انتهى كلامه ، وهو حسن .

ويؤكد هذا التخريج قراءة إبراهيم بن أبي عبلة : حطة بالنصب ، كما روي :

صبراً جميلاً فكلانا مبتلي***

بالنصب .

والأظهر من التقادير السابقة في إضمار المبتدأ القول الأول ، لأن المناسب في تعليق الغفران عليه هو سؤال حط الذنوب لا شيء من تلك التقادير الأخر ، ونظير هذا الإضمار قول الشاعر :

إذا ذقت فاهاً قلت طعم مدامة *** معتقة مما تجيء به التجر

روي برفع طعم على تقدير : هذا طعم مدامة ، وبالنصب على تقدير : ذقت طعم مدامة .

قال الزمخشري : فإن قلت : هل يجوز أن ينصب حطة في قراءة من نصبها يقولوا على معنى قولوا هذه الكلمة ؟ قلت : لا يبعد ، انتهى .

وما جوزه ليس بجائز لأن القول لا يعمل في المفردات ، إنما يدخل على الجمل للحكاية ، فيكون في موضع المفعول به ، إلا إن كان المفرد مصدراً نحو : قلت قولاً ، أو صفة لمصدر نحو : قلت حقاً ، أو معبراً به عن جملة نحو : قلت شعراً وقلت خطبة ، على أن هذا القسم يحتمل أن يعود إلى المصدر ، لأن الشعر والخطبة نوعان من القول ، فصار كالقهقري من الرجوع ، وحطة ليس واحداً من هذه .

ولأنك إذا جعلت حطة منصوبة بلفظ قولوا ، كان ذلك من الإسناد اللفظي وعري من الإسناد المعنوي ، والأصل هو الإسناد المعنوي .

وإذا كان من الإسناد اللفظي لم يترتب على النطق به فائدة أصلاً إلا مجرد الامتثال للأمر بالنطق بلفظ ، فلا فرق بينه وبين الألفاظ الغفل التي لم توضع لدلالة على معنى .

ويبعد أن يرتب الغفران للخطايا على النطق بمجرد لفظ مفرد لم يدل به على معنى كلام .

أما ما ذهب إليه أبو عبيدة من أن قوله حطة مفرد ، وأنه مرفوع على الحكاية وليس مقتطعاً من جملة ، بل أمروا بقولها هكذا مرفوعة ، فبعيد عن الصواب لأنه يبقى حطة مرفوعاً بغير رافع ، ولأن القول إنما وضع في باب الحكاية ليحكى به الجمل لا المفردات ، ولذلك احتاج النحويون في قوله تعالى : { يقال له إبراهيم } إلى تأويل ، وأما تشبيهه إياه بقوله :

سمعت الناس ينتجعون غيثا *** وجدنا في كتاب بني تميم***

أحق الخيل بالركض المعار

فليس بسديد ، لأن سمع ووجد كل منهما يتعلق بالمفردات والجمل ، لأن المسموع والموجود في الكتاب قد يكون مفرداً وقد يكون جملة .

وأما القول فلا يقع إلا على الجمل ، ولا يقع على المفردات إلا فيما تقدم ذكره ، وليس حطة منها .

واختلفت أقوال المفسرين في حطة ، فقال الحسن : معناه حط عنا ذنوبنا ، وقال ابن عباس وابن جبير ووهب : أمروا أن يستغفروا ، وقال عكرمة : معناها لا إله إلا الله ، وقال الضحاك : معناه وقولوا هذا الأمر الحق ، وقيل : معناه نحن لا نزال تحت حكمك ممتثلون لأمرك ، كما يقال قد حططت في فنائك رحلي .

وقد تقدمت التقادير في إضمار ذلك المبتدأ قبل حطة وهي أقاويل لأهل التفسير .

وقد روي عن ابن عباس أنهم أمروا بهذه اللفظة بعينها ، قيل : والأقرب خلافه ، لأن هذه اللفظة عربية وهم ما كانوا يتكلمون بها ، ولأن الأقرب أنهم أمروا بأن يقولوا قولاً دالاً على التوبة والندم والخضوع ، حتى لو قالوا : اللهم إنا نستغفرك ونتوب إليك ، لكان الخضوع حاصلاً ، لأن المقصود من التوبة أما بالقلب فبالندم وأما باللسان فبذكر لفظ يدل على حصول الندم في القلب ، وذلك لا يتوقف على ذكر لفظة بعينها .

{ يغفر } ، نافع : بالياء مضمومة ، ابن عامر : بالتاء ، أبو بكر من طريق الجعفي : يغفر ، الباقون : نغفر .

فمن قرأ بالياء مضمومة فلأن الخطايا مؤنث ، ومن قرأ بالياء مفتوحة فالضمير عائد على الله تعالى ويكون من باب الالتفات ، لأن صدر الآية { وإذ قلنا } ثم قال : { يغفر } ، فانتقل من ضمير متكلم معظم نفسه إلى ضمير الغائب المفرد ، ويحتمل أن يكون الضمير عائداً على القول الدال عليه وقولوا ، أي نغفر القول ونسب الغفران إليه مجازاً لما كان سبباً للغفران ، ومن قرأ بالنون ، وهي قراءة باقي السبعة ، فهو الجاري على نظام ما قبله من قوله : { وإذ قلنا } ، وما بعده من قوله : { وسنزيد } ، فالكلام به في أسلوب واحد ، ولم يقرأ أحد من السبعة إلا بلفظ { خطاياكم } ، وأمالها الكسائي .

وقرأت طائفة : تغفر بفتح التاء ، قيل : كأن الحطة تكون سبب الغفران ، يعني قائل هذا وهو ابن عطية ، فيكون الضمير للحطة وهذا ليس بجيد ، لأن نفس اللفظة بمجردها لا تكون سبباً للغفران .

وقد بينا ذلك قبل ، فالضمير عائد على المقالة المفهومة من : { وقولوا } ، ونسب الغفران إليها على طريق المجاز ، إذ كانت سبباً للغفران .

وقرأ الجحدري وقتادة : تغفر بضم التاء وإفراد الخطيئة .

وروي عن قتادة : يغفر بالياء مضمومة .

وقرأ الأعمش : يغفر بالياء مفتوحة وإفراد الخطيئة .

وقرأ الحسن : يغفر بالياء مفتوحة والجمع المسلم .

وقرأ أبو حياة : تغفر بالتاء مضمومة وبالجمع المسلم .

وحكى الأهوازي أنه قرأ : خطاياكم بهمز الألف وسكون الألف الأخيرة .

وحكى عنه أيضاً العكس .

وتوجيه هذا الهمز أنه استثقل النطق بألفين مع أن الحاجز حرف مفتوج والفتحة تنشأ عنها الألف ، فكأنه اجتمع ثلاث ألفات ، فهمز إحدى الألفين ليزول هذا الاستثقال ، وإذ كانوا قد همزوا الألف المفردة بعد فتحه في قوله :

وخندف هامة هذا العألم***

فلأن يهمزوا هذا أولى ، وهذا توجيه شذوذ .

ومن قرأ بضم الياء أو التاء كان : خطاياكم ، أو خطياتكم ، أو خطيتكم مفعولاً لم يسم فاعله ، ومن قرأ بفتح التاء أو الياء أو بالنون ، كان ذلك مفعولاً ، وجزم هذا الفعل لأنه جواب الأمر .

وقد تقدم الكلام في نظيره في قوله تعالى : { وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم } ، وذكرنا الخلاف في ذلك .

وهنا تقدمت أوامر أربعة : { ادخلوا } ، { فكلوا } ، { وادخلوا الباب } ، { وقولوا حطة } ، والظاهر أنه لا يكون جواباً إلا للآخرين ، وعليه المعنى ، لأن ترتب الغفران لا يكون على دخول القرية ولا على الأكل منها ، وإنما يترتب على دخول الباب لتقييده بالحال التي هي عبادة وهي السجود ، وبقوله : { وقولوا حطة } لأن فيه السؤال بحط الذنوب ، وذلك لقوة المناسبة وللمجاورة .

ويدل على ترتب ذلك عليها ما في الأعراف من قوله تعالى : { وقولوا حطة } ، { وادخلوا الباب سجداً } ، { نغفر } ، والقصة واحدة .

فرتب الغفران هناك على قولهم حطة ، وعلى دخول الباب سجداً ، لما تضمنه الدخول من السجود .

وفي تخالف هاتين الجملتين في التقديم والتأخير دليل على أن الواو لا ترتب وإنها لمطلق الجمع .

وقرأ من الجمهور : بإظهار الراء من نغفر عند اللام ، وأدغمها قوم قالوا وهو ضعيف .

{ وسنزيد } : هنا بالواو ، وفي الأعراف { سنزيد } ، والتي في الأعراف مختصرة .

ألا ترى إلى سقوط رغداً ؟ والواو من : { وسنزيد } ، وقوله : { فأرسلنا عليهم } بدل ، { فأنزلنا على الذين ظلموا } ، وإثبات ذلك هنا ، وناسب الإسهاب هنا والاختصار هناك .

والزيادة ارتفاع عن القدر المعلوم ، وضده النقص .

{ المحسنين } ، قيل : الذين لم يكونوا من أهل تلك الخطيئة ، وقيل : المحسنين منهم ، فقيل : معناه من أحسن منهم بعد ذلك زدناه ثواباً ودرجات ، وقيل : معناه من كان محسناً منهم زدنا في إحسانه ، ومن كان مسيئاً بعد ذلك زدناه ثواباً ودرجات ، وقيل : معناه من كان محسناً منهم زدنا في إحسانه ، ومن كان مسيئاً مخطئاً نغفر له خطيئته ، وكانوا على هذين الصنفين ، فأعلمهم الله أنهم إذا فعلوا ما أمروا به من دخولهم الباب سجداً وقولهم حطة يغفر ويضاعف ثواب محسنهم .

وقيل : المحسنون من دخل ، كما أمر وقال : لا إله إلا الله ، فتلخص أن المحسنين إما من غيرهم أو منهم .

فمنهم إما من اتصف بالإحسان في الماضي ، أي كان محسناً ، أو في المستقبل ، أي من أحسن منهم بعد ، أو في الحال ، أي وسنزيدكم بإحسانكم في امتثالكم ما أمرتم به من دخول الباب سجداً والقول حطة .

وهذه الجملة معطوفة على : { وقولوا حطة نغفر لكم خطاياكم } ، وليست معطوفة على نغفر فتكون جواباً ، ألا تراها جاءت منقطعة عن العطف في الإعراب في قوله سنزيد ؟ وإن كانت من حيث المعنى لا من حيث الصناعة الإعرابية ترتيب على دخول الباب سجداً .

والقول حطة ، لكنها أجريت مجرى الإخبار المحض الذي لم يرتب على شيء قبله .

/خ61