اللهم : هو الله إلاَّ أنه مختص بالنداء فلا يستعمل في غيره ، وهذه الميم التي لحقته عند البصريين هي عوض من حرف النداء ، ولذلك لا تدخل عليه إلاَّ في الضرورة .
وعند الفراء : هي من قوله : يا الله أمنا بخير ، وقد أبطلوا هذا النصب في علم النحو ، وكبرت هذه اللفظة حتى حذفوا منها : أل ، فقالوا : لا همّ ، بمعنى : اللهمّ .
لا هم إني عامر بن جهم *** أحرم حجاً في ثياب دسم
وخففت ميمها في بعض اللغات قال :
كَحَلْفَة من أبي رياح *** يسمعها اللَّهُمَ الكُبار
نزع ينزع : جذب ، وتنازعنا الحديث تجاذبناه ، ومنه : نزاع الميت ، ونزع إلى كذا : مال إليه وانجذب ، ثم يعبر به عن الزوال ، يقال : نزع الله عنه الشر : أزاله .
{ ووفيت كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون } تقدم تفسير مثل هذا في البقرة ، آخر آيات الربا .
{ قل اللهم مالك الملك } قال الكلبي : ظهرت صخرة في الخندق ، فضربها صلى الله عليه وسلم ، فبرق برق فكبر ، وكذا في الثانية والثالثة ، فقال صلى الله عليه وسلم : « في الأولى : قصور العجم ، وفي الثاني : قصور الروم .
وفي الثالثة : قصور اليمن فأخبرني جبريل عليه السلام : أن أمتي ظاهرة على الكل » فعيره المنافقون بأنه يضرب المعول ويحفر الخندق فرقاً ، ويتمنى ملك فارس والروم ، فنزلت .
اختصره السجاوندي هكذا ، وهو سبب مطول جداً .
وقال ابن عباس : لما فتحت مكة ، كبر على المشركين وخافوا فتح العجم ، فقال عبد الله بن أبي : هم أعز وأمنع ، فنزلت .
وقال ابن عباس ، وأنس : لما فتح صلى الله عليه وسلم مكة ، وعد أمته ملك فارس والروم ، فنزلت .
وقيل : بلغ ذلك اليهود فقالو : هيهات ! هيهات ! فنزلت ، فذلوا وطلبوا المواصمة .
وقال الحسن : سأل صلى الله عليه وسلم ملك فارس والروم لأمته ، فنزلت على لفظ النهي .
وروي نحوه عن قتادة أنه ذكر له ذلك .
وقال أبو مسلم الدمشقي : قالت اليهود : والله لا نطيع رجلاً جاء بنقل النبوّة من بني إسرائيل إلى غيرهم ، فنزلت .
وقيل : نزلت رداً على نصارى نجران في قولهم : إن عيسى هو الله ، وليس فيه شيء من هذه الأوصاف .
والملك هنا ظاهره السلطان والغلبة ، وعلى هذا التفسير جاءت أسباب النزول .
وقال مجاهد : الملك النبوّة ، وهذا يتنزل على نقل أبي مسلم في سبب النزول .
وقيل : المال والعبيد ، وقيل : الدنيا والآخرة .
وقال الزجاج : مالك العباد وما ملكوا .
وقال الزمخشري : أي تملك جنس الملك فتتصرف فيه تصرف الملاك فيما يملكون .
وقال معناه ابن عطية ، وقد تكلم في لفظة : اللهم ، من جهة النحو ، فقال : أجمعوا على أنها مضمومة الهاء مشدّدة الميم المفتوحة ، وأنها منادى . انتهى .
وما ذكر من الإجماع على تشديد الميم قد نقل الفراء تخفيف ميمها في بعض اللغات ، قال : وأنشد بعضهم :
كَحْلَفةٍ من أبي رِيَاح *** يسمعها اللَّهم الكبار
قال الراد عليه : تخفيف الميم خطأ فاحش خصوصاً عند الفراء ، لأن عنده هي التي في أمّنا ، إذ لا يحتمل التخفيف أن تكون الميم فيه بقية أمّنا .
قال : والرواية الصحيحة يسمعها لاهه الكبار . انتهى .
وإن صح هذا البيت عن العرب كان فيه شذوذ آخر من حيث استعماله في غير النداء ، ألا ترى أنه جعله في هذا البيت فاعلاً بالفعل الذي قبله ؟ قال أبو رجاء العطاردي : هذه الميم تجمع سبعين اسماً من اسمائه وقال النضر بن شميل : من قال اللهم فقد دعا الله بجميع أسمائه كلها .
وقال الحسن : اللهم مجمع الدعاء .
ومعنى قول النضر : إن اللهم هو الله زيدت فيه الميم ، فهو الأسم العلم المتضمن لجميع أوصاف الذات ، لأنك إذا قلت : جاء زيد ، فقد ذكرت الأسم الخاص ، فهو متضمن جميع أوصافه التي هي فيه من شهلة أو طول أو جود أو شجاعة ، أو اضدادها وما أشبه ذلك .
وانتصاب : مالك الملك ، على أنه منادى ثانٍ أي : يا مالك الملك ، ولا يوصف اللهم عند سيبويه ، وأجاز أبو العباس وأبو إسحاق وصفه ، فهو عندهما صفة للاهم ، وهي مسألة خلافية يبحث عنها في علم النحو .
{ تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء } الظاهر أن الملك هو السلطان والغلبة ، كما أن ظاهر الملك الأوّل كذلك ، فيكون الأوّل عاماً ، وهذان خاصين .
والمعنى : إنك تعطي من شئت قسماً من الملك ، وتنزع ممن شئت قسماً من الملك وقد فسر الملك هنا بالنبوّة أيضاً ، ولا يتأتى هذا التفسير في : تنزع الملك ، لأن الله لم يؤت النبوّة لأحد ثم نزعها منه إلاَّ أن يكون تنزع مجازاً بمعنى : تمنع النبوّة ممن تشاء ، فيمكن .
وقال أبو بكر الوراق : هو ملك النفس ومنعها من اتباع الهوى .
وقيل : العافية ، وقيل : القناعة .
وقيل : الغلبة بالدين والطاعة .
وقال الشبلي : هو الاستغناء بالمكون عن الكونين .
وقال عبد العزيز بن يحيى : هو قهر إبليس كما كان يفرّ من ظل عمر ، وعكسه من كان يجري الشيطان منه مجرى الدم .
وقيل : ملك المعرفة بلا علة ، كما أتى سحرة فرعون ، ونزع من بلعام .
وقال أبو عثمان : هو توفيق الإيمان .
وإذا حملناه على الأظهر : وهو السلطنة والغلبة ، وكون المؤتَى هو الآمر المتبع ، فالذي آتاه الملك هو محمد صلى الله عليه وسلم وأمته ، والمنزوع منهم فارس والروم .
وقيل : المنزوع منه أبو جهل وصناديد قريش .
وقيل : العرب وخلفاء الإسلام وملوكه ، والمنزوع فارس والروم .
وقال السدي : الأنبياء أمر الناس بطاعتهم ، والمنزوع منه الجبارون أمر الناس بخلافهم .
وقيل : آدم وولده ، والمنزوع منه إبليس وجنوده .
وقيل : داود عليه السلام ، والمنزوع منه طالوت .
وقيل : صخر ، والمنزوع منه سليمان أيام محنته .
وقيل : المعنى تؤتي الملك في الجنة من تشاء وتنزع الملك من ملوك الدنيا في الآخرة ممن تشاء .
وقيل : الملك العزلة والانقطاع ، وسموه الملك المجهول .
وهذه أقوال مضطربة ، وتخصيصات ليس في الكلام ما يدل عليها ، والأولى أن يحمل على جهة التمثيل لا الحصر في المراد .
{ وتعز من تشاء وتذل من تشاء } قيل : محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، حين دخلوا مكة في اثني عشر ألفاً ظاهرين عليها ، وأذل أبا جهل وصناديد قريش حتى حزت رؤوسهم وألقوا في القليب .
وقيل : بالتوفيق والعرفان ، وتدل بالخذلان .
وقال عطاء : المهاجرين والأنصار وتذل فارس والروم .
وقيل : بالطاعة وتذل بالمعصية .
وقيل : بالظفر والغنيمة وتذل بالقتل والجزية .
وقيل : بالإخلاص وتذل بالرياء .
وقيل : بالجنة والرؤية وتذل بالحجاب والنار ، قاله الحسن بن الفضل .
وقيل : بقهر النفس وتذل باتباع الخزي ، قاله الوراق .
وقيل : بقهر الشيطان وتذل بقهر الشيطان اياه ، قاله الكتاني .
وقيل : بالقناعة والرضا وتذل بالحرص والطمع .
وينبغي حمل هذه الأقاويل على التمثيل لأنه لا مخصص في الآية ، بل الذي يقع به العز والذل مسكوت عنه ، وللمعتزلة هنا كلام مخالف لكلام أهل السنة ، قال الكعبي : تؤتى الملك على سبيل الاستحقاق من يقوم به ، ولا تنزعه إلاَّ ممن فسق ، يدل عليه { لا ينال عهدي الظالمين } { إن الله اصطفاه عليكم } جعل الاصطفاء سبباً للملك ، فلا يجوز أن يكون ملك الظالمين بإيتائه وقد يكون ، وقد ألزمهم أن لا يتملكوه ، فصح أن الملوك العادلين هم المخصوصون بايتاء الله الملك ، وأما الظالمون فلا .
أما النزع فبخلافه ، فكما ينزعه من العادل لمصلحة ، فقد ينزعه من الظالم .
وقال القاضي عبد الجبار : الإعزاز المضاف إليه تعالى يكون في الدين بالإمداد بالألطاف ومدحهم وتغلبهم على الأعداء ، ويكون في الدنيا بالمال وإعطاء الهيبة .
وأشرف أنواع العزة في الدين هو الإيمان ، وأذل الأشياء الموجبة للذلة هو الكفر ، فلو كان حصول الإيمان والكفر من العبد لكان إعزاز العبد نفسه بالإيمان وإذلاله نفسه بالكفر أعظم من إعزاز الله إياه وإذلاله ، ولو كان كذلك كان حظه من هذا الوصف أتم من حظه سبحانه ، وهو باطل قطعاً .
وقال الجبائي : يذل أعداءه في الدنيا والآخرة ، ولا يذل أولياءه وإن أفقرهم وأمرضهم وأخافهم وأحوجهم إلى غير ذلك ، لأن ذلك لعزهم في الآخرة بالثواب أو العوض فصار كالفصد يؤلم في الحال ويعقب نفعاً .
قال : ووصف الفقر بكونه ذلاً مجازاً ، كقوله { أذلة على المؤمنين } وإذلال الله المبطل بوجوه بالذم واللعن ، وخذلانهم بالحجة والنصرة ، وبجعلهم لأهل دينه غنيمة ، وبعقوبتهم في الآخرة .
{ بيدك الخير } أي : بقدرتك وتصديقك وقع الخير ، ويستحيل وجود اليد بمعنى الجارحه لله تعالى .
قيل : المعنى والشر ، نحو : تقيكم الحرّ ، أي والبرد .
وحذف المعطوف جائز لفهم المعنى ، إذ أحد الضدين يفهم منه الآخر ، وهو تعالى قد ذكر إيتاء الملك ونزعه ، والإعزاز والإذلال ، وذلك خير لناس وشر لآخرين ، فلذلك كان التقدير : بيدك الخير والشر ، ثم ختمها بقوله { إنك على كل شيء قدير } فجاء بهذا العام المندرج تحته الأوصاف السابقة ، وجمع الخيور والشرور ، وفي الاقتصار على ذكر الخير تعليم لنا كيف نمدح بأن نذكر أفضل الخصال .
فإن قلت : كيف قال { بيدك الخير } فذكر الخير دون الشر ؟
قلت لأن الكلام إنما وقع في الخير الذي يسوقه إلى المؤمنين ، وهو الذي أنكرته الكفرة ، فقال : { بيدك الخير } تؤتيه أولياءك على رغم أعدائك ، ولأن كل أفعال الله من نافع وضار صادر عن الحكمة والمصلحة فهو خير كله .
انتهى كلامه ، وهو يدافع آخرهُ أولَه ، لأنه ذكر في السؤال ؛ لم اقتصر على ذكر الخير دون الشر ؟
وأجاب بالجواب الأول ، وذلك يدل على أن بيده تعالى الخير والشر ، وإنما كان اقتصاره على الخير لأن الكلام إنما وقع فيما يسوقه تعالى من الخير للمؤمنين ، فناسب الاقتصار على ذكر الخير فقط .
وأجاب بالجواب الثاني : وذلك يدل على أنه تعالى جميع أفعاله خير ليس فيها شر ، وهذا الجواب يناقض الأول .
وقال ابن عطية : خص الخير بالذكر ، وهو تعالى بيده كل شيء ، إذ الآية في معنى دعاء ورغبة ، فكان المعنى : { بيدك الخير } فأجزل حظي منه .
وقال الراغب : لما كانت في الحمد والشكر لا للحكم ، ذكر الخير إذ هو المشكور عليه .
وقال الرازي : الخير فيه الألف واللام الدالة على العموم ، وتقديم : بيدك ، يدل على الحصر ، فدل على أن لا خير إلاَّ بيده ، وأفضل الخيرات الإيمان ، فوجب أن يكون بخلق الله .