البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{قُلِ ٱللَّهُمَّ مَٰلِكَ ٱلۡمُلۡكِ تُؤۡتِي ٱلۡمُلۡكَ مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ ٱلۡمُلۡكَ مِمَّن تَشَآءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُۖ بِيَدِكَ ٱلۡخَيۡرُۖ إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ} (26)

اللهم : هو الله إلاَّ أنه مختص بالنداء فلا يستعمل في غيره ، وهذه الميم التي لحقته عند البصريين هي عوض من حرف النداء ، ولذلك لا تدخل عليه إلاَّ في الضرورة .

وعند الفراء : هي من قوله : يا الله أمنا بخير ، وقد أبطلوا هذا النصب في علم النحو ، وكبرت هذه اللفظة حتى حذفوا منها : أل ، فقالوا : لا همّ ، بمعنى : اللهمّ .

قال الزاجر :

لا هم إني عامر بن جهم *** أحرم حجاً في ثياب دسم

وخففت ميمها في بعض اللغات قال :

كَحَلْفَة من أبي رياح *** يسمعها اللَّهُمَ الكُبار

نزع ينزع : جذب ، وتنازعنا الحديث تجاذبناه ، ومنه : نزاع الميت ، ونزع إلى كذا : مال إليه وانجذب ، ثم يعبر به عن الزوال ، يقال : نزع الله عنه الشر : أزاله .

{ ووفيت كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون } تقدم تفسير مثل هذا في البقرة ، آخر آيات الربا .

{ قل اللهم مالك الملك } قال الكلبي : ظهرت صخرة في الخندق ، فضربها صلى الله عليه وسلم ، فبرق برق فكبر ، وكذا في الثانية والثالثة ، فقال صلى الله عليه وسلم : « في الأولى : قصور العجم ، وفي الثاني : قصور الروم .

وفي الثالثة : قصور اليمن فأخبرني جبريل عليه السلام : أن أمتي ظاهرة على الكل » فعيره المنافقون بأنه يضرب المعول ويحفر الخندق فرقاً ، ويتمنى ملك فارس والروم ، فنزلت .

اختصره السجاوندي هكذا ، وهو سبب مطول جداً .

وقال ابن عباس : لما فتحت مكة ، كبر على المشركين وخافوا فتح العجم ، فقال عبد الله بن أبي : هم أعز وأمنع ، فنزلت .

وقال ابن عباس ، وأنس : لما فتح صلى الله عليه وسلم مكة ، وعد أمته ملك فارس والروم ، فنزلت .

وقيل : بلغ ذلك اليهود فقالو : هيهات ! هيهات ! فنزلت ، فذلوا وطلبوا المواصمة .

وقال الحسن : سأل صلى الله عليه وسلم ملك فارس والروم لأمته ، فنزلت على لفظ النهي .

وروي نحوه عن قتادة أنه ذكر له ذلك .

وقال أبو مسلم الدمشقي : قالت اليهود : والله لا نطيع رجلاً جاء بنقل النبوّة من بني إسرائيل إلى غيرهم ، فنزلت .

وقيل : نزلت رداً على نصارى نجران في قولهم : إن عيسى هو الله ، وليس فيه شيء من هذه الأوصاف .

والملك هنا ظاهره السلطان والغلبة ، وعلى هذا التفسير جاءت أسباب النزول .

وقال مجاهد : الملك النبوّة ، وهذا يتنزل على نقل أبي مسلم في سبب النزول .

وقيل : المال والعبيد ، وقيل : الدنيا والآخرة .

وقال الزجاج : مالك العباد وما ملكوا .

وقال الزمخشري : أي تملك جنس الملك فتتصرف فيه تصرف الملاك فيما يملكون .

وقال معناه ابن عطية ، وقد تكلم في لفظة : اللهم ، من جهة النحو ، فقال : أجمعوا على أنها مضمومة الهاء مشدّدة الميم المفتوحة ، وأنها منادى . انتهى .

وما ذكر من الإجماع على تشديد الميم قد نقل الفراء تخفيف ميمها في بعض اللغات ، قال : وأنشد بعضهم :

كَحْلَفةٍ من أبي رِيَاح *** يسمعها اللَّهم الكبار

قال الراد عليه : تخفيف الميم خطأ فاحش خصوصاً عند الفراء ، لأن عنده هي التي في أمّنا ، إذ لا يحتمل التخفيف أن تكون الميم فيه بقية أمّنا .

قال : والرواية الصحيحة يسمعها لاهه الكبار . انتهى .

وإن صح هذا البيت عن العرب كان فيه شذوذ آخر من حيث استعماله في غير النداء ، ألا ترى أنه جعله في هذا البيت فاعلاً بالفعل الذي قبله ؟ قال أبو رجاء العطاردي : هذه الميم تجمع سبعين اسماً من اسمائه وقال النضر بن شميل : من قال اللهم فقد دعا الله بجميع أسمائه كلها .

وقال الحسن : اللهم مجمع الدعاء .

ومعنى قول النضر : إن اللهم هو الله زيدت فيه الميم ، فهو الأسم العلم المتضمن لجميع أوصاف الذات ، لأنك إذا قلت : جاء زيد ، فقد ذكرت الأسم الخاص ، فهو متضمن جميع أوصافه التي هي فيه من شهلة أو طول أو جود أو شجاعة ، أو اضدادها وما أشبه ذلك .

وانتصاب : مالك الملك ، على أنه منادى ثانٍ أي : يا مالك الملك ، ولا يوصف اللهم عند سيبويه ، وأجاز أبو العباس وأبو إسحاق وصفه ، فهو عندهما صفة للاهم ، وهي مسألة خلافية يبحث عنها في علم النحو .

{ تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء } الظاهر أن الملك هو السلطان والغلبة ، كما أن ظاهر الملك الأوّل كذلك ، فيكون الأوّل عاماً ، وهذان خاصين .

والمعنى : إنك تعطي من شئت قسماً من الملك ، وتنزع ممن شئت قسماً من الملك وقد فسر الملك هنا بالنبوّة أيضاً ، ولا يتأتى هذا التفسير في : تنزع الملك ، لأن الله لم يؤت النبوّة لأحد ثم نزعها منه إلاَّ أن يكون تنزع مجازاً بمعنى : تمنع النبوّة ممن تشاء ، فيمكن .

وقال أبو بكر الوراق : هو ملك النفس ومنعها من اتباع الهوى .

وقيل : العافية ، وقيل : القناعة .

وقيل : الغلبة بالدين والطاعة .

وقيل : قيام الليل .

وقال الشبلي : هو الاستغناء بالمكون عن الكونين .

وقال عبد العزيز بن يحيى : هو قهر إبليس كما كان يفرّ من ظل عمر ، وعكسه من كان يجري الشيطان منه مجرى الدم .

وقيل : ملك المعرفة بلا علة ، كما أتى سحرة فرعون ، ونزع من بلعام .

وقال أبو عثمان : هو توفيق الإيمان .

وإذا حملناه على الأظهر : وهو السلطنة والغلبة ، وكون المؤتَى هو الآمر المتبع ، فالذي آتاه الملك هو محمد صلى الله عليه وسلم وأمته ، والمنزوع منهم فارس والروم .

وقيل : المنزوع منه أبو جهل وصناديد قريش .

وقيل : العرب وخلفاء الإسلام وملوكه ، والمنزوع فارس والروم .

وقال السدي : الأنبياء أمر الناس بطاعتهم ، والمنزوع منه الجبارون أمر الناس بخلافهم .

وقيل : آدم وولده ، والمنزوع منه إبليس وجنوده .

وقيل : داود عليه السلام ، والمنزوع منه طالوت .

وقيل : صخر ، والمنزوع منه سليمان أيام محنته .

وقيل : المعنى تؤتي الملك في الجنة من تشاء وتنزع الملك من ملوك الدنيا في الآخرة ممن تشاء .

وقيل : الملك العزلة والانقطاع ، وسموه الملك المجهول .

وهذه أقوال مضطربة ، وتخصيصات ليس في الكلام ما يدل عليها ، والأولى أن يحمل على جهة التمثيل لا الحصر في المراد .

{ وتعز من تشاء وتذل من تشاء } قيل : محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، حين دخلوا مكة في اثني عشر ألفاً ظاهرين عليها ، وأذل أبا جهل وصناديد قريش حتى حزت رؤوسهم وألقوا في القليب .

وقيل : بالتوفيق والعرفان ، وتدل بالخذلان .

وقال عطاء : المهاجرين والأنصار وتذل فارس والروم .

وقيل : بالطاعة وتذل بالمعصية .

وقيل : بالظفر والغنيمة وتذل بالقتل والجزية .

وقيل : بالإخلاص وتذل بالرياء .

وقيل بالغنى وتذل بالفقر .

وقيل : بالجنة والرؤية وتذل بالحجاب والنار ، قاله الحسن بن الفضل .

وقيل : بقهر النفس وتذل باتباع الخزي ، قاله الوراق .

وقيل : بقهر الشيطان وتذل بقهر الشيطان اياه ، قاله الكتاني .

وقيل : بالقناعة والرضا وتذل بالحرص والطمع .

وينبغي حمل هذه الأقاويل على التمثيل لأنه لا مخصص في الآية ، بل الذي يقع به العز والذل مسكوت عنه ، وللمعتزلة هنا كلام مخالف لكلام أهل السنة ، قال الكعبي : تؤتى الملك على سبيل الاستحقاق من يقوم به ، ولا تنزعه إلاَّ ممن فسق ، يدل عليه { لا ينال عهدي الظالمين } { إن الله اصطفاه عليكم } جعل الاصطفاء سبباً للملك ، فلا يجوز أن يكون ملك الظالمين بإيتائه وقد يكون ، وقد ألزمهم أن لا يتملكوه ، فصح أن الملوك العادلين هم المخصوصون بايتاء الله الملك ، وأما الظالمون فلا .

أما النزع فبخلافه ، فكما ينزعه من العادل لمصلحة ، فقد ينزعه من الظالم .

وقال القاضي عبد الجبار : الإعزاز المضاف إليه تعالى يكون في الدين بالإمداد بالألطاف ومدحهم وتغلبهم على الأعداء ، ويكون في الدنيا بالمال وإعطاء الهيبة .

وأشرف أنواع العزة في الدين هو الإيمان ، وأذل الأشياء الموجبة للذلة هو الكفر ، فلو كان حصول الإيمان والكفر من العبد لكان إعزاز العبد نفسه بالإيمان وإذلاله نفسه بالكفر أعظم من إعزاز الله إياه وإذلاله ، ولو كان كذلك كان حظه من هذا الوصف أتم من حظه سبحانه ، وهو باطل قطعاً .

وقال الجبائي : يذل أعداءه في الدنيا والآخرة ، ولا يذل أولياءه وإن أفقرهم وأمرضهم وأخافهم وأحوجهم إلى غير ذلك ، لأن ذلك لعزهم في الآخرة بالثواب أو العوض فصار كالفصد يؤلم في الحال ويعقب نفعاً .

قال : ووصف الفقر بكونه ذلاً مجازاً ، كقوله { أذلة على المؤمنين } وإذلال الله المبطل بوجوه بالذم واللعن ، وخذلانهم بالحجة والنصرة ، وبجعلهم لأهل دينه غنيمة ، وبعقوبتهم في الآخرة .

{ بيدك الخير } أي : بقدرتك وتصديقك وقع الخير ، ويستحيل وجود اليد بمعنى الجارحه لله تعالى .

قيل : المعنى والشر ، نحو : تقيكم الحرّ ، أي والبرد .

وحذف المعطوف جائز لفهم المعنى ، إذ أحد الضدين يفهم منه الآخر ، وهو تعالى قد ذكر إيتاء الملك ونزعه ، والإعزاز والإذلال ، وذلك خير لناس وشر لآخرين ، فلذلك كان التقدير : بيدك الخير والشر ، ثم ختمها بقوله { إنك على كل شيء قدير } فجاء بهذا العام المندرج تحته الأوصاف السابقة ، وجمع الخيور والشرور ، وفي الاقتصار على ذكر الخير تعليم لنا كيف نمدح بأن نذكر أفضل الخصال .

وقال الزمخشري .

فإن قلت : كيف قال { بيدك الخير } فذكر الخير دون الشر ؟

قلت لأن الكلام إنما وقع في الخير الذي يسوقه إلى المؤمنين ، وهو الذي أنكرته الكفرة ، فقال : { بيدك الخير } تؤتيه أولياءك على رغم أعدائك ، ولأن كل أفعال الله من نافع وضار صادر عن الحكمة والمصلحة فهو خير كله .

انتهى كلامه ، وهو يدافع آخرهُ أولَه ، لأنه ذكر في السؤال ؛ لم اقتصر على ذكر الخير دون الشر ؟

وأجاب بالجواب الأول ، وذلك يدل على أن بيده تعالى الخير والشر ، وإنما كان اقتصاره على الخير لأن الكلام إنما وقع فيما يسوقه تعالى من الخير للمؤمنين ، فناسب الاقتصار على ذكر الخير فقط .

وأجاب بالجواب الثاني : وذلك يدل على أنه تعالى جميع أفعاله خير ليس فيها شر ، وهذا الجواب يناقض الأول .

وقال ابن عطية : خص الخير بالذكر ، وهو تعالى بيده كل شيء ، إذ الآية في معنى دعاء ورغبة ، فكان المعنى : { بيدك الخير } فأجزل حظي منه .

وقال الراغب : لما كانت في الحمد والشكر لا للحكم ، ذكر الخير إذ هو المشكور عليه .

وقال الرازي : الخير فيه الألف واللام الدالة على العموم ، وتقديم : بيدك ، يدل على الحصر ، فدل على أن لا خير إلاَّ بيده ، وأفضل الخيرات الإيمان ، فوجب أن يكون بخلق الله .

ولأن فاعل الأشرف أشرف ، والإيمان أشرف .

/خ27