البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{وَجَعَلۡنَا بَيۡنَهُمۡ وَبَيۡنَ ٱلۡقُرَى ٱلَّتِي بَٰرَكۡنَا فِيهَا قُرٗى ظَٰهِرَةٗ وَقَدَّرۡنَا فِيهَا ٱلسَّيۡرَۖ سِيرُواْ فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا ءَامِنِينَ} (18)

{ وجعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها قرى ظاهرة } : جاءت هذه الجملة بعد قوله : { وبدلناهم } ، وذلك أنه لما ذكر ما أنعم به عليهم من جنتيهم ، وذكر تبديلها بالخمط والأثل والسدر ، ذكر ما كان أنعم به عليهم من اتصال قراهم ، وذكر تبديلها بالمفاوز والبراري .

وقوله : { وجعلنا } ، وصف تعالى حالهم قبل مجيء السيل ، وهو أنه مع ما كان منهم من الجنتين والنعمة الخاصة بهم ، كان قد أصلح لهم البلاد المتصلة بهم وعمرها وجعلها أربابها ، وقدّر السير بأن قرب القرى بعضها من بعض .

قال ابن عطية : حتى كان المسافر من مأرب إلى الشام يبيت في قرية ويقيل في أخرى ، ولا يحتاج إلى حمل زاد .

والقرى : المدن ، ويقال للجمع الصغير أيضاً قرية .

والقرى التي بورك فيها بلاد الشام ، بإجماع من المفسرين .

والقرى الظاهرة هي التي بين الشأم ومأرب ، وهي الصغار التي هي البوادي . انتهى .

وما ذكره من أن القرى التي بورك فيها هي قرى الشام بإجماع ليس كما ذكر ، قال مجاهد : هي السراوي .

وقال وهب : قرى صنعاء .

وقال ابن جبير : قرى مأرب .

وقال ابن عباس : قرى بيت المقدس .

وبركتها : كثرة أشجارها أو ثمارها .

ووصف قرى بظاهرة ، قال قتادة : متصلة على الطريق ، يغدون فيقيلون في قرية ، ويروحون فيبيتون في قرية .

قيل : كان كل ميل قرية بسوق ، وهو سبب أمن الطريق .

وقال المبرد : ظاهرة : مرتفعة ، أي في الآكام والظراب ، وهو أشرف القرى .

وقيل : ظاهرة ، إذا خرجت من هذه ظهرت لك الأخرى .

وقيل : ظاهرة : معروفة ، يقال هذا أمر ظاهر : أي معروف ، وقيل : ظاهرة : عامرة .

وقال ابن عطية : والذي يظهر لي أن معنى ظاهرة : خارجة عن المدة ، فهي عبارة عن القرى الصغار التي هي في ظواهر المدن ، كأنه فصل بهذه الصفة بين القرى الصغار وبين القرى المطلقة التي هي المدن .

وظواهر المدن : ما خرج عنها في الفيافي والفحوص ، ومنه قولهم : نزلنا بظاهر فلاة أى خارجاً عنها ، وقوله : { ظاهرة } : تظهر ، تسميه الناس إياها بالبادية والضاحية ، ومن هذا قول الشاعر :

فلو شهدتني من قريش عصابة *** قريش البطاح لا قريش الظواهر

يعني : الخارجين من بطحاء مكة .

وفي الحديث : « وجاء أهل الضواحي يسكنون الغرف » { وقدّرنا فيها السير } : قد ذكر أن الغادي يقيل في قرية ، والرائح في أخرى ، إلى أن يصل إلى مقصوده آمناً من عدو وجوع وعطش وآفات المسافر .

قال الضحاك : مقادير المراحل كانت القرى على مقاديرها .

وقال الكلبي : مقادير المقيل والمبيت ، وقال القتبي : بين كل قرية وقرية مقدار واحد معلوم ، وقيل : بين كل قريتين نصف يوم ، وهذه أقوال متقاربة .

والظاهر أن قوله : { سيروا } ، أمر حقيقة على لسان أنبيائهم .

وقال الزمخشري : ولا قول ثم ، ولكنهم لما مكنوا من السير ، وسويت لهم أسبابه ، فكأنهم أمروا بذلك وأذن لهم فيه . انتهى .

ودخول الفاء في قوله فكأنهم لا يجوز ، والصواب كأنهم لأنه خبر لكنهم .

وقال قتادة : كانوا يسيرون مسيرة أربعة أشهر في أمان ، ولو وجد الرجل قاتل ابنه لم يهجه ، وكان المسافر لا يأخذ زاداً ولا سقاء مما بسط الله لهم من النعم .

وقال الزمخشري : { سيروا فيها } ، إن شئتم بالليل ، وإن شئتم بالنهار ، فإن الأمن فيها لا يختلف باختلاف الأوقات ؛ أو سيروا في آمنين ولا تخافون ، وإن تطاولت مدة أسفاركم فيها وامتدت أياماً وليالي ؛ أو سيروا فيها لياليكم وأيامكم مدة أعماركم ، فإنكم في كل حين وزمان لا تلقون فيها إلا آمنين . انتهى .

وقدم الليالي ، لأنها مظنة الخوف لمن قال : ومنّ عليهم بالأمن ، حتى يساوي الليل النهار في ذلك .