البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{لَقَدۡ كَانَ لِسَبَإٖ فِي مَسۡكَنِهِمۡ ءَايَةٞۖ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٖ وَشِمَالٖۖ كُلُواْ مِن رِّزۡقِ رَبِّكُمۡ وَٱشۡكُرُواْ لَهُۥۚ بَلۡدَةٞ طَيِّبَةٞ وَرَبٌّ غَفُورٞ} (15)

لما ذكر تعالى حال الشاكرين لنعمه بذكر داود وسليمان ، بيّن حال الكافرين بأنعمه بقصة سبأ ، موعظة لقريش وتحذيراً وتنبيهاً على ما جرى لمن كفر أنعم الله ، وتقدم الكلام في سبأ في النمل .

ولما ملكت بلقيس ، اقتتل قومها على ماء واديهم ، فتركت ملكها وسكنت قصرها ، وراودوها على أن ترجع فأبت فقالوا : لترجعنّ أو لنقتلنك ، فقالت لهم : لا عقول لكم ولا تطيعوني ، فقالوا : نطيعك ، فرجعت إلى واديهم ، وكانوا إذا مطروا ، أتاهم السيل من مسيرة ثلاثة أيام ، فأمرت به فسد ما بين الجبلين بمساءة بالصخر والقار ، وحبست الماء من وراء السد ، وجعلت له أبواباً بعضها فوق بعض ، وبنت من دونه بركة فيها اثنان عشر مخرجاً على عدد أنهارهم ، وكان الماء يخرج لهم بالسوية إلى أن كان من شأنها مع سليمان ، عليه السلام ، ما سبق ذكره في سورة النمل .

وقيل : الذي بنى لهم السد هو حمير أبو القبائل اليمنية .

وعن الضحاك : كانوا في الفترة التي بين عيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم .

قيل : وكان لهم رئيس يلقب بالحمار ، وكان في الفترة ، فمات ولده فرفع رأسه إلى السماء فبزق وكفر ، فلذا يقال في المثل : أكفر من حمار ، ويقال : بركة جوف حمار ، أي كوادي حمار ، لما حال بهم السيل .

وقرأ الجمهور : { في مساكنهم } ، جمعاً ؛ والنخعي ، وحمزة ، وحفص : مفرداً بفتح الكاف ؛ والكسائي : مفرداً بكسرها ، وهي قراءة الأعمش وعلقمة .

وقال أبو الحسن : كسر الكاف لغة فاشية ، وهي لغة الناس اليوم ؛ والفتح لغة الحجاز ، وهي اليوم قليلة .

وقال الفراء : هي لغة يمانية فصيحة ، فمن قرأ الجمع فظاهر ، لأن كل أحد له مسكن ، ومن أفرد ينبغي أن يحمل على المصدر ، أي في سكناهم ، حتى لا يكون مفرداً يراد به الجمع ، لأن سيبويه يرى ذلك ضرورة نحو : كلوا في بعض بطنكم تعفوا ، يريد بطونكم .

وقوله :

قد عض أعناقهم جلد الجواميس . . .

أي جلود .

{ آية } : أي علامة دالة على الله وعلى قدرته وإحسانه ووجوب شكره ، أو جعل قصتهم لأنفسهم آية ، إذ : أعرض أهلها عن شكر الله عليهم ، فخربهم وأبدلهم عنها الخمط والإثل ثمرة لهم ؛ و { جنتان } : خبر مبتدأ محذوف ، أي هي جنتان ، قاله الزجاج ، أو بدل ، قال معناه الفراء ، قال : رفع لأنه تفسير لآية .

وقال مكي وغيره ، وضعفه ابن عطية ، ولم يذكر جهة تضعيفه .

وقال : { جنتان } ابتداء ، وخبره في قوله : { عن يمين وشمال } . انتهى .

ولا يظهر لأنه نكرة لا مسوغ للابتداء بها ، إلا إن اعتقد إن ثمة صفة محذوفة ، أي جنتان لهم ، أو عظيمتان لهم { عن يمين وشمال } ، وعلى تقدير ذلك يبقى الكلام مفلتاً مما قبله .

وقرأ ابن أبي عبلة : جنتين بالنصب ، على أن آية اسم كان ، وجنتين الخبر .

قيل : ووجه كون الجنتين آية نبات الخمط والإثل والسدر مكان الأشجار المثمرة .

قال قتادة : كانت بساتينهم ذات أشجار وثمار تسر الناس بظلالها ، ولم يرد جنتين ثنتين ، بل أراد من الجهتين يمنة ويسرة . انتهى .

قال الزمخشري : وإنما أراد جماعة من البساتين عن يمين بلدتهم ، وأخرى عن شمالها ، وكل واحدة من الجماعتين في تقاربها وتضامها كأنها جنة واحدة ، كما يكون بلاد الريف العامرة وبساتينها ، أو أراد بستاني كل رجل منهم عن يمين مسكنه وشماله ، كما قال : { جعلنا لأحدهما جنتين من أعناب } انتهى .

قال ابن زيد : لا يوجد فيها برغوث ، ولا بعوض ، ولا عقرب ، ولا تقمل ثيابهم ، ولا تعيا دوابهم ؛ وكانت المرأة تمشي تحت الأشجار ، وعلى رأسها المكتل ، فيمتلىء ثماراً من غير أن تتناول بيدها شيئاً .

وروي نحو هذا عن عبد الرحمن بن عوف وابن عباس .

{ كلوا من رزق الله } : قول الله لهم على ألسنة الأنبياء المبعوثين إليهم ، وروي ذلك مع الأيمان بالله ، أو قول لسان الحال لهم ، كما رأوا نعماً كثيرة وأرزاقاً مبسوطة ، وفيه إشارة إلى تكميل النعمة عليهم ، حيث لم يمنعهم من أكل ثمارها خوف ولا مرض .

{ واشكروا الله } على ما أنعم به عليكم ، { بلدة طيبة } : أي كريمة التربة ، حسنة الهواء ، رغدة النعم ، سليمة من الهوامّ والمضار ، { ورب غفور } ، لا عقاب على التمتع بنعمه في الدنيا ، ولا عذاب في الآخرة ، فهذه لذة كاملة خالية عن المفاسد العاجلة والمآلية .

وقرأ رويس : بنصب الأربعة .

قال أحمد بن يحيى : اسكنوا بلدة طيبة واعبدوا رباً غفوراً .

وقال الزمخشري : منصوب على المدح .