البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{فَأَعۡرَضُواْ فَأَرۡسَلۡنَا عَلَيۡهِمۡ سَيۡلَ ٱلۡعَرِمِ وَبَدَّلۡنَٰهُم بِجَنَّتَيۡهِمۡ جَنَّتَيۡنِ ذَوَاتَيۡ أُكُلٍ خَمۡطٖ وَأَثۡلٖ وَشَيۡءٖ مِّن سِدۡرٖ قَلِيلٖ} (16)

العرم : إما صفة للسيل أضيف فيه الموصوف إلى صفته كقولهم : مسجد الجامع ، وإما اسم لشيء ، ويأتي القول فيه في تفسير المركبات .

الخمط ، قال أبو عبيدة : كل شجرة مرّة ذات شواك . وقال ابن الأعرابي : الخمط ثمر شجرة على صورة الخشخاش لا ينتفع به . وقال القتي : يقال للحماضة خمطة اللبن . إذا أخذ شيئاً من الريح فهو خامط وخميط ؛ وتخمط الفحل : هدر ، والرجل : تعصب وتكسر ، والخمر : أخذت ريح الأراك كرائحة التفاح ولم تدرك بعد . ويقال : هي الخامطة ، قاله الجوهري .

الأثل : شجر ، وهو ضرب من الطرفاء ، قاله أبو حنيفة اللغوي في كتاب النبات له ، ويأتي ما قال فيه المفسرون .

السدر ، قال الفراء : هو السرو . وقال الأزهري : السدر سدران : سدر لا ينتفع به ، ولا يصلح ورقه للغسول ، وله ثمرة عفصة لا تؤكل ، وهو الذي يسمى الضال ؛ وسدر ينبت على الماء ، وثمرة النبق ، ورقه غسول يشبه ورق شجر العناب .

ولما ذكر تعالى ما كان من جانبه من الإحسان إليهم ، ذكر ما كان من جانبهم في مقابلته فقال : { فأعرضوا } : أي عما جاء به إليهم أنبياؤهم ، وكانوا ثلاثة عشر نبياً ، دعوهم إلى الله تعالى ، وذكروهم نعمه ، فكذبوهم وقالوا : ما نعرف لله نعمة ، فبين كيفية الانتقام منهم .

كما قال : { ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه ثم أعرض عنها } { إنا من المجرمين منتقمون } فسلط الله عليهم الجرذ فأراً أعمى توالد فيه ، ويسمى الخلد ، وخرقه شيئاً بعد شيء ، وأرسل سيلاً في ذلك الوادي ، فحمل ذلك السد ، فروي أنه كان من العظم ، وكثر به الماء بحيث ملأ ما بين الجبلين ، وحمل الجنات وكثيراً من الناس ممن لم يمكنه الفرار .

وروي أنه لما خرق السد كان ذلك سبب يبس الجنات ، فهلكت بهذا الوجه .

وقال المغيرة بن حكيم ، وأبو ميسرة : العرم في لغة اليمن جمع عرمة وهي : كل ما بني أو سنم ليمسك الماء .

وقال ابن جبير : العرم : المسناة ، بلسان الحبشة .

وقال الأخفش : هو عربي ، ويقال لذلك البناء بلغة الحجاز المسناة ، كأنها الجسور والسداد ، ومن هذا المعنى قول الأعشى :

وفي ذاك للمؤتسي أسوة *** مآرب عفى عليها العرم

رجام بنته لهم حمير *** إذا جاش دفاعه لم يرم

فأروى الزروع وأشجارها *** على سعة ماؤه إذ قسم

فصاروا أيادي لا يقدرو *** ن منه على شرب طفل فطم

وقال آخر :

ومن سبأ للحاضرين مآرب *** إذا بنوا من دونه سيل العرم

وقال ابن عباس ، وقتادة ، والضحاك : العرم اسم ، وإن ذلك الماء بعينه الذي كان السد بني به . انتهى .

ويمكن أن يسمى الوادي بذلك البناء لمجاروته له ، فصار علماً عليه .

وقال ابن عباس أيضاً : العرم : الشديد ، فاحتمل أن يكون صفة للسيل أضيف فيه الموصوف إلى صفته ، والتقدير : السيل العرم ، أو صفة لموصوف محذوف ، أي سيل المطر الشديد الذي كان عنه السيل ، أو سيل الجرذ العرم ، فالعرم صفة للجرذ .

وقيل : العرم اسم للجرذ ، وأضيف السيل إليه لكونه كان السبب في خراب السد الذي حمله السيل ، والإضافة تكون بأدنى ملابسة .

وقرأ عروة بن الورد فيما حكى ابن خالويه : العرم ، بإسكان الراء تخفيف العرم ، كقولهم : في الكبد الكبد .

ولما غرق من غرق ، ونجا من نجا ، تفرقوا وتحرفوا حتى ضربت العرب بهم المثل فقالوا : تفرقوا أيدي سبأ وأيادي سبأ ، قيل : الأوس والخزرج منهم .

وعن ابن عباس : كان سيل ذلك الوادي يصل إلى مكة وينتفع به ، وكان سيل العرم في ملك ذي الأذعار بن حسان ، في الفترة بين عيسى ونبينا صلى الله عليه وسلم . انتهى .

ودخلت الباء في { بجنتيهم } على الزائل ، وانتصب ما كان بدلاً ، وهو قوله : { جنتين } على المعهود في لسان العرب ، وإن كان كثيراً لمن ينتمي للعلم يفهم العكس حتى قال بعضهم : ولو أبدل ضاداً بظاء لم تصح صلاته ، وهو خطأ في لسان العرب ، ولو أبدل ظاء بضاد ، وقد تكلمنا على ذلك في البقرة في قوله : { ومن يتبدل الكفر بالايمان } وسمى هذا المعوض جنتين على سبيل المقابلة ، لأن ما كان فيه خمط وأثل وسدر لا يسمى جنة ، لأنها أشحار لا يكاد ينتفع بها .

وجاءت تثنية ذات على الأصح في رد عينها في التثنية فقال : { ذواتي أُكُل } ، كما جاء { ذواتا أفنان } ويجوز أن لا ترد فتقول : ذاتاً كذا على لفظ ذات ، وتقدم ذكر الخلاف في ضم كاف أُكُل وسكونها .

وقرأ الجمهور : أكل منوناً ، والأُكُل : الثمر المأكول ، فخرجه الزمخشري على أنه على حذف مضاف ، أي أُكُل خمط قال أو وصف الأُكُل بالخمط كأنه قيل ذواتي أُكُل شبع . انتهى .

والوصف بالأسماء لا يطرد ، وإن كان قد جاء منه شيء ، نحو قولهم : مررت بقاع عرفج كله .

وقال أبو علي : البدل في هذا لا يحسن ، لأن الخمط ليس بالأكل نفسه . انتهى .

وهو جائز على ما قاله الزمخشري ، لأن البدل حقيقة هو ذلك المحذوف ، فلما حذف أعرب ما قام مقامه بإعرابه .

قال أبو علي : والصفة أيضاً كذلك ، يريد لا بجنتين ، لأن الخمط اسم لا صفة ، وأحسن ما فيه عطف البيان ، كأنه بين أن الأُكُل هذه الشجرة ومنها .

انتهى .

وهذا لا يجوز على مذهب البصريين ، إذ شرط عطف البيان أن يكون معرفة ، وما قبله معرفة ، ولا يجيز ذلك في النكرة من النكرة إلا الكوفيون ، فأبو علي أخذ بقولهم في هذه المسألة .

وقرأ أبو عمرو : أُكُل خمط بالإضافة : أي ثمر خمط .

وقرىء : وأثلاً وشيئاً بالنصب ، حكاه الفضل بن إبراهيم ، عطفاً على جنتين .

وقليل صفة لسدر ، وقلله لأنه كان أحسن أشجاره وأكرم ، قاله الحسن ، وذلك إشارة إلى ما أجراه عليهم من تخريب بلادهم ، وإغراق أكثرهم ، وتمزيقهم في البلاد ، وإبدالهم بالأشجار الكثيرة الفواكه الطيبة المستلذة ، الخمط والأثل والسدر .