البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{وَلَا تَنفَعُ ٱلشَّفَٰعَةُ عِندَهُۥٓ إِلَّا لِمَنۡ أَذِنَ لَهُۥۚ حَتَّىٰٓ إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمۡ قَالُواْ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمۡۖ قَالُواْ ٱلۡحَقَّۖ وَهُوَ ٱلۡعَلِيُّ ٱلۡكَبِيرُ} (23)

ولما كان من العرب من يعبد الملائكة لتشفع له ، نفى أن شفاعتهم تنفع ، والنفي منسحب على الشفاعة ، أي لا شفاعة لهم فتنفع ، وليس المعنى أنهم يشفعون ، ولا تنفع شفاعتهم ، أي لا يقع من معبوداتهم شفاعة أصلاً .

ولأن عابديهم كفار ، فإن كان المعبودون أصناماً أو كفاراً ، كفرعون ، فسلب الشفاعة عنهم ظاهر ، وإن كانوا ملائكة أو غيرهم ممن عبد ، كعيسى عليه السلام ، فشفاعتهم إذا وجدت تكون لمؤمن .

و { إلا لمن أذن له } : استثناء مفرغ ، فالمستثنى منه محذوف تقديره : ولا تنفع الشفاعة لأحد { إلا لمن أذن له } .

واحتمل قوله لأحد أن يكون مشفوعاً له ، وهو الظاهر ، فيكون قوله : { إلا لمن أذن له } ، أي المشفوع ، أذن لأجله أن يشفع فيه ؛ والشافع ليس بمذكور ، وإنما دل عليه المعنى .

واحتمل أن يكون شافعاً ، فيكون قوله : { إلا لمن أذن له } بمعنى : إلا لشافع أذن له أن يشفع ، والمشفوع ليس بمذكور ، إنما دل عليه المعنى .

وعلى هذا الاحتمال تكون اللام في { أذن له } لام التبليغ ، لا لام العلة .

وقال الزمخشري : يقول : الشفاعة لزيد على معنى أنه الشافع ، كما يقول : الكرم لزيد ، وعلى معنى أنه المشفوع له ، كما تقول : القيام لزيد ، فاحتمل قوله : { ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له } أن يكون على أحد هذين الوجهين ، أي لا تنفع الشفاعة إلا كائنة لمن أذن له من الشافعين ومطلقة له ، أو لا تنفع الشفاعة إلا كائنة لمن أذن له ، أي لشفيعه ، أو هي اللام الثانية في قولك : أذن لزيد لعمرو ، أي لأجله ، وكأنه قيل : إلا لمن وقع الإذن للشفيع لأجله ، وهذا وجه لطيف ، وهو الوجه ، وهذا تكذيب لقولهم : هؤلاء شفعاؤنا عند الله . انتهى .

فجعل { إلا لمن أذن له } استثناء مفرغاً من الأحوال ، ولذلك قدره : إلا كائنة ، وعلى ما قررناه استثناء من الذوات .

وقال أبو عبد الله الرازي : المذاهب المفضية إلى الشرك أربعة : قائل : إن الله خلق السموات وجعل الأرض والأرضيات في حكمها ، ونحن من جملة الأرضيات ، فنعبد الكواكب والملائكة السماوية ، وهم إلهنا ، والله إلههم ، فأبطل بقوله : { لا يملكون } ، { في السموات } ، كما اعترفتم ، { ولا في الأرض } ، خلاف ما زعمتم .

وقائل : السموات من الله استبداداً ، والأرضيات منه بواسطة الكواكب ، فإنه تعالى خلق العناصر والتركيبات التي فيها بالاتصالات وحركات وطوالع ، فجعلوا مع الله شركاء في الأرض ، والأولون جعلوا الأرض لغيره ، فأبطل بقوله : { وما لهم فيهما من شرك } ، أي الأرض ، كالسماء لله لا لغيره ، ولا لغيره فيهما نصيب .

وقائل : التركيبات والحوادث من الله ، لكن فوض إلى الكواكب ، وفعل المأذون ينسب إلى الآذن ، ويسلب عن المأذون له فيه ، جعلوا السموات معينة لله ، فأبطل بقوله : { وما له منهم من ظهير } وقائل : نعبد الأصنام التي هي صور الملائكة ليشفعوا لنا ، فأبطل بقوله : { ولا تنفع الشفاعة } ، الجملة ، وأل في الشفاعة الظاهر أنها للعموم ، أي شفاعة جميع الخلق .

وقيل : للعهد ، أي شفاعة الملائكة التي زعموها شركاء وشفعاء .

انتهى ، وفيه بعض تلخيص .

وقال أبو البقاء : اللام في { لمن أذن له } يجوز أن تتعلق بالشفاعة ، لأنك تقول : أشفعت له ، وأنت تعلق بتنفع .

انتهى ، وهذا فيه قلة ، لأن المفعول متأخر ، فدخول اللام عليه قليل .

وقرأ أبو عمرو ، وحمزة ، والكسائي : أذن بضم الهمزة ؛ وباقي السبعة : بفتحها ، أي أذن الله له .

والظاهر أن الضمير في قوله : { قلوبهم } عائد على ما عادت عليه الضمائر التي للغيبة في قوله : { لا يملكون } ، وفي { ما لهم } ، و { ما لهم منهم } ، وهم الملائكة الذين دعوهم آلهة وشفعاء ، ويكون التقدير : إلا لمن أذن له منهم .

و { حتى } : تدل على الغاية ، وليس في الكلام عائد على أن حتى غاية له .

فقال ابن عطية : في الكلام حذف يدل عليه الظاهر ، كأنه قال : ولا هم شفعاء كما تحبون أنتم ، بل هم عبدة أو مسلمون أبداً ، يعني منقادون ، { حتى إذا فزع عن قلوبهم } .

قال : وتظاهرت الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أن قوله : { حتى إذا فزع عن قلوبهم } ، إنما هي في الملائكة إذا سمعت الوحي ، أي جبريل ، وبالأمر يأمر الله به سمعت ، كجر سلسلة الحديد على الصفوان ، فتفزع عند ذلك تعظيماً وهيبة .

وقيل : خوف أن تقوم الساعة ، فإذا فزع ذلك عن قلوبهم ، أي أطير الفزع عنها وكشف ، يقول بعضهم لبعض ولجبريل : { ماذا قال ربكم } ؟ فيقول المسؤلون : قال { الحق وهو العلي الكبير } ، وبهذا المعنى من ذكر الملائكة في صدر الآيات تتسق هذه الآية على الأولى ، ومن لم يشعر أن الملائكة مشار إليهم من أول قوله : { الذين زعمتم } لم تتصل له هذه الآية بما قبلها ، فلذلك اضطرب المفسرون في تفسيرها حتى قال بعضهم في الكفار ، بعد حلول الموت : ففزع عن قلوبهم بفقد الحياة ، فرأوا الحقيقة ، وزال فزعهم مما يقال لهم في حياتهم ، فيقال لهم حينئذ : { ماذا قال ربكم } ؟ فيقولون : قال الحق ، يقرون حين لا ينفعكم الإقرار .

وقالت فرقة : الآية في جميع العالم .

وقوله : { حتى } ، يريد في الآخرة ، والتأويل الأول في الملائكة هو الصحيح ، وهو الذي تظاهرت به الأحاديث ، وهذا بعيد . انتهى .

وإذا كان الضمير في { عن قلوبهم } لا يعود على { الذين زعمتم } ، كان عائداً على من عاد عليه الضمير في قوله : { ولقد صدّق عليهم إبليس } ، ويكون الضمير في { عليهم } عائداً على جميع الكفار ، ويكون حتى غاية لقوله : { فاتبعوه } ، ويكون التفزيع حالة مفارقة الحياة ، أو يجعل اتباعهم إياه مستصحباً لهم إلى يوم القيامة مجازاً .

والجملة بعد من قوله : { قل ادعوا } اعتراضية بين المغيا والغاية .

قال ابن زيد : أقروا بالله حين لا ينفعهم الإقرار ، فالمعنى : فزع الشيطان عن قلوبهم وفارقهم ما كان يطلبهم به ، { قالوا ماذا قال ربكم } .

وقال الحسن : وإنما يقال للمشركين { ماذا قال ربكم } على لسان الأنبياء ، فأقروا حين لا ينفع .

وقيل : { حتى } غاية متعلقة بقوله : { زعمتم } ، أي زعمتم الكفر إلى غاية التفزيع ، ثم تركتم ما زعمتم وقلتم : قال الحق . انتهى .

فيكون في الكلام التفاوت من خطاب في { زعمتم } إلى غيبة في { فزع عن قلوبهم } .

وعن ابن عباس : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : فإذا أذن فزع ودام فزعه حتى إذا أزيل التفزيع عن قلوبهم .

قال بعض الشافعين من الملائكة لبعض الملائكة : { ماذا قال ربكم } في قبول شفاعتنا ؟ فيجيب بعضهم لبعض : قال أي الله الحق ، أي القول الحق ، وهو قبول شفاعتهم ، إذا كان تعالى أذن لهم في ذلك ، ولا يأذن إلا وهو مريد لقبول الشفاعة .

وقال الزمخشري : فإن قلت بم اتصل قوله : { حتى إذا فزع عن قلوبهم } ؟ ولا شيء وقعت حتى غاية له .

قلت : بما فهم من هذا الكلام من أن ثم انتظار الإذن وتوقفاً وتمهلاً وفزعاً من الراجين للشفاعة والشفعاء ، هل يؤذن لهم أو لا يؤذن ؟ وأنه لا يطلق الإذن إلا بعد ملي من الزمان وطول من التربص .

ومثل هذه الحال دل عليه قوله ، عز من قائل : { رب السموات والأرض وما بينهما الرحمن لا يملكون منه خطاباً ، يوم يقوم الروح والملائكة صفاً لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صواباً } كأنه قيل : يتربصون ويتوقفون ملياً فزعين وهلين .

{ حتى إذا فزع عن قلوبهم } : أي كشف الفزع من قلوب الشافعين والمشفوع لهم بكلمة يتكلم بها رب العزة في إطلاق الإذن .

تباشروا بذلك وسأل بعضهم بعضاً : { ماذا قال ربكم } ؟ قال الحق ، أي القول الحق ، وهو الإذن بالشفاعة لمن ارتضى . انتهى .

وتلخص من هذا أن حتى غائية إما لمنطوق وهو زعمتم ، ويكون الضمير في { عن قلوبهم } التفاتاً ، وهو للكفار ، أو هو فاتبعوه ، وفيه تناسق الضمائر لغائب .

والفصل بالاعتراض والضمير أيضاً للكفار ، والضمير في { قالوا } للملائكة ، وضمير الخطاب في { ربكم } ، والغائب في { قالوا } الثانية للكفار .

وأما لمحذوف ، فما قدره ابن عطية لا يصح أن يغيا ، لأن ما بعد الغاية مخالف لما قبلها ، وهم عبدة منقادون دائماً لا ينفكون عن ذلك ، لا إذا فزع عن قلوبهم ، ولا إذا لم يفزع ، وحمل ذلك على الملائكة حال الوحي لا يناسب الآية ، وكون النبي صلى الله عليه وسلم ، في قصة الوحي قال : « فإذا جاءهم جبريل فزع عن قلوبهم » ، لا يدل على أن هذه الآية في الملائكة حالة تكلم الله بالوحي .

والحديث رواه ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : « إذا تكلم الله عز وجل بالوحي سمع أهل السماء صلصلة كجر السلسلة على الصفا ، فيصعقون ، فلا يزالون كذلك حتى يأتيهم جبريل عليه السلام ، فإذا جاءهم جبريل فزع عن قلوبهم ، فيقولون : يا جبريل ماذا قال ربك ؟ قال فيقول الحق ، فينادون الحق » وما قدره الزمخشري يحتمل ، إلا أن فيه تخصيص الذين زعمتم من دونه بالملائكة ، والذين عبدوهم ملائكة وغيرهم .

وتخصيص من أذن له بالملائكة أيضاً ، والمأذون لهم في الشفاعة الملائكة وغيرهم .

ألا ترى إلى ما حكى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، في « الشفاعة في قوله عز وجل ؟ »

وقرىء : فزع مشدداً ، من الفزع ، مبنياً للمفعول ، أي أطير الفزع عن قلوبهم .

وفعل تأتي لمعان منها : الإزالة ، وهذا منه نحوه : قردت البعير ، أي أزلت القراد عنه .

وقرأ ابن مسعود ، وابن عباس ، وطلحة ، وأبو المتوكل الناجي ، وابن السميفع ، وابن عامر : مبنياً للفاعل من الفزع أيضاً ، والضمير الفاعل في فزع إن كان الضمير في عن قلوبهم للملائكة ، فهو الله ، وإن كان للكفار ، فالضمير لمغويهم .

وقرأ الحسن : { فزع } من الفزع ، بتخفيف الزاي ، مبنياً للمفعول ، و { عن قلوبهم } في موضع رفع به ، كقولك : انطلق يزيد .

وقرأ الحسن أيضاً ، وأبو المتوكل أيضاً ، وقتادة ، ومجاهد : فزع مشدداً ، مبنياً للفاعل من الفزع .

وقرأ الحسن أيضاً : كذلك ، إلا أنه خفف الزاي .

وقرأ عبد الله بن عمر ، والحسن أيضاً ، وأيوب السختياني ، وقتادة أيضاً ، وأبو مجلز : فرغ من الفراغ ، مشدد الراء ، مبنياً للمفعول .

وقرأ ابن مسعود ، وعيسى افرنقع : عن قلوبهم ، بمعنى انكشف عنها ، وقيل : تفرق .

وقال الزمخشري : والكلمة مركبة من حروف المفارقة مع زيادة العين ، كما ركب قمطر من حروف القمط مع زيادة الراء . انتهى .

فإن عني الزمخشري أن العين من حروف الزيادة ، وكذلك الراء ، وهو ظاهر كلامه ، فليس بصحيح ، لأن العين والراء ليستا من حروف الزيادة .

وإن عنى أن الكلمة فيها حروف ، وما ذكروا زائداً إلى ذلك العين والراء كمادة فرقع وقمطر ، فهو صحيح لولا إيهام ما قاله الزمخشري في هذه الكلمة ، لم أذكر هذه القراءة لمخالفتها سواد المصحف .

وقالوا أيضاً في قوله تعالى : { حتى إذا فزع } أقوالاً غير ما سبق .

قال كعب : إذا تكلم الله عز وجل بلا كيف ضربت الملائكة بأجنحتها وخرت فزعاً ، قالوا فيما بينم : { ماذا قال ربكم قالوا الحق } .

وقيل : إذا دعاهم إسرافيل من قبورهم ، قالوا مجيبين ماذا ، وهو من الفزع الذي هو الدعاء والاستصراخ ، كما قاله زهير :

إذا فزعوا طاروا إلى مستغيثهم *** طوال الرماح لا ضعاف ولا عزل

وقيل : هو فزع ملائكة أدنى السموات عند نزول المدبرات إلى الأرض .

وقيل : لما كانت الفترة بين عيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم ، وبعث الله محمداً ، أنزل الله جبريل بالوحي ، فظنت الملائكة أنه قد نزل بشيء من أمر الساعة ، وصعقوا لذلك ، فجعل جبريل يمر بكل سماء ويكشف عنهم الفزع ويخبرهم أنه الوحي ، قاله قتادة ومقاتل وابن السائب .

وقيل : الملائكة المعقبات الذين يختلفون إلى أهل الأرض ، ويكتبون أعمالهم إذا أرسلهم الله فانحدروا ، سمع لهم صوت شديد ، فيحسب الذين هم أسفل منهم من الملائكة أنه من أمر الساعة ، فيخرون سجداً يصعقون ، رواه الضحاك عن ابن مسعود .

وهذه الأقوال والتي قبلها لا تكاد تلائم ألفاظ القرآن ، فالله أسأل أن يرزقنا فهم كتابه ، وأقر بها عندي أن يكون الضمير في { قلوبهم } عائداً على من عاد عليه اتبعوه وعليهم ، وممن هو منها في شك ، وتكون الجملة بعد ذلك اعتراضاً .

وقوله : { قالوا } ، أي الملائكة ، لأولئك المتبعين الشاكين يسألونهم سؤال توبيخ : { ماذا قال ربكم } ، على لسان من بعث إليكم بعد أن كشف الغطاء عن قلوبهم ، فيقرون إذ ذاك أن الذي قاله ، وجاءت به أنبياؤه ، وهو الحق ، لا الباطل الذي كنا فيه من اتباع إبليس .

وشكنا في البعث ماذا يحتمل أن تكون ما منصوبة بقال ، أي أي شيء قال ربكم ، وأن يكون في موضع رفع على أن ذا موصولة ، أي ما الذي قال ربكم ، وذا خبره ، ومعمول قال ضمير محذوف عائد على الموصول .

وقرأ ابن أبي عبلة : قالوا الحق ، برفع الحق ، خبر مبتدأ ، أي مقوله الحق ، { وهو العلي الكبير } ، تنزيه منهم له تعالى وتمجيد .