البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{فَقَالُواْ رَبَّنَا بَٰعِدۡ بَيۡنَ أَسۡفَارِنَا وَظَلَمُوٓاْ أَنفُسَهُمۡ فَجَعَلۡنَٰهُمۡ أَحَادِيثَ وَمَزَّقۡنَٰهُمۡ كُلَّ مُمَزَّقٍۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَٰتٖ لِّكُلِّ صَبَّارٖ شَكُورٖ} (19)

ولما طالت بهم مدة النعمة بطروا وملوا العافية ، وطلبوا استبدال الذي هو أدنى بالذي هو خير ، كما فعلت بنو إسرائيل ، وقالوا : لو كان جني ثمارنا أبعد لكان أشهى وأغلى قيمة ، فتمنوا أن يجعل الله بينهم وبين الشام مفاوز ليركبوا الرواحل فيها ويتزودوا الأزواد فقالوا : { ربنا باعد وبين أسفارنا } .

وقرأ جمهور السبعة : ربنا بالنصب على النداء ، باعد : طلب ؛ وابن كثير ، وأبو عمرو ، وهشام : كذلك ، إلا أنهم شددوا العين ؛ وابن عباس ، وابن الحنفية ، وعمرو بن فائد : ربنا رفعاً ، بعد فعلاً ماضياً مشدد العين ؛ وابن عباس أيضاً ، وابن الحنفية أيضاً ؛ وأبو رجاء ، والحسن ، ويعقوب ، وأبو حاتم ، وزيد بن علي ، وابن يعمر أيضاً ؛ وأبو صالح ، وابن أبي ليلى ، والكلبي ، ومحمد بن علي ، وسلام ، وأبو حيوة : كذلك ، إلا أنه بألف بين الباء والعين ؛ وسعيد بن أبي الحسن أخي الحسين ، وابن الحنفية أيضاً ، وسفيان بن حسين ، وابن السميفع : ربنا بالنصب ، بعد بضم العين فعلاً ماضياً بين بالنصب ، إلا سعيداً منهم ، فضم نون بين جعله فاعلاً ، ومن نصب ، فالفاعل ضمير يعود على السير ، أي أبعد السير بين أسفارنا ، فمن نصب ربنا جعله نداء ، فإن جاء بعده طلب كان ذلك أشراً منهم وبطراً وإن جاء بعد فعلاً ماضياً كان ذلك شكوى مما أحل بهم من بعد الأسفار التي طلبوها أولاً ، ومن رفع ربنا فلا يكون الفعل إلا ماضياً ، وهي جملة خبرية فيها شكوى بعضهم إلى بعض مما حل بهم من بعد الأسفار .

ومن قرأ باعد ، أو بعد بالألف والتشديد ، فبين مفعول به لأنهما فعلان متعديان ، وليس بين ظرفاً .

ألا ترى إلى قراءة من رفعه كيف جعله اسماً ؟ فكذلك إذا نصب وقرىء بعد مبنياً للمفعول .

وقرأ ابن يعمر : بين سفرنا مفرداً ؛ والجمهور : بالجمع .

{ وظلموا أنفسهم } : عطف على { فقالوا } .

وقال الكلبي : هو حال ، أي وقد ظلموا أنفسهم بتكذيب الرسل .

{ فجعلناهم أحاديث } : أي عظاة وعبراً يتحدث بهم ويتمثل .

وقيل : لم يبق منهم إلا الحديث ، ولو بقي منهم طائفة لم يكونوا أحاديث .

{ ومزقناهم كل ممزق } : أي تفريفاً ، اتخذه الناس مثلاً مضروباً ، فقال كثير :

أيادي سبايا عز ما كنت بعدكم *** فلم يحل للعينين بعدك منظر

وقال قتادة : فرقناهم بالتباعد .

وقال ابن سلام : جعلناهم تراباً تذروه الرياح .

وقال الزمخشري : غسان بالشام ، وأنمار بيثرب ، وجذام بتهامة ، والأزد بعمان ؛ وفي التحرير وقع منهم قضاعة بمكة ، وأسد بالبحرين ، وخزاعة بتهامة .

وفي الحديث أن سبأ أبو عشرة قبائل ، فلما جاء السيل على مأرب ، وهو اسم بلدهم ، تيامن منهم ستة قبائل ، أي تبدّدت في بلاد اليمن : كندة والأزد والسفر ومذحج وأنمار ، التي منها بجيلة وخثعم ، وطائفة قيل لها حجير بقي عليها اسم الأب الأول ؛ وتشاءمت أربعة : لخم وجذام وغسان وخزاعة ، ومن هذه المتشائمة أولاد قتيلة ، وهم الأوس والخزرج ، ومنها عاملة وغير ذلك .

{ إن في ذلك لآيات } : أي في قصص هؤلاء لآية : أي علامة .

{ لكل صبار } ، عن المعاصي وعلى الطاعات .

{ شكور } ، للنعم .