البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{أَفَمَن زُيِّنَ لَهُۥ سُوٓءُ عَمَلِهِۦ فَرَءَاهُ حَسَنٗاۖ فَإِنَّ ٱللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَآءُ وَيَهۡدِي مَن يَشَآءُۖ فَلَا تَذۡهَبۡ نَفۡسُكَ عَلَيۡهِمۡ حَسَرَٰتٍۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمُۢ بِمَا يَصۡنَعُونَ} (8)

{ أفمن زين له سوء عمله فرآه حسناً } : أي فرأى سوء عمله حسناً ، ومن مبتدأ موصول ، وخبره محذوف .

فالذي يقتضيه النظر أن يكون التقدير : كمن لم يزين له ، كقوله : { أفمن كان على بينة من ربه كمن زين له سوء عمله } { أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى } { أَو من كان ميتاً فأحييناه } ثم قال : { كمن مثله في الظلمات } وقاله الكسائي ، أي تقديره : تذهب نفسك عليهم حسرات لدلالة : { فلا تذهب نفسك عليهم } .

وقيل : التقدير : فرآه حسناً ، فأضله الله كمن هداه الله ، فحذف ذلك لدلالة : { فإن الله يضل من يشاء } ، وذكر هذين الوجهين الزجاج .

وشرح الزمخشري هنا { يضل من يشاء } على طريقته في غير موضع من كتابه ، من أن الإضلال هو خذلانه وتخليته وشأنه ، وأتى بألفاظ كثيرة في هذا المعنى .

وقرأ الجمهور : { أفمن زين } مبنياً للمفعول سوء رفع .

وقرأ عبيد بن عمير : زين له سوء ، مبنياً للفاعل ، ونصب سوء ؛ وعنه أيضاً أسوأ على وزن أفعل منصوباً ؛ وأسوأ عمله : هو الشرك .

وقراءة طلحة : أمن بغير فاء ، قال صاحب اللوامح : للاستخبار بمعنى العامة للتقرير ، ويجوز أن يكون بمعنى حرف النداء ، فحذف التمام كما حذف من المشهور الجواب . انتهى .

ويعني بالجواب : خبر المبتدأ ، وبالتمام : ما يؤدي لأجله ، أي تفكر قومه ، ووجوب إلى الله ، { فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء } تسلية للرسول عن كفر قومه ، ووجوب التسليم لله في إضلاله من يشاء وهداية من يشاء .

وقرأ الجمهور : { فلا تذهب نفسك } ، مبنياً للفاعل من ذهب ، ونفسك فاعل .

وقرأ أبو جعفر ، وقتادة ، وعيسى ، والأشهب ، وشيبة ، وأبو حيوة ، وحميد والأعمش ، وابن محيصن : تذهب من أذهب ، مسند الضمير المخاطب ، نفسك : نصب ، ورويت عن نافع : والحسرة هم النفس على فوات أمر .

وانتصب { حسرات } على أنه مفعول من أجله ، أي فلا تهلك نفسك للحسرات ، وعليهم متعلق بتذهب ، كما تقول : هلك عليه حباً ، ومات عليه حزناً ، أو هو بيان للمتحسر عليه ، ولا يتعلق بحسرات لأنه مصدر ، فلا يتقدّم معموله .

وقال الزمخشري : ويجوز أن يكون حالاً ، كأنه كلها صارت حسرات لفرط التحسر ، كما قال جرير :

مشق الهواجر لحمهن مع السرى *** حتى ذهبن كلاكلاً وصدرواً

يريد : رجعن كلاكلاً وصدوراً ، أي لم يبق إلا كلاكلها وصدورها ، ومنه قوله :

فعلى إثرهم تساقط نفسي *** حسرات وذكرهم لي سقام

انتهى .

وما ذكر من أن كلاكلاً وصدوراً حالان هو مذهب سيبويه .

وقال المبرد : هو تمييز منقول من الفاعل ، أي حتى ذهبت كلاكلها وصدورها .

ثم توعدهم بالعقاب على سوء صنعهم فقال : { إن الله عليم بما يصنعون } : أي فيجازيهم عليه .

{