البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{وَمَن لَّمۡ يَسۡتَطِعۡ مِنكُمۡ طَوۡلًا أَن يَنكِحَ ٱلۡمُحۡصَنَٰتِ ٱلۡمُؤۡمِنَٰتِ فَمِن مَّا مَلَكَتۡ أَيۡمَٰنُكُم مِّن فَتَيَٰتِكُمُ ٱلۡمُؤۡمِنَٰتِۚ وَٱللَّهُ أَعۡلَمُ بِإِيمَٰنِكُمۚ بَعۡضُكُم مِّنۢ بَعۡضٖۚ فَٱنكِحُوهُنَّ بِإِذۡنِ أَهۡلِهِنَّ وَءَاتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِٱلۡمَعۡرُوفِ مُحۡصَنَٰتٍ غَيۡرَ مُسَٰفِحَٰتٖ وَلَا مُتَّخِذَٰتِ أَخۡدَانٖۚ فَإِذَآ أُحۡصِنَّ فَإِنۡ أَتَيۡنَ بِفَٰحِشَةٖ فَعَلَيۡهِنَّ نِصۡفُ مَا عَلَى ٱلۡمُحۡصَنَٰتِ مِنَ ٱلۡعَذَابِۚ ذَٰلِكَ لِمَنۡ خَشِيَ ٱلۡعَنَتَ مِنكُمۡۚ وَأَن تَصۡبِرُواْ خَيۡرٞ لَّكُمۡۗ وَٱللَّهُ غَفُورٞ رَّحِيمٞ} (25)

الخدن والخدين : الصاحب .

الطول : الفضل ، يقال منه : طال عليه يطول طولاً فضل عليه .

وقال الليث والزجاج : الطول القدرة . انتهى .

ويقال له : عليه طول أي زيادة وفضل ، وقد طاله طولاً فهو طائل .

قال الشاعر :

لقد زادني حباً لنفسي أنني *** بغيض إلى كل امرىء غير طائل

ومنه الطول في الجسم لأنه زيادة فيه ، كما أن القصر قصور فيه ونقصان .

الفتاة الحديثة السن والفتاء الحداثة .

قال : فقد ذهب المروءة والفتاء .

وقال ابن منصور الجواليقي : المتفتية والفتاة المراهقة ، والفتى الرفيق ، ومنه : { وإذ قال موسى لفتاه } والفتى : العبد .

ومنه : « لا يقل أحدكم عبدي ولا أمتي ولكن ليقل فتاي وفتاتي »

{ ومن لم يستطع منكم طولاً أن ينكح المحصنات المؤمنات فمما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات } الطول : السعة في المال قاله : ابن عباس ، ومجاهد ، وابن جبير ، والسدي ، وابن زيد ، ومالك في المدونة .

وقال ابن مسعود ، وجابر ، وعطاء ، والشعبي ، والنخعي ، وربيعة : الطول هنا الجلد والصبر لمن أحب أمة وهويها حتى صار لا يستطيع أن يتزوج غيرها فله أن يتزوجها ، وإن كان يجد سعة في المال لنكاح حرة .

والمحصنات هنا الحرائر ، يدل على ذلك التقسيم بينهن وبين الإماء .

وقالت فرقة : معناه العفائف ، وهو ضعيف .

واختلفوا في جواز نكاح الأمة لواجد طول الحرة .

وظاهر الآية يدل على أنّ من لم يستطع ما يتزوج به الحرة المؤمنة وخاف العنت ، فيجوز له أن يتزوج الأمة المؤمنة ، ويكون هذا تخصيصاً لعموم قوله : { وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم }

فيكون تخصيصاً في الناكح بشرط أن لا يجد طول الحرة ويخاف العنت ، وتخصيصاً في إمائكم بقوله : من فتيانكم المؤمنات ، وتخصيص جواز نكاح الإماء بالمؤمنات لغير واجد طول الحرة ، هو مذهب أهل الحجاز .

فلا يجوز له نكاح الأمة الكتابية ، وبه قال : الأوزاعي ، والليث ، ومالك ، والشافعي .

وذهب العراقيون أبو حنيفة وأبو يوسف وزفر ومحمد والحسن بن زياد والثوري ومن التابعين الحسن ومجاهد إلى جواز ذلك .

ونكاح الأمة المؤمنة أفضل ، فحملوه على الفضل لا على الوجوب .

واستدلوا على أنّ الإيمان ليس بشرط بكونه وصف به الحرائر في قوله : أن ينكح المحصنات المؤمنات ، وليس بشرط فيهن اتفاقاً ، لكنه أفضل .

وقال ابن عباس : وسع الله على هذه الأمة بنكاح الأمة ، واليهودية ، والنصرانية .

وقد اختلف السلف في ذلك اختلافاً كثيراً : روي عن ابن عباس ، وجابر ، وابن جبير ، والشعبي ، ومكحول : لا يتزوج الأمة إلا من لا يجد طولاً للحرة ، وهذا هو ظاهر القرآن .

وروي عن مسروق ، والشعبي : أن نكاحها بمنزلة الميتة والدم ولحم الخنزير ، يعني : أنه يباح عند الضرورة .

وروي عن علي ، وأبي جعفر ، ومجاهد ، وابن المسيب ، وابراهيم ، والحسن ، والزهري : أن له نكاحها ، وإن كان موسراً .

وروي عن عطاء ، وجابر بن زيد : أنه يتزوجها إن خشي أن يزني بها ، ولو كان تحته حرة .

قال عطاء : يتزوج الأمة على الحرة .

وقال ابن مسعود : لا يتزوجها عليها إلا المملوك .

وقال عمر ، وعلي ، وابن المسيب ، ومكحول في آخرين : لا يتزوجها عليها .

وهذا الذي يقتضيه النظر ، لأن القرآن دل على أنه لا ينكح الأمة إلا مَن لا يجد طولاً للحرة .

فإذا كانت تحته حرة ، فبالأولى أن لا يجوز له نكاح الأمة ، لأن وجدان الطول للحرة إنما هو سبب لتحصيلها ، فإذا كانت حاصلة كان أولى بالمنع .

وقال ابراهيم : يتزوج الأمة على الحرة إن كان له من الأمة ولد .

وقال ابن المسيب : لا ينكحها عليها إلا أن تشاء الحرة ، ويقسم للحرة يومين ، وللأمة يوماً وظاهر قوله : فمما ملكت أيمانكم ، جواز نكاح عادم طول الحرة المؤمنة أربعاً من الإماء إن شاء .

وروي عن ابن عباس : أنه لا يتزوج من الإماء أكثر من واحدة ، وإذا لم يكن شرطاً في الأمة الإيمان فظاهر قوله : فمما ملكت أيمانكم من فتيانكم ، أنه لو كانت الكتابية مولاها كافر لم يجز نكاحها ، لأنه خاطب بقوله : فمما ملكت أيمانكم من فتيانكم المؤمنات ، فاختص بفتيات المؤمنين ، وروي عن أبي يوسف : جواز ذلك على كراهة .

وإذا لم يكن الإيمان شرطاً في نكاح الأمة ، فالظاهر جواز نكاح الأمة الكافرة مطلقاً ، سواء كانت كتابية ، أو مجوسية ، أو وثنية ، أم غير ذلك من أنواع الكفار .

وأجمعوا على تحريم نكاح الأمة الكافرة غير الكتابية : كالمجوسية ، والوثنية ، وغيرهما .

وأما وطء المجوسية بملك اليمين فأجازه : طاوس ، وعطاء ، ومجاهد ، وعمرو بن دينار .

ودلت على هذا القول ظواهر القرآن في عموم : ما ملكت أيمانكم ، وعموم { إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم } قالوا : وهذا قول شاذ مهجور ، لم يلتفت إليه أحد من فقهاء الأمصار .

وقالوا : لا يحل له أن يطأها حتى تسلم .

وقالوا : إنما كان نكاح الأمة منحطاً عن نكاح الحرة لما فيه من اتباع الولد لأمه في الرق ، ولثبوت حق سيدها فيها ، وفي استخدامها ، ولتبذلها بالولوج والخروج ، وفي ذلك نقصان نكاحها ومهانته إذ رضي بهذا كله ، والعزة من صفات المؤمنين .

ومن مبتدأ ، وظاهره أنه شرط .

والفاء في : فمما ملكت فاء الجواب ، ومن تتعلق بمحذوف تقديره : فلينكح من ما ملكت .

ويجوز أن يكون مَن موصولة ، ويكون العامل المحذوف الذي يتعلق به قوله : مما ملكت جملة في موضع الخبر .

ومسوغات دخول الفاء في خبر المبتدأ موجودة هنا .

والظاهر أنَّ مفعول يستطع هو طولاً ، وأن ينكح على هذا أجازوا ، فيه أن يكون أصله بحرف جر ، فمنهم من قدره بإلى ، ومنهم من قدره باللام أي : طولاً إلى أن ينكح ، أو لأن ينكح ، ثم حذف حرف الجر ، فإذا قدر إلى ، كان المعنى : ومَن لم يستطع منكم وصلة إلى أن ينكح .

وإذا قدر باللام ، كان في موضع الصفة التقدير : طولاً أي : مهراً كائناً لنكاح المحصنات .

وقيل : اللام المقدرة لام المفعول له أي : طولاً لأجل نكاح المحصنات ، وأجازوا أن يكون : أن ينكح في موضع نصب على المفعول به ، وناصبة طول .

إذ جعلوه مصدر طلت الشيء أي نلته ، قالوا : ومنه قول الفرزدق :

إن الفرزدق صخرة عادية *** طالت فليس تنالها الأوعالا

أي طالت الأوعال أي : ويكون التقدير ومَن لم يستطع منكم أن ينال نكاح المحصنات .

ويكون قد أعمل المصدر المنون في المفعول به كقوله :

بضرب بالسيوف رؤوس قوم *** أزلنا هامهن عن المقيل

وهذا على مذهب البصريين إذ أجازوا إعمال المصدر المنون .

وإلى أنَّ طولاً مفعول ليستطيع ، وإن ينكح في موضع مفعول بقوله : طولاً ، إذ هو مصدر .

ذهب أبو علي في التذكرة ، وأجازوا أيضاً أن يكون أن ينكح بدلاً من طول ، قالوا : بدل الشيء من الشيء ، وهما لشيء واحد ، لأن الطول هو القدرة والنكاح قدرة .

وأجازوا أن يكون مفعول يستطع قوله : أن ينكح .

وفي نصب قوله : طولاً وجهان : أحدهما : أن يكون مفعولاً من أجله على حذف مضاف ، أي : ومن لم يستطع منكم لعدم طول نكاح المحصنات .

والثاني : قاله : ابن عطية .

قال : ويصح أن يكون طولاً نصب على المصدر ، والعامل فيه الاستطاعة ، لأنها بمعنى يتقارب .

وأن ينكح على هذا مفعول بالاستطاعة ، أو بالمصدر انتهى كلامه .

وكأنه يعني أنَّ الطول هو استطاعة ، فيكون التقدير : ومن لم يستطع منكم استطاعة أن ينكح .

وما من قوله : فمما ملكت ، موصولة اسمية أي : فلينكح من النوع الذي ملكته أيمانكم .

ومن فتياتكم : في موضع الحال من الضمير المحذوف في ما ملكت ، العائد على ما .

ومفعول الفعل المحذوف الذي هو فلينكح محذوف ، التقدير : فلينكح أمة مما ملكت أيمانكم .

ومِن للتبعيض ، نحو : أكلت من الرغيف .

وقيل : مِن في من ما زائدة ، ومفعول ذلك الفعل هو ما من قوله : ما ملكت أيمانكم .

وقيل : مفعوله فتياتكم على زيادة من .

وقيل : مفعوله المؤمنات ، والتقدير : فلينكح مما ملكت أيمانكم من فتياتكم الفتيات المؤمنات .

والأظهر أن المؤمنات صفة لفتياتكم .

وقيل : ما مصدرية التقدير ، من ملك إيمانكم .

وعلى هذا يتعلق من فتياتكم بقوله : ملكت .

ومن أغرب ما سطروه في كتب التفسير ونقلوه عن قول الطبري : أنّ فاعل ذلك الفعل المحذوف هو قوله : { بعضكم من بعض } وفي الكلام تقديم وتأخير .

والتقدير : وَمَنْ لم يستطع منكم طولاً أن ينكح المحصنات المؤمنات فلينكح بعضهم من بعض الفتيات ، وهذا قول ينزه حمل كتاب الله عليه ، لأنه قول جمع الجهل بعلم النحو وعلم المعاني ، وتفكيك نظم القرآن عن أسلوبه الفصيح ، فلا ينبغي أن يسطر ولا يلتفت إليه .

ومنكم : خطاب للناكحين ، وفي : أيمانكم من فتياتكم خطاب للمالكين ، وليس المعنى أن الرجل ينكح فتاة نفسه ، وهذا التوسع في اللغة كثير .

{ والله أعلم بإيمانكم } لما خاطب المؤمنين بالحكم الذي ذكره من تجويز نكاح عادم طول الحرة المؤمنة للأمة المؤمنة ، نبّه على أنّ الإيمان هو وصف باطن ، وأنّ المطلع عليه هو الله .

فالمعنى : أنه لا يشترط في إيمان الفتيات أن يكونوا عالمين بذلك العلم اليقين ، لأن ذلك إنما هو لله تعالى ، فيكفي من الإيمان منهن إظهاره .

فمن كانت مظهرة للإيمان فنكاحها صحيح ، وربما كانت خرساء ، أو قريبة عهد بسباء وأظهرت الإيمان ، فيكتفي بذلك منها .

والخطاب في بإيمانكم للمؤمنين ذكورهم وإناثهم ، حرهم ورقهم ، وانتظم الإيمان في هذا الخطاب ، ولم يفردن بذلك فلم يأت والله أعلم بإيمانهن ، لئلا يخرج غيرهن عن هذا الخطاب .

والمقصود : عموم الخطاب ، إذ كلهم محكوم عليه بذلك .

وكم أمة تفوق حرة في الإيمان وفعل الخير ، وامرأة تفوق رجلاً في ذلك ، وفي ذلك تأنيس لنكاح الإماء ، وأن المؤمن لا يعتبر الأفضل الإيمان ، لا فضل الأحساب والأنساب { إن أكرمكم عند الله أتقاكم } ، « لا فضل لعربي على عجمي ولا عجمي على عربي إلا بالتقوى »

{ بعضكم من بعض } هذه جملة من مبتدأ وخبر ، وقد تقدم قول الطبري في أن ارتفاع بعضكم على الفاعلية بالفعل المحذوف ، ومعنى هذه الجملة الابتدائية : التأنيس أيضاً بنكاح الإماء ، وأن الأحرار والأرقاء كلهم متواصلون متناسبون يرجعون إلى أصل واحد ، وقد اشتركوا في الإيمان ، فليس بضائر نكاح الإماء .

وفيه توطئة العرب ، إذ كانت في الجاهلية تستهجن ولد الأمة ، وكانوا يسمونه الهجين ، فلما جاء الشرع أزال ذلك .

وما أحسن ما روي عن عليّ من قوله :

الناس من جهة التمثيل أكفاء *** أبوهم آدم والأم حواء

{ فانكحوهن بإذن أهلهن } هذا أمر إباحة ، والمعنى : بولاية ملاكهن .

والمراد بالنكاح هنا : العقد ، ولذلك ذكر إيتاء الأجر بعده أي المهر .

وسمي ملاك الإماء أهلاً لهن ، لأنهم كالأهل ، إذ رجوع الأمة إلى سيدها في كثير من الأحكام .

وقد قال صلى الله عليه وسلم : « لا تحل الصدقة لمحمد ولا لآل محمد » .

وقال صلى الله عليه وسلم : « موالي القوم منهم » .

وقيل : هو على حذف مضاف بإذن أهل ولايتهن ، وأهل ولاية نكاحهن هم الملاك .

ومقتضى هذا الخطاب أنّ الأدب شرط في صحة النكاح ، فلو تزوجت بغير إذن السيد لم يصح النكاح ، ولو أجازه السيد بخلاف العبد .

فإنه لو تزوج بغير إذن سيده فإن مذهب الحسن وعطاء ، وابن المسيب ، وشريح ، والشعبي ، ومالك ، وأبي حنيفة : أنّ تزوجه موقوف على إذن السيد ، فإن أجازه جاز ، وإن ردَّه بطل .

وقال الأوزاعي ، والشافعي ، وداود : لا يجوز ، أجازه المولى أو لم يجزه .

وأجمعوا على أنه لا يجوز نكاح العبد بغير إذن سيده ، وكان ابن عمر يعده زانياً ويحدّه ، وهو قول : أبي ثور .

وقال عطاء : لا حد عليه ، وليس بزنا ، ولكنه أخطأ السنة .

وهو قول أكثر السلف .

وظاهر قوله : بإذن أهلهن أنه يشمل الملاك ذكوراً وإناثاً ، فيشترط إذن المرأة في تزويج أمتها ، وإذا كان المراد بالإذن هو العقد فيجوز للمرأة أن تزوج أمتها وتباشر العقد ، كما يجوز للذكر .

وقال الشافعي : لا يجوز ، بل توكل غيرها في التزويج .

وقال الزمخشري : بإذن أهلهن ، اشترط الإذن للموالي في نكاحهن ، ويحتج به لقول أبي حنيفة : إنَّ لهن أن يباشرن العقد بأنفسهن ، لأنه اعتبر إذن الموالي لا عقدهم .

{ وآتوهن أجورهن بالمعروف } الأجور هنا المهور .

وفيه دليل على وجوب إيتاء الأمة مهرها لها ، وأنها أحق بمهرها من سيدها ، وهذا مذهب مالك ، قال : ليس للسيد أن يأخذ مهر أمته ويدعها بلا جهاز .

وجمهور العلماء : على أنه يجب دفعه للسيد دونها .

قيل : الإماء وما في أيديهن مال الموالي ، فكان أداؤه إليهن أداء إلى الموالي .

وقيل : على حذف مضاف أي : وآتوا مواليهن .

وقيل : حذف بإذن أهلهن بعد قوله : { وآتوهن أجورهن } لدلالة قوله : { فانكحوهن بإذن أهلهن } عليه وصار نظيراً { الحافظين فروجهم والحافظات } أي فروجهن ، { والذاكرين الله كثيراً والذاكرات } أي الله كثيراً .

وقال بعضهم : أجورهن نفقاتهن .

وكون الأجور يراد بها المهور هو الوجه ، لأن النفقة تتعلق بالتمكين لا بالعقد .

وظاهر قوله : بالمعروف ، أنه متعلق بقوله : وآتوهن أجورهن .

قيل : ومعناه بغير مطل وضرار ، وإخراج إلى اقتضاء ولز .

وقيل : معناه بالشرع والسنة أي : المعروف من مهور أمثالهن اللاتي ساوينهن في المال والحسب .

وقيل : بالمعروف ، متعلق بقوله : فانكحوهن ، أي : فانكحوهن بالمعروف بإذن أهلهن ، ومهر مثلهن ، والإشهاد على ذلك .

فإن ذلك هو المعروف في غالب الأنكحة .

{ محصنات } أي عفائف ، ويحتمل مسلمات .

{ غير مسافحات } أي غير معلنات بالزنا .

{ ولا متخذات أخدان } أي : ولا متسترات بالزنا مع أخدانهن .

وهذا تقسيم الواقع لأن الزانية إما أن تكون لا ترد يد لامس ، وإما أن تقتصر على واحد ، وعلى هذين النوعين كان زنا الجاهلية .

قال ابن عباس : كان قوم يحرمون ما ظهر من الزنا ويستحلون ما خفي منه .

والخدن : هو الصديق للمرأة يزني بها سراً ، فنهى الله تعالى عن الفواحش ما ظهر منها وما بطن .

وانتصاب محصنات على الحال ، والظاهر أنّ العامل فيه : وآتوهن ، ويجوز على هذا الوجه أن يكون معنى محصنات مزوجات أي : وآتوهن أجورهن في حال تزويجهن ، لا في حال سفاح ، ولا اتخاذ خدن .

قيل : ويجوز أن يكون العامل في محصنات فانكحوهن محصنات أي : عفائف أو مسلمات ، غير زوان .

{ فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب } قال الجمهور ومنهم ابن مسعود : الإحصان هنا الإسلام .

والمعنى : أن الأمة المسلمة عليها نصف حد الحرة المسلمة .

وقد ضعف هذا القول ، بأن الصفة لهن بالإيمان قد تقدّمت في قوله : { من فتياتكم المؤمنات } فكيف يقال في المؤمنات : فإذا أسلمن ؟ قاله : إسماعيل القاضي .

وقال ابن عطية : ذلك غير لازم ، لأنه جائز أن يقطع في الكلام ويزيد ، فإذا كنّ على هذه الصفة المتقدمة من الإيمان فإن أتين فعليهن ، وذلك سائغ صحيح انتهى .

وليس كلامه بظاهر ، لأن أسلمن فعل دخلت عليه أداة الشرط ، فهو مستقبل مفروض التجدد والحدوث فيما يستقبل ، فلا يمكن أن يعبر به عن الإسلام ، لأن الإسلام متقدم سابق لهن .

ثم إنه شرط جاء بعد قوله تعالى : { فانكحوهن } فكأنه قيل : فإذا أحصن بالنكاح ، فإن أتين .

ومن فسر الإحصان هنا بالإسلام جعله شرطاً في وجوب الحد ، فلو زنت الكافرة لم تحد ، وهذا قول : الشعبي ، والزهري ، وغيرهما ، وقد روي عن الشافعي .

وقالت فرقة : هو التزويج ، فإذا زنت الأمة المسلمة التي لم تتزوج فلا حد عليها قاله : ابن عباس ، والحسن ، وابن جبير ، وقتادة .

وقالت فرقة : هو التزوج .

وتحد الأمة المسلمة بالسنة تزوجت أو لم تتزوج ، بالحديث الثابت في صحيح البخاري ومسلم ، وهو أنه قيل : يا رسول الله ، الأمة ، إذا زنت ولم تحصن ، فأوجب عليها الحد « .

قال الزهري : فالمتزوجة محدودة بالقرآن ، والمسلمة غير المتزوجة محدودة بالحديث .

وهذا السؤال من الصحابة يقتضي أنهم فهموا أنّ معنى : فإذا أحصن ، تزوجن .

وجواب الرسول : يقتضي تقرير ذلك ، ولا مفهوم لشرط الإحسان الذي هو التزوج ، لأنه وجب عليه الحد بالسنة وإن لم تحصن ، وإنما نبه على حالة الإحصان الذي هو التزوج ، لئلا يتوهم أنّ حدها إذا تزوجت كحد الحرة إذا أحصنت وهو الرجم ، فزال هذا التوهم بالإخبار : أنه ليس عليها إلا نصف الحد الذي يجب على الحرائر اللواتي لم يحصن بالتزويج ، وهو الجلد خمسين .

والمراد بالعذاب الجلد كقوله تعالى : { وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين } ولا يمكن أن يراد الرجم ، لأنّ الرجم لا يتنصف .

والمراد بفاحشة هنا : الزنا ، بدليل إلزام الحد .

والظاهر أنه يجب نصف ما على الحرة من العذاب ، والحرة عذابها جلد مائة وتغريب عام ، فحد الأمة خمسون وتغريب ستة أشهر .

وإلى هذا ذهب جماعة من التابعين ، واختاره الطبري .

وذهب ابن عباس والجمهور : إلى أنه ليس عليها إلا جلد خمسين فقط ، ولا تغرب .

فإن كانت الألف واللام في العذاب لعهد العذاب المذكور في القرآن فهو الجلد فقط ، وإن كانت للعهد في العذاب المستقر في الشرع على الحرة كان الجلد والتغريب .

والظاهر وجوب الحد من قوله : فعليهن ، فلا يجوز العفو عن الأمة من السيد إذا زنت ، وهو مذهب الجمهور .

وذهب الحسن إلى أن للسيد أن يعفو ، ولم تتعرض الآية لمن يقيم الحد عليها .

قال ابن شهاب : مضت السنة أن يحدّ الأمة والعبد في الزنا أهلوهم ، إلا أن يرفع أمرهم إلى السلطان ، فليس لأحد أن يفتات عليه .

وقال ابن أبي ليلى : أدركت بقايا الأنصار يضربون الوليدة من ولائدهم إذا زنت في مجالسهم .

وأقام الحد على عبيدهم جماعة من الصحابة منهم : ابن عمر ، وأنس .

وجاءت بذلك ظواهر الأحاديث كقوله : « إِذَا زنت أمة أحدكم فليجلدها الحد » وبه قال الثوري والأوزاعي .

وقال مالك والليث : يحد السيد إلا في القطع ، فلا يقطع إلا الإمام .

وقال أبو حنيفة : لا يقيم الحدود على العبيد والإماء إلا السلطان دون الموالي وظاهر الآية يدل على وجوب الحد عليها في حال كونها أمة ، فلو عتقت قبل أن يقام عليها الحد أقيم عليها حد أمة ، وهذا مجمع عليه .

والمحصنات هنا الأبكار الحرائر ، لأنّ الثيب عليها الرجم .

وظاهر الآية أنه لا يجب إلا هذا الحدّ .

وذهب أهل الظاهر منهم داود : إلى أنه يجب بيعها إذا زنت زنية رابعة .

وقرأ حمزة والكسائي : أحصن مبنياً للفاعل ، وباقي السبعة : مبنياً للمفعول إلا عاصماً ، فاختلف عنه .

ومن بناه للمفعول فهو ظاهر حدًّا في أنه أريد به التزوج ، ويقوي حمله مبنياً للفاعل على هذا المعنى أي : أحصن أنفسهن بالتزويج .

وجواب فإذا الشرط وجوابه وهو قوله : فإن أتين بفاحشة فعليهن ، فالفاء في : فإن أتين هي فاء الجواب ، لا فاء العطف ، ولذلك ترتب الثاني ، وجوابه على وجود الأول ، لأنّ الجواب مترتب على الشرط في الوجود ، وهو نظير : إن دخلت الدار فإن كلمت زيداً فأنت طالق ، لا يقع الطلاق إلا إذا دخلت الدار أولاً ثم كلمت زيداً ثانياً .

ولو أسقطت الفاء من الشرط الثاني لكان له حكم غير هذا ، وتفصيل ذكر في النحو .

ومن العذاب في موضع الحال من الضمير المستكن في صلة ما .

{ ذلك لمن خشي العنت منكم } ذلك إشارة إلى نكاح عادم طول الحرّة المؤمنة .

والعنت : هو الزنا .

قاله : ابن عباس ، ومجاهد ، وابن جبير ، والضحاك ، وعطية العوفي ، وعبد الرحمن بن زيد .

والعنت : أصله المشقة ، وسمي الزنا عنتاً باسم ما يعقبه من المشقة في الدنيا والآخرة .

قال المبرد : أصل العنت أن يحمله العشق والشبق على الزنا ، فيلقى العذاب في الآخرة ، والحدّ في الدنيا .

وقال أبو عبيدة والزجاج : العنت الهلاك .

وقالت طائفة : الحد .

وقالت طائفة : الإثم الذي تؤدي إليه غلبة الشهوة .

وظاهر هذا أنه إذا لم يخش العنت لا يجوز له نكاح الأمة .

والذي دلّ عليه ظاهر القرآن : أنه لا يجوز نكاح الحرّ الأمة إلا بثلاثة شروط : إثنان في الناكح وهما : عدم طول الحرّة المؤمنة ، وخوف العنت .

وواحد في الأمة وهو الإيمان .

{ وأن تصبروا خير لكم } ظاهره الإخبار عن صبر خاص ، وهو غير نكاح الإماء ، وقاله ابن عباس ومجاهد وابن جبير والسدي : وجهة الخيرية كونه لا يرق ولده ، وأن لا يبتذل هو ، وينتقص في العادة بنكاح الأمة .

وفي سنن ابن ماجة من حديث أنس قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « من أراد أن يلقى الله طاهراً مطهراً فليتزوج الحرائر » وجاء في الحديث : « انكحوا الأكفاء واختاروا لنطفكم » وقيل : المراد وإن تصبروا عن الزنا بنكاح الإماء خير لكم ، وعلى هذا فالخيرية ظاهرة .

ويكون على هذا القول في الآية إيناس لنكاح الإماء ، وتقريب منه ، إذ كانت العرب تنفر عنه .

وإذا جعل : وإن تصبروا عاماً ، اندرج فيه الصبر المقيد وهو : عن نكاح الإماء ، وعن الزنا .

إذ الصبر خير ، من عدمه ، لأنه يدل على شجاعة النفس وقوة عزمها ، وعظم إبائها ، وشدة حفاظها .

وهذا كله يستحسنه العقل ، ويندب إليه الشرع ، وربما أوجبه في بعض المواضع .

وجعل الله تعالى أجر الصابر موفاة بغير حساب ، وقد قال بعض أهل العلم : إنّ سائر العبادات لا بد لها من الصبر .

قال تعالى : { واستعينوا بالصبر والصلاة }

{ والله غفور رحيم } لما ندب بقوله : وأن تصبروا إلى الصبر عن نكاح الإماء ، صار كأنه في حيز الكراهة ، فجاء بصفة الغفران المؤذنة بأنَّ ذلك مما سامح فيه تعالى ، وبصفة الرحمة حيث رخص في نكاحهن وأباحه .

/خ28