البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{وَلَقَدِ ٱسۡتُهۡزِئَ بِرُسُلٖ مِّن قَبۡلِكَ فَحَاقَ بِٱلَّذِينَ سَخِرُواْ مِنۡهُم مَّا كَانُواْ بِهِۦ يَسۡتَهۡزِءُونَ} (10)

حاق يحيق حيقاً وحيوقاً وحيقاناً أي : أحاط ، قاله الضحاك : ولا يستعمل إلا في الشر .

قال الشاعر :

فأوطأ جرد الخيل عقر ديارهم *** وحاق بهم من بأس ضبه حائق

وقال الفرّاء : حاق به عاد عليه وبال مكره .

وقال النضر : وجب عليه .

وقال مقاتل : دار .

وقيل : حلّ ونزل ومن جعله مشتقاً من الحوق وهو ما استدار بالشيء فليس قوله بصحيح ، لاختلاف المادتين وكذلك من قال : أصله حق فأبدلت القاف الواحدة ياء كما قالوا : في تظننت : تظنيت لأنها دعوى لا دليل على صحتها .

سخر منه : هزأ به والسخرى والاستهزاء والتهكم معناها متقارب .

{ ولقد استهزئ برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزئون } .

هذه تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم على ما كان يلقى من قومه وتأسّ بمن سبق من الرسل وهو نظير وإن يكذبوك فقد كذب رسل من قبلك لأن ما كان مشتركاً من ما لا يليق أهون على النفس مما يكون فيه الانفراد وفي التسلية والتأسي من التخفيف ما لا يخفى .

وقالت الخنساء :

ولولا كثرة الباكين حولي *** على إخوانهم لقتلت نفسي

وما يبكون مثل أخي ولكن *** أسلي النفس عنه بالتأسي

وقال بعض المولدين :

ولا بد من شكوى إلى ذي مروءة *** يواسيك أو يسليك أو يتوجع

ولما كان الكفار لا ينفعهم الاشتراك في العذاب ولا يتسلون بذلك ، نفى ذلك تعالى عنهم فقال : { ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم أنكم في العذاب مشتركون } قيل : كان قوم يقولون : يجب أن يكون ملكاً من الملائكة على سبيل الاستهزاء ، فيضيق قلب الرسول عند سماع ذلك فسلاه الله تعالى بإخباره أنه قد سبق للرسل قبلك استهزاء قومهم بهم ليكون سبباً للتخفيف عن القلب ، وفي قوله تعالى : { فحاق } إلى آخره ، إخبار بما جرى للمستهزئين بالرسل قبلك ووعيد متيقن لمن استهزأ بالرسول عليه السلام وتثبيت للرسول على عدم اكتراثه بهم ، لأن مآلهم إلى التلف والعقاب الشديد المرتب على الاستهزاء ، وأنه تعالى يكفيه شرهم وإذايتهم كما قال تعالى :

{ إنا كفيناك المستهزئين } ومعنى { سخروا } استهزؤوا إلا أن استهزأ تعدّى بالباء وسخر بمن كما قال : { إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون } وبالباء تقول : سخرت به وتكرر الفعل هنا لخفة الثلاثي ولم يتكرر في { ولقد استهزئ } فكان يكون التركيب ، { فحاق بالذين } استهزؤوا بهم لثقل استفعل ، والظاهر في { ما } أن تكون بمعنى الذي وجوّزوا أن تكون { ما } مصدرية ، والظاهر أن الضمير في { منهم } عائد على الرسل ، أي { فحاق بالذين سخروا } من الرسل وجوز الحوفي وأبو البقاء أن يكون عائداً على غير الرسل .

قال الحوفي : في أمم الرسل .

وقال أبو البقاء : على المستهزئين ، ويكون { منهم } حالاً من ضمير الفاعل في { سخروا } وما قالاه وجوزاه ليس بجيد ، أما قول الحوفي فإن الضمير يعود على غير مذكور وهو خلاف الأصل ، وأما قول أبي البقاء فهو أبعد لأنه يصير المعنى : { فحاق بالذين سخروا } كائنين من المستهزئين فلا حاجة لهذه الحال لأنها مفهومة من قوله { سخروا } وقرأ عاصم وأبو عمرو وحمزة بكسر دال { ولقد استهزئ } على أصل التقاء الساكنين .

وقرأ باقي السبعة بالضم اتباعاً ومراعاة لضم التاء إذ الحاجز بينهما ساكن ، وهو حاجز غير حصين .