البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{قُلۡ أَغَيۡرَ ٱللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّٗا فَاطِرِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَهُوَ يُطۡعِمُ وَلَا يُطۡعَمُۗ قُلۡ إِنِّيٓ أُمِرۡتُ أَنۡ أَكُونَ أَوَّلَ مَنۡ أَسۡلَمَۖ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ ٱلۡمُشۡرِكِينَ} (14)

فطر خلق وابتدأ من غير مثال ، وعن ابن عباس ما كنت أعرف معنى فطر حتى أتاني أعرابيان يختصمان في بئر فقال أحدهما : أنا فطرتها أي اخترعتها وأنشأتها ، وفطر أيضاً شق يقال فطر ناب البعير ومنه هل ترى من فطور ؟ وقوله : ينفطرن منه .

{ قل أغير الله أتخذ ولياً فاطر السموات والأرض } لما تقدّم أنه تعالى اخترع السموات والأرض ، وأنه مالك لما تضمنه المكان والزمان أمر تعالى نبيه أن يقول لهم ذلك على سبيل التوبيخ لهم أي من هذه صفاته هو الذي يتخذ ولياً وناصراً ومعيناً لا الآلهة التي لكم ، إذ هي لا تنفع ولا تضر لأنها بين جماد أو حيوان مقهور ، ودخلت همزة الاستفهام على الاسم دون الفعل لأن الإنكار في اتخاذ غير الله ولياً لا في اتخاذ الولي كقولك لمن ضرب زيداً وهو ممن لا يستحق الضرب بل يستحق الإكرام أزيداً ضربت ، تنكر عليه أن كون مثل هذا يضرب ونحو ،

{ أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون } { والله أذن لكم } وقال الطبري وغيره : أمر أن يقول هذه المقالة للكفرة الذين دعوه إلى عبادة أوثانهم ، فتجيء الآية على هذا جواباً لكلامهم ، انتهى .

وهذا يحتاج إلى سند في أن سبب نزول هذه الآية هو ما ذكره وانتصاب غير على أنها مفعول أول لاتخذ .

وقرأ الجمهور { فاطر } فوجهه ابن عطية والزمخشري ونقلها الحوفي على أنه نعت لله ، وخرجه أبو البقاء على أنه بدل وكأنه رأى أن الفضل بين المبدل منه والبدل أسهل من الفصل بين المنعوت والنعت ، إذ البدل على المشهور هو على تكرار العامل وقرأ ابن أبي عبلة برفع الراء على إضمار هو .

قال ابن عطية : أو على الابتداء ؛ انتهى .

ويحتاج إلى إضمار خبر ولا دليل على حذفه وقرىء شاذاً بنصب الراء وخرجه أبو البقاء على أنه صفة لولي على إرادة التنوين أو بدل منه أو حال ، والمعنى على هذا أأجعل { فاطر السموات والأرض } غير الله ، انتهى .

والأحسن نصبه على المدح .

وقرأ الزهري فطر جعله فعلاً ماضياً .

{ وهو يطعم ولا يطعم } أي يرزق ولا يرزق كقوله : { ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون } والمعنى أن المنافع كلها من عند الله ، وخص الإطعام من بين أنواع الانتفاعات لمس الحاجة إليه كما خص الربا بالأكل وإن كان المقصود الانتفاع بالربا .

وقرأ مجاهد وابن جبير والأعمش وأبو حيوة وعمرو بن عبيد وأبو عمرو وفي رواية عنه { ولا يطعم } بفتح الياء والمعنى أنه تعالى منزه عن الأكل ولا يشبه المخلوقين .

وقرأ يمان العماني وابن أبي عبلة { ولا يطعم } بضم الياء وكسر العين مثل الأول فالضمير في { وهو يطعم } عائد على الله وفي { ولا يطعم } عائد على الولي .

وروى ابن المأمون عن يعقوب { وهو يطعم ولا يطعم } على بناء الأول للمفعول والثاني للفاعل والضمير لغير الله ، وقرأ الأشهب : { وهو يطعم ولا يطعم } على بنائهما للفاعل وفسر بأن معناه وهو يطعم ولا يستطعم ، وحكى الأزهري أطعمت بمعنى استطعمت .

قال الزمخشري : ويجوز أن يكون المعنى وهو يطعم تارة ولا يطعم أخرى على حسب المصالح ، كقولك هو يعطي ويمنع ويبسط ويقدر ويغني ويفقر ، وفي قراءة من قرأ باختلاف الفعلين تجنيس التشكيل وهو أن يكون الشكل فرقاً بين الكلمتين وسماه أسامة بن منقذ في بديعته تجنيس التحريف ، وهو بتجنيس التشكيل أولى .

{ قل إني أمرت أن أكون أوّل من أسلم } قال الزمخشري : لأن النبيّ سابق أمته في الإسلام كقوله { وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين } وكقول موسى { سبحانك تبت إليك وأنا أوّل المؤمنين } قال ابن عطية : المعنى أوّل من أسلم من هذه الأمّة وبهذه الشريعة ، ولا يتضمن الكلام إلا ذلك وهذا الذي قاله الزمخشري وابن عطية هو قول الحسن .

قال الحسن : معناه أول من أسلم من أمتي .

قيل : وفي هذا القول نظر لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصدر منه امتناع عن الحق وعدم انقياد إليه ، وإنما هذا على طريق التعريض على الإسلام كما يأمر الملك رعيته بأمر ثم يتبعه بقوله أنا أول من يفعل ذلك ليحملهم على فعل ذلك .

وقيل : أراد الأوّلية في الرتبة والفضيلة كما جاء نحن الآخرون الأوّلون وفي رواية السابقون .

وقيل : { أسلم } أخلص ولم يعدل بالله شيئاً .

وقيل : استسلم .

وقيل : أراد دخوله في دين إبراهيم عليه السلام كقوله : { ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل } وقيل : أول من أسلم يوم الميثاق فيكون سابقاً على الخلق كلهم ، كما قال : { وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح } ولا تكوننّ من المشركين } أي وقيل لي والمعنى أنه أمر بالإسلام ونهى عن الشرك ، هكذا خرجه الزمخشري وابن عطية على إضمار .

وقيل لي : لأنه لا ينتظم عطفه على لفظ { إني أمرت أن أكون أول من أسلم } فيكون مندرجاً تحت لفظ { قل } إذ لو كان كذلك لكان التركيب ولا أكون من المشركين .

وقيل : هو معطوف على معمول { قل } حملاً على المعنى ، والمعنى قل إني قيل لي كن أول من أسلم ، { ولا تكوننّ من المشركين } فهما جميعاً محمولان على القول لكن أتى الأول بغير لفظ القول ، وفيه معناه فحمل الثاني على المعنى وقيل هو معطوف على { قل } أمر بأن يقول كذا ونهى عن كذا .

وقيل : هو نهى عن موالاة المشركين .

وقيل : الخطاب له لفظاً والمراد أمته وهذا هو الظاهر لقوله { لئن أشركت ليحبطنّ عملك } والعصمة تنافي إمكان الشرك .