البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{قُل لِّمَن مَّا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۖ قُل لِّلَّهِۚ كَتَبَ عَلَىٰ نَفۡسِهِ ٱلرَّحۡمَةَۚ لَيَجۡمَعَنَّكُمۡ إِلَىٰ يَوۡمِ ٱلۡقِيَٰمَةِ لَا رَيۡبَ فِيهِۚ ٱلَّذِينَ خَسِرُوٓاْ أَنفُسَهُمۡ فَهُمۡ لَا يُؤۡمِنُونَ} (12)

{ قل لمن ما في السموات والأرض قل الله } لما ذكر تعالى تصريفه فيمن أهلكهم بذنوبهم ، أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بسؤالهم ذلك فإنه لا يمكنهم أن يقولوا إلا أن ذلك لله تعالى فيلزمهم بذلك أنه تعالى هو المالك المهلك لهم ، وهذا السؤال سؤال تبكيت وتقرير ثم أمره تعالى بنسبة ذلك لله تعالى ليكون أول من بادر إلى الاعتراف بذلك .

وقيل : في الكلام حذف تقديره فإذا لم يجيبوا { قل لله } وقال قوم : المعنى أنه أمر بالسؤال فكأنه لما لم يجيبوا سألوا فقيل لهم { قل لله } ولله خبر مبتدأ محذوف التقدير قل ذلك أو هو لله .

{ كتب على نفسه الرحمة } لما ذكر تعالى أنه موجد العالم المتصرف فيهم بما يريد ، ودل ذلك على نفاذ قدرته أردفه بذكر رحمته وإحسانه إلى الخلق وظاهر كتب أنه بمعنى سطر وخط ، وقال به قوم هنا وأنه أريد حقيقة الكتب والمعنى أمر بالكتب في اللوح المحفوظ .

وقيل : { كتب } هنا بمعنى وعد بها فضلاً وكرماً .

وقيل : بمعنى أخبر .

وقيل : أوجب إيجاب فضل وكرم لا إيجاب لزوم .

وقيل : قضاها وأنفذها .

وقال الزمخشري : أي أوجبها على ذاته في هدايتكم إلى معرفته ، ونصب الأدلة لكم على توحيد ما أنتم مقرون به من خلق السموات والأرض ، انتهى .

و { الرحمة } هنا الظاهر أنها عامّة فتعم المحسن والمسيء في الدنيا ، وهي عبارة عن الاتصال إليهم والإحسان إليهم ولم يذكر متعلق الرحمة لمن هي فتعم كما ذكرنا .

وقيل : الألف واللام للعهد ، فيراد بها الرحمة الواحدة التي أنزلها الله تعالى من المائة { الرحمة } التي خلقها وأخر تسعة وتسعين يرحم بها عباده في الآخرة .

وقال الزجاج : { الرحمة } إمهال الكفار وتعميرهم ليتوبوا ، فلم يعاجلهم على كفرهم .

وقيل : { الرحمة } لمن آمن وصدق الرسل .

وفي صحيح مسلم لما قضى الله الخلق كتب في كتاب على نفسه ، فهو موضوع عنده إن رحمتي تغلب غضبي .

{ ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه } لما ذكر أنه تعالى رحم عباده ذكر الحشر وأن فيه المجازاة على الخير والشر ، وهذه الجملة مقسم عليها ولا تعلق لها بما قبلها من جهة الإعراب وإن كانت من حيث المعنى متعلقة بما قبلها كما ذكرناه .

وحكى المهدوي أن جماعة من النحويين قالوا : إنها تفسير للرحمة تقديره : أن يجمعكم ، فتكون الجملة في موضع نصب على البدل من { الرحمة } وهو مثل قوله { ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات ليسجننه } المعنى أن يسجنوه ، وردّ ذلك ابن عطية بأن النون الثقيلة تكون قد دخلت في الإيجاب قال : وإنما تدخل في الأمر والنهي وباختصاص من الواجب في القسم ، انتهى .

وهذا الذي ذكره لا يحصر مواضع دخول نون التوكيد ، ألا ترى دخولها في الشرط وليس واحداً مما ذكر نحو قوله تعالى :

{ وإما ينزغنك } وكذلك قوله : وباختصاص من الواجب في القسم بهذا ليس على إطلاقه بل له شروط ذكرت في علم النحو ولهم أن يقولوا صورة الجملة صورة المقسم عليه ، فلذلك لحقت النون وإن كان المعنى على خلاف القسم ويبطل ما ذكروه ، إن الجملة المقسم عليها لا موضع لها وحدها من الإعراب ، فإذا قلت والله لأضربنّ زيداً ، فلأضربنّ لا موضع له من الإعراب فإذا قلت زيد والله لأضربنه ، كانت جملة القسم والمقسم عليه في موضع رفع والجمع هنا قيل حقيقة أي { ليجمعنكم } في القبور إلى يوم القيامة ، والظاهر أن { إلى } للغاية والمعنى ليحشرنكم منتهين { إلى يوم القيامة } وقيل : المعنى { ليجمعنكم } في الدنيا يخلقكم قرناً بعد قرن إلى يوم القيامة وقد تكون { إلى } هنا بمعنى اللام أي ليوم القيامة ، كقوله تعالى : { إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه } وأبعد من زعم أن { إلى } بمعنى في أي في يوم القيامة وأبعد منه من ذهب إلى أنها صلة والتقدير { ليجمعنكم } يوم القيامة ، والظاهر أن الضمير في { فيه } عائد إلى يوم القيامة وفيه ردّ على من ارتاب في الحشر ويحتمل أن يعود على الجمع ، وهو المصدر المفهوم من قولهم { ليجمعنكم } .

{ الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون } اختلف في إعراب { الذين } فقال الأخفش : هو بدل من ضمير الخطاب في { ليجمعنكم } وردّه المبرد بأن البدل من ضمير الخطاب لا يجوز ، كما لا يجوز مررت بك زيد وردّ رد المبرد ابن عطية .

فقال : ما في الآية مخالف للمثال لأن الفائدة في البدل مترتبة من الثاني ، وإذا قلت مررت بك زيد فلا فائدة في الثاني ، وقوله : { ليجمعنكم } يصلح لمخاطبة الناس كافة فيفيدنا إبدال { الذين } من الضمير أنهم هم المختصون بالخطاب وخصوا على جهة الوعيد ، ويجيء هذا بدل البعض من الكل ، انتهى .

وما ذكره ابن عطية في هذا الردّ ليس بجيد ، لأنه إذا جعلنا { ليجمعنكم } يصلح لمخاطبة الناس كافة كان { الذين } بدل بعض من كل ، ويحتاج إذ ذاك إلى ضمير ويقدر { الذين خسروا أنفسهم } منهم وقوله فيفيدنا إبدال { الذين } من الضمير أنهم هم المختصون بالخطاب ، وخصوا على جهة الوعيد وهذا يقتضي أن يكون بدل كل من كل فتناقض أول كلامه مع آخره لأنه من حيث الصلاحية ، يكون بدل بعض من كل ومن حيث اختصاص الخطاب بهم يكون بدل كل من كل ، والمبدل منه متكلم أو مخاطب في جوازه خلاف مذهب الكوفيين والأخفش ، أنه يجوز ومذهب جمهور البصريين أنه لا يجوز ، وهذا إذا لم يكن البدل يفيد معنى التوكيد فإنه إذ ذاك يجوز ، وهذا كله مقرر في علم النحو .

وقال الزجاج : { الذين } مرفوع على الابتداء والخبر قوله : { فهم لا يؤمنون } ودخلت الفاء لما تضمن المبتدأ من معنى الشرط كأنه قيل : من يخسر نفسه فهو لا يؤمن ، ومن ذهب إلى البدل جعل الفاء عاطفة جملة على جملة وأجاز الزمخشري أن يكون { الذين } منصوباً على الذمّ أي : أريد { الذين خسروا أنفسهم } ؛ انتهى وتقديره بأريد ليس بجيد إنما يقدر النحاة المنصوب على الذم بأذم وأبعد من ذهب إلى أن موضع { الذين } جر نعتاً للمكذبين أو بدلاً منهم .

وقال الزمخشري ( فإن قلت ) : كيف جعل عدم إيمانهم مسبباً عن خسرهم والأمر بالعكس ؟ ( قلت ) : معناه { الذين خسروا أنفسهم } في علم الله لاختيارهم الكفر { فهم لا يؤمنون } ؛ انتهى .

وفيه دسيسة الاعتزال بقوله : لاختيارهم الكفر .