البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{قُلۡ مَنۡ حَرَّمَ زِينَةَ ٱللَّهِ ٱلَّتِيٓ أَخۡرَجَ لِعِبَادِهِۦ وَٱلطَّيِّبَٰتِ مِنَ ٱلرِّزۡقِۚ قُلۡ هِيَ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا خَالِصَةٗ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِۗ كَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ ٱلۡأٓيَٰتِ لِقَوۡمٖ يَعۡلَمُونَ} (32)

{ قل من حرّم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق } { زينة الله } ما حسنته الشريعة وقررته مما يتجمل به من الثياب وغيرها وأضيفت إلى الله لأنه هو الذي أباحها والطيّبات هي المستلذات من المأكول والمشروب بطريقة وهو الحل ، وقيل : الطيبات المحلّلات ومعنى الاستفهام إنكار تحريم هذه الأشياء وتوبيخ محرميها وقد كانوا يحرمون أشياء من لحوم الطّيبات وألبانها والاستفهام إذا تضمّن الإنكار لا جواب له وتوهم مكي هنا أن له جواباً هنا وهو قوله { قل هي } توهم فاسد ومعنى { أخرج } أبرزها وأظهرها ، وقيل فصل حلالها من حرامها .

{ قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة } قرأ قتادة { قل هي } لمن آمن ، وقرأ نافع { خالصة } بالرفع ، وقرأ باقي السبعة بالنصب فأما النصب فعلى الحال والتقدير { قل هى } مستقرّة { للذين ءامنوا } في حال خلوصها لهم يوم القيامة وهي حال من الضمير المستكن في الجار والمجرور الواقع خبراً لهي { وفي الحياة } متعلق بآمنوا ويصير المعنى قل هي خالصة يوم القيامة لمن آمن في الدّنيا ولا يعني بيوم القيامة وقت الحساب وخلوصها كونهم لا يعاقبون عليها وإلى هذا المعنى يشير تفسير ابن جبير ، وجوّزوا فيه أن يكون خبراً بعد خبر والخبر الأوّل هو { للذين آمنوا } { في الحياة الدنيا } متعلق بما تعلق به للذين وهو الكون المطلق أي قل هي كائنة في الحياة الدنيا للمؤمنين وإن كان يشركهم فيها في الحياة الدّنيا الكفّار { خالصة لهم يوم القيامة } ويراد بيوم القيامة استمرار الكون في الجنة وهذا المعنى من أنها لهم ولغيرهم في الدّنيا خالصة لهم يوم القيامة هو قول ابن عباس والضحّاك وقتادة والحسن وابن جريج وابن زيد وعلى هذا المعنى فسر الزمخشري .

( فإن قلت ) : إذا كان معنى الآية أنها لهم في الدنيا على الشركة بينهم وبين الكفار فكيف جاء { قل من حرم زينة } ، ( فالجواب ) : من وجوه ، أحدها : إنّ في الكلام حذفاً تقديره قل هي للمؤمنين والكافرين في الدنيا خالصة للمؤمنين في القيامة لا يشاركون فيها قاله الكرماني ، الثاني : إنّ ما تعلق به { للذين آمنوا } ليس كوناً مطلقاً بل كوناه مقيّداً يدلّ على حذفه مقابله وهو { خالصة } تقديره قل هي غير خالصة للذين آمنوا قاله الزمخشري قال : قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا غير خالصة لهم لأنّ المشركين شركاؤهم فيها خالصة يوم القيامة لا يشركهم فيها أحد ثم قال الزمخشري : ( فإن قلت ) : هلا قيل للذين آمنوا ولغيرهم ، ( قلت ) : النية على أنها خلقت للذين آمنوا على طريق الأصالة وأنّ الكفرة تبع لهم كقوله تعالى { ومن كفر فأمتعه قليلاً ثم أضطره } انتهى وجواب الزمخشري هو للتبريزي رحمه الله .

قال التبريزي معنى الآية أنها للمؤمنين خالصة في الآخرة لا يشركهم الكفّار فيها هذا وإن كان مفهومه الشركة بين الذين آمنوا والذين أشركوا وهو كذلك لأنّ الدّنيا عرض حاضر يأكل منها البرّ والفاجر إلا أنه أضاف إلى المؤمنين ولم يذكر الشّركة بينهم وبين الذين أشركوا في الدنيا تنبيهاً على أنه إنما خلقها للذين آمنوا بطريق الأصالة والكفّار تبع لهم فيها في الدنيا ولذلك خاطب الله المؤمنين بقوله تعالى : { هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً } انتهى ، وقال أبو عليّ في الحجة ويصح أن يعلق قوله { في الحياة الدنيا } بقوله { حرم } ولا يصح أن يتعلق بقوله { أخرج لعباده } ويجوز ذلك وإن فصل بين الصلة والموصول بقوله { هي للذين آمنوا } لأنّ ذلك كلام يشدّ القصة وليس بأجنبي منها جدّاً كما جاز ذلك في قوله

{ والذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها وترهقهم ذلّة } فقوله : { وترهقهم ذلّة } معطوف على { كسبوا } داخل في الصلاة والتعلّق بأخرج هو قول الأخفش ، ويصحّ أن يتعلق بقوله { والطّيبات } ويصح أن يتعلق بقوله { منَ الرزق } انتهى .

وتقادير أبي عليّ والأخفش فيها تفكيك للكلام وسلوك به غير ما تقتضيه الفصاحة ، وهي تقادير أعجمية بعيدة عن البلاغة لا تناسب في كتاب الله بل لو قدّرت في شعر الشنفري ما ناسب والنحاة الصّرف غير الأدباء بمعزل عن إدراك الفصاحة وأما تشبيه ذلك بقوله { والذين كسبوا } فليس ما قاله بمتعيّن فيه بل ولا ظاهر بل قوله { جزاء سيئة بمثلها } هو خبر عن النهي أي جزاء سيئة منهم بمثلها وحذف منهم لدلالة المعنى عليه كما حذف من قولهم السّمن منوان درهم أي منوان منه وقوله { وترهقهم ذلة } معطوف على { جزاء سيئة بمثلها } وسيأتي توضيح هذا بأكثر في موضعه إن شاء الله تعالى .

{ كذلك نفصل الآيات لقوم يعلمون } أي مثل تفصيلنا وتقسيمنا السابق { نقسم } في المستقبل { لقوم } لهم علم وإدراك لأنه لا ينتفع بذلك إلا من علم لقوله : { وما يعقلها إلا العالمون }