البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{لَقَدۡ جَآءَكُمۡ رَسُولٞ مِّنۡ أَنفُسِكُمۡ عَزِيزٌ عَلَيۡهِ مَا عَنِتُّمۡ حَرِيصٌ عَلَيۡكُم بِٱلۡمُؤۡمِنِينَ رَءُوفٞ رَّحِيمٞ} (128)

{ لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءُوف رحيم } : لما بدأ السورة ببراءة الله ورسوله من المشركين ، وقص فيها أحوال المنافقين شيئاً فشيئاً ، خاطب العرب على سبيل تعداد النعم عليهم والمن عليهم بكونه جاءهم رسول من جنسهم ، أو من نسبهم عربياً قرشياً يبلغهم عن الله متصف بالأوصاف الجميلة من كونه يعز عليه مشقتهم في سوء العاقبة من الوقوع في العذاب ، ويحرص على هداهم ، ويرأف بهم ، ويرحمهم .

قال ابن عباس : ما من قبيلة من العرب إلا ولدت النبي صلى الله عليه وسلم ، فكأنه قال : يا معشر العرب لقد جاءكم رسول من بني إسماعيل ، ويحتمل أن يكون الخطاب لمن بحضرته من أهل الملل والنحل ، ويحتمل أن يكون خطاباً لبني آدم ، والمعنى : أنه لم يكن من غير جنس بني آدم ، لما في ذلك من التنافر بين الأجناس كقوله : { ولو جعلناه ملكاً لجعلناه رجلاً } ولما كان المخاطبون عاماً ، إما عامة العرب ، وإما عامة بني آدم ، جاء الخطاب عاماً بقوله : عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم أي : على هدايتكم حتى لا يخرج أحد عن اتباعه فيهلك .

ولما كانت الرأفة والرحمة خاصة جاء متعلقها خاصاً وهو قوله : بالمؤمنين رءُوف رحيم .

ألا ترى إلى قوله : { جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم } وقال : { أعزة على الكافرين } وقال في زناة المؤمنين : { ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر } قال ابن عطية : وقوله من أنفسكم ، يقتضي مدحاً لنسب النبي صلى الله عليه وسلم وأنه من صميم العرب وأشرفها ، وينظر إلى هذا المعنى قوله عليه السلام :

« إن الله اصطفى كناية من ولد إسماعيل ، واصطفى قريشاً من كنانة ، واصطفى بني هاشم من قريش ، واصطفانى من بني هاشم » ومنه قوله صلى الله عليه وسلم : « إني من نكاح ولست من سفاح » معناه أن نسبه صلى الله عليه وسلم إلى آدم عليه السلام لم يكن النسل فيه إلا من نكاح ولم يكن فيه زنا انتهى .

وصف الله نبيه عليه السلام بستة : أوصاف الرسالة وهي صفة كمال الإنسان لما احتوت عليه من كمال ذات الرسول وطهارة نفسه الزكية ، وكونه من الخيار بحيث أهل أنْ يكون واسطة بين الله وبين خلقه ، ولما كانت هذه الصفة أشرف الأشياء بدىء بذكرها .

وكونه من أنفسهم وهي صفة مؤثرة في البليغ والفهم عنه والتآنس به ، فإن كان خطاباً للعرب ففي هذه الصفة التنبيه على شرفهم والتحريض على اتباعه ، وإن كان الخطاب لبني آدم ففيه التنويه بهم واللطف في إيصال الخبر إليهم ، وأنه معروف بينهم بالصدق والأمانة والعفاف والصيانة .

وكونه يعز عليه ما يشق عليكم ، فهذا الوصف من نتائج الرسالة .

ومن كونه من أنفسهم ، لأنّ من كان منك وادّلك الخير وصعب عليه إيصال ما يؤذي إليك وكونه حريصاً على هدايتهم ، وهو أيضاً من نتائج الرسالة ، لأنه بعث ليعبد الله ويفرد بالألوهية .

وكونه رءُوفاً رحيماً بالمؤمنين ، وهما وصفان من نتائج التبعية له ، والدخول في دين الله .

{ إنما المؤمنون إخوة } « المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً حتى تحب لأخيك المؤمن ما تحب لنفسك »

وقرأ ابن عباس ، وأبو العالية ، والضحاك ، وابن محيصن ، ومحبوب ، عن أبي عمرو وعبد الله بن قسيط المكي ، ويعقوب من بعض طرقه : من أنفسكم بفتح الفاء .

ورويت هذه القراءة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعن فاطمة ، وعائشة رضي الله عنهما ، والمعنى : من أشرفكم وأعزكم ، وذلك من النفاسة ، وهو راجع لمعنى النفس ، فإنها أعز الأشياء .

والظاهر أنّ ما مصدرية في موضع الفاعل بعزيز أي : يعز عليه مشقتكم كما قال :

يسر المرء ما ذهب الليالي *** وكان ذهابهن له ذهابا

أي يسر المرء ذهاب الليالي .

ويجوز أن يكون ما عنتم مبتدأ أي : عنتكم عزيز عليه ، وقدم خبره ، والأول أعرب .

وأجاز الحوفي أن يكون عزيز مبتدأ ، وما عنتم الخبر ، وأن تكون ما بمعنى الذي ، وأن تكون مصدرية ، وهو إعراب دون الإعرابين السابقين .

وقال ابن القشيري : عزيز صفة للنبي صلى الله عليه وسلم ، وإنما وصف بالعزة لتوسطه في قومه وعراقة نسبه وطيب جرثومته ، ثم استأنف فقال : عليه ما عنتم أي : يهمه أمركم انتهى .

والعنت : تقدم شرحه في البقرة في قوله

{ لأعنتكم } وقال ابن عباس : هنا مشقتكم .

وقال الضحاك : إثمكم .

وقال سعيد بن أبي عروبة : ضلالكم .

وقال العتبي : ما ضركم .

وقال ابن الأنباري : ما أهلككم .

وقيل : ما غمكم .

والأولى أن يضمر في عليكم أي : على هداكم وإيمانكم كقوله : { إن تحرص على هداهم } وقوله : { وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين } وقيل : حريص على إيصال الخيرات لكم في الدنيا والآخرة .

وقال الفراء : الحريص هو الشحيح ، والمعنى : أنه شحيح عليكم أن تدخلوا النار .

وقيل : حريص على دخولكم الجنة .

وإنما احتيج إلى الإضمار ، لأنّ الحرص لا يتعلق بالذوات .

ويحتمل بالمؤمنين أن يتعلق برءُوف ، ويحتمل أن يتعلق برحيم ، فيكون من باب التنازع .

وفي جواز تقدم معمول المتنازعين نظر ، فالأكثرون لا يذكرون فيه تقدمة عليهما ، وأجاز بعض النحويين التقديم فتقول : زيداً ضربت وشتمت على التنازع ، والظاهر تعلق الصفتين بجميع المؤمنين .

وقال قوم : بالتوزيع ، رؤوف بالمطيعين ، رحيم بالمذنبين .

وقيل : رؤوف بمن رآه ، رحيم بمن لم يره .

وقيل : رؤوف بأقربائه ، رحيم بغيرهم .

وقال الحسن بن الفضل : لم يجمع الله لنبي بين اسمين من أسمائه إلا لنبينا صلى الله عليه وسلم ، فإنه قال : بالمؤمنين رؤوف رحيم ، وقال تعالى : { إن الله بالناس لرءُوف رحيم }