{ ووصينا الإِنسان } : أي عهدنا إليه ببرهما وهو كف الأذى عنهما والإِحسان إليهما وطاعتهما في المعروف .
{ وهناً على وهن } : أي ضعفاً على ضعف وشدة على شدة وهي الحمل والولادة والإِرضاع .
{ وفصاله في عامين } : أي مدة رضاعه تنتهي في عامين ، وبذلك يفصل عن الرضاع .
وقوله تعالى : { ووصينا الإِنسان بوالديه } أي عهدنا إلى الإِنسان آمرين إياه ببرِّ والديه أي أمه وأبيه ، وبرُّهما بذل المعروف لهما وكف الأذى عنهما وطاعتهما في المعروف ، وقوله تعالى : { حملته } أي الإِنسان أمه أي والدته { وهنا على وهن } أي ضعفا على ضعف وشدة على أخرى وهي آلام وأتعاب الحمل والطلق والولادة والإِرضاع فلهذا تأكدَّ برُّهما فوق برِّ الوالد مرتين لحديث الصحيح : " من أحق الناس بحسن صحابتي ؟ قال : أمك ، قال ثم من ؟ قال : أمك ، قال ثم من ؟ قال : أمك ، قال : ثم من ؟ قال : أبوك " وقوله { وفصاله في عامين } أي فطام الولد من الرضاع في عامين فأول الرضاع ساعة الولادة وآخره تمام الحولين ويجوز فصله عن الرضاع خلال العامين ، وقوله : { أن اشكر لي ولوالديك إليَّ المصير } هذا الموصى به وهو أن يشكر لله تعالى وذلك بطاعته تعالى فيما يأمره به وينهاه عنه ، وذكره بقلبه ولسانه وقوله { ولوالديك } إذ هما قدما معروفا وجميلا فوجب شكرهما ، وذلك ببرِّهما وصلتهما وطاعتهما في غير معصية الله ورسوله ، لأن طاعة الله كشكره قبل طاعة الوالدين وشكرهما وقوله { إلي المصير } أي الرجوع بعد الموت وهذه الجملة مؤكدة لواجب شكر الله تعالى وبر الوالدين لما تحمله من الترغيب والترهيب فالمطيع إذا رجع غلى الله أكرمه والعاصي أهانه . وما دام الرجوع إليه تعالى حتميّا فطاعته بشكره وشكر الوالدين متأكدة متعيّنة .
- تقرير التوحيد والتنديد بالشرك .
- بيان الحكمة وهي شكر الله تعالى بطاعته وذكره إذ لا يشكر إلا عاقل فقيه .
ولما ذكر سبحانه وتعالى ما أوصى به ولده من شكر المنعم الأول الذي لم يشركه في إيجاده أحد ، وذكر ما عليه{[53805]} الشرك من الفظاعة والشناعة {[53806]}والبشاعة ، أتبعه{[53807]} سبحانه وصيته للولد بالوالد لكونه{[53808]} المنعم الثاني المتفرد سبحانه بكونه جعله{[53809]} سبب وجود الولد اعترافاً{[53810]} بالحق وإن صغر لأهله {[53811]}وإيذاناً{[53812]} بأنه لا يشكر الله من لا يشكر الناس ، وتفخيماً لحق الوالدين ، لكونه قرن عقوقهما بالشرك ، وإعلاماً بأن الوفاء شيء واحد متى نقص شيء منه تداعى سائره{[53813]} كما في الفردوس عن أبي الدرداء رضي الله عنه أن{[53814]} النبي صلى الله عليه وسلم قال :
" لو أن العبد لقي الله بكمال ما افترض عليه ما خلا بر الوالدين ما دخل الجنة ، وإن بر الوالدين لنظام{[53815]} التوحيد والصلاة والذكر " ولذلك لفت الكلام إلى مظهر العظمة ترهيباً من العقوق ورفعاً لما لعله يتوهم من أن{[53816]} الانفصال عن الشرك لا يكون إلا بالإعراض{[53817]} عن جميع الخلق .
ولما قد يخيله الشيطان من أن التقيد{[53818]} بطاعة الوالد شرك ، مضمناً تلك الوصية إجادة لقمان عليه السلام في تحسين الشكر{[53819]} وتقبيح الشرك لموافقته لأمر رب العالمين ، وإيجاب امتثال ابنه لأمره ، فقال مبيناً حقه وحق كل والد غيره ، ومعرفاً قباحة من أمر ابنه بالشرك لكونه منافياً للحكمة التي أبانها لقمان عليه السلام ، وتحريم امتثال الابن لذلك ووجوب مخالفته لأبيه فيه تقديماً لأعظم الحقين ، وارتكاباً لأخف الضررين : { ووصينا } أي قال لقمان ذلك لولده{[53820]} نصحاً له{[53821]} والحال أنا{[53822]} بعظمتنا وصينا ولده به بنحو ما أوصاه به في حقنا - هكذا كان الأصل ، ولكنه عبر بما يشمل{[53823]} غيره فقال : { الإنسان } أي هذا النوع على لسان أول نبي أرسلنا وهلم جراً {[53824]}وبما ركزناه{[53825]} في كل فطرة من أنه ما جزاء الإحسان إلا الإحسان { بوالديه } فكأنه قال : إن لقمان عرف
نعمتنا عليه وعلى أبناء نوعه لوصيتنا لأولادهم بهم فشكرنا{[53826]} ولقن{[53827]} عنا نهيهم{[53828]} بذلك عن الشرك لأنه كفران لنعمة المنعم ، فانتهى في نفسه ونهى ولده ، فكان بذلك حكيماً .
ولما كانت الأم في مقام الاحتقار لما للأب {[53829]}من العظمة{[53830]} بالقوة والعقل والكد عليها وعلى ولدها ، نوه بها ونبه{[53831]} على ما يختص به من أسباب وجود الولد وبقائه{[53832]} عن الأب مما حصل لها{[53833]} من المشقة بسببه وما لها إليه من التربية . فقال معللاً أو مستأنفاً : { حملته أمه وهناً } أي حال كونها ذات وهن تحمله في أحشائها ، وبالغ بجعلها نفس الفعل دلالة على شدة ذلك الضعف بتضاعفه كلما أثقلت { على وهن } أي هو قائم بها من نفس خلقها وتركيبها إلى ما يزيدها التمادي بالحمل ، ثم أشار إلى ما لها عليه من المنة بالشفقة وحسن الكفالة وهو لا يملك لنفسه شيئاً بقوله : { وفصاله } أي فطامه من الرضاعة بعد وضعه .
ولما كان الوالدان يعدان وجدان{[53834]} الولد من أعظم أسباب الخير والسرور ، عبر في أمره بالعام الذي تدور مادته على السعة لذلك وترجية لهما{[53835]} بالعول{[53836]} عليه وتعظيماً لحقهما{[53837]} بالتعبير بما يشير إلى صعوبة ما قاسيا{[53838]} فيه باتساع زمنه{[53839]} فقال : { في عامين } تقاسي فيهما في منامه وقيامه ما لا يعلمه حق علمه إلا لله تعالى ، وفي التعبير بالعام أيضاً إشارة إلى تعظيم منتها بكونها تعد{[53840]} أيام رضاعه - مع كونها أضعف ما يكون في تربيته - أيام سعة وسرور ، والتعبير ب " في " مشيراً إلى أن الوالدين لهما أن يفطماه قبل تمامهما على حسب ما يحتمله حاله ، وتدعو إليه المصلحة من أمره .
ولما ذكر الوصية وأشار إلى أمهات أسبابها ، ذكر الموصى به فقال مفسراً ل " وصينا{[53841]} " : { أن اشكر } ولما كان الشكر منظوراً إليه أتم نظر ، قصر فعله ، أي أوجد هذه الحقيقة ولتكن من همك . ولما كان لا بد له من متعلق ، كان كأنه قال : لمن ؟ فقال مقدماً ما{[53842]} هو أساس الموصى به في الوالدين ليكون معتداً به ، لافتاً القول إلى ضمير الواحد من غير تعظيم تنصيصاً على المراد : { لي } أي{[53843]} لأني المنعم بالحقيقة { ولوالديك } لكوني جعلتهما سبباً لوجودك والإحسان بتربيتك ، وذكر الإنسان بهذا الذكر في سورة الحكمة إشارة إلى أنه أتم الموجودات حكمة قال الرازي في آخر سورة الأحزاب من لوامعه : الموجودات كلها كالشجرة ، والإنسان ثمرتها ، وهي كالقشور والإنسان لبابها ، وكالمبادئ والإنسان كمالها ، و{[53844]} من أين للعالم ما للإنسان ؟ بل العالم العلوي فيه ، ليس في العالم العلوي ما فيه ، فقد جمع ما{[53845]} بين العالمين بنفسه وجسده ، واستجمع الكونين بعقله وحسه ، وارتفع{[53846]} عن الدرجتين باتصال الأمر الأعلى به وحياً قولياً ، وسلم الأمرلمن له الخلق والأمر تسليماً اختيارياً طوعياً . ثم علل الأمر بالشكر محذراً فقال : { إليّ } لا إلى غيري { المصير* } أي فأسألك عن ذلك كما كانت منهما البداءة ظاهراً{[53847]} بما جعلت{[53848]} لهما من التسبب في ذلك ، فيسألانك عن القيام بحقوقهما وإن قصرت فيها{[53849]} شكواك إلى الناس وأقاما عليك الحجة وأخذا بحقهما .