{ ألم تروا } : أي ألم تعلموا أيُّها الناس .
{ سخر لكم ما في السموات } : أي من شمس وقمر وكواكب ورياح وأمطار لمنافعكم .
{ وما في الأرض } : أي من أشجار وأنهار وجبال وبحار وغيرها .
{ وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة } : أي أوسع وأتمّ عليكم نعمه ظاهرة وهي الصحة وكمال الخلق وتسوية الأعضاء .
{ وباطنة } : أي المعرفة والعقل .
{ من يجادل في الله } : أي يخاصم في توحيد الله منكراً له مكذباً به .
{ بغير علم } : أي بدون علم عنده من وحي ولا هو مستفاد من دليل عقلي .
{ ولا هدى ولا كتاب منير } : أي سنة من سنن الرسل ، ولا كتاب إلهي منير واضح بيّن .
عاد السياق بعد نهاية قصة لقمان غلى خطاب المشركين لهدايتهم فقال تعالى { الم تروا } أيها الناس الكافرون بالله وقدرته ورحمته أي الم تعلموا بمشاهدتكم { أن الله سخر لكم } أي من أجلكم { ما في السموات } من شمس وقمر وكواكب ومطر ، وسخر لكم ما في الأرض من أشجار وأنهار وجبال ووهاد وبحار وشتَّى الحيوانات ومختلف المعادن كل ذلك لمنافعكم في مطاعمكم ومشاربكم وكل شؤون حياتكم ، { وأسبغ عليكم نعمه } أي أوسعها وأتمها نعم الإِيجاز ونعم الإِمداد حال كونها ظاهرة كحسن الصورة وتناسب الأعضاء وكمال الخلق ، وباطنة كالعقل والإِدراك والعلم والمعرفة وغير ذلك مما لا يحصى ولا يعدن وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها ، ومع هذا البيان والإِنعام والاستدلال على الخالق بالخلق وعلى المنعم بالنعم فإِن ناساً يجادلون في توحيد الله وأسمائه وصفاته ووجوب طاعته وطاعة رسوله بغير علم من وحي ولا استدلال من عقل ، ولا كتاب منير واضح بين يحتجون به ويجادلون بأدلته .
- تعيين الاستدلال بالخلق على الخالق وبالنعمة على المنعم .
- وجوب ذكر النعم وشكرها لله تعالى بطاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم .
ولما انقضت هذه الجمل ، رافعة أعناقها على المشتري وزحل ، قابلة{[54021]} لمن يريد عملها مع الكسل ، والضجر في الفكر والملل ، وأين الثريا من يد المتناول{[54022]} ، وكان قد أخبر سبحانه وتعالى في أول السورة أن الآيات المسموعة هدى لقوم وضلال لآخرين ، وكان من الغرائب أن شيئاً واحداً يؤثر{[54023]} شيئين متضادين ، وأتبع ذلك ما دل على أنه من بالغ الحكمة بوجوه مرضية مشرقة مضيئة ، لكنها بمسالك دقيقة و{[54024]} إشارات خفية ، إلى أن ختم بالنهي عن التكبر ، ورفع الصوت فوق الحاجة ، إشارة إلى أن فاعل ما لا حاجة إليه غير حكيم ، وكان التكبر على الناس والتعالي عليهم من آثار الفضل في النعمة ، وكانت العادة جارية بأن الملك يخضع له تارة لمجرد عظمته ، وتارة خوفاً من سطوته ، وتارة رجاء لنعمته ، أبرز سبحانه وتعالى غيب ما وصف به الآيات المسموعة من تأثير الضدين في حالة واحدة في شاهد الآيات المرئية على وجه يدل على استحقاقه ، لما أمر به لقمان عليه السلام من العبادة والتذلل ، وأن{[54025]} إليه المرجع ، وهو عالم بكل شيء قادر على كل شيء وأن كل ما{[54026]} ترى خلقه مذكراً بأن النعمة إنما هي منه ، فلا ينبغي لأحد أن يفخر بما آتاه غيره ، ولو وكل فيه إلى نفسه لم يقدر على شيء منه ، محذراً من سلبها عن المتكبر{[54027]} وإعطائها للذليل{[54028]} المحتقر ، فقال : { ألم تروا } اي تعلموا علماً هو في ظهوره كالمشاهدة{[54029]} أيها المشترون لهو الحديث ، المتكبرون{[54030]} علي المقبلين على الله ، المتخلين عن الدنيا ، الذين قلنا لهم رداً عن{[54031]} الشرك وإبعاداً عن الهوى والإفك { هذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه } { أن الله } أي{[54032]} الحائز لكل كمال { سخر لكم } أي خاصة { ما في السماوات } بالإنارة والإظلام ، والحر والبرد وغير ذلك من الإنعام ، وأكده{[54033]} بإعادة الموصول والجار ، لأن المقام حقيق به فقال : { وما في الأرض } بكل ما يصلحكم فتعلموا أن الكل خلقه ، ما لأحد ممن دونه {[54034]}فيه شيء{[54035]} ، وأنه محيط بكل شيء قدرة وعلماً ، فهو قادر على تعسيره{[54036]} كما قدر على تسخيره ، وقوى على نزعه من القوى و{[54037]}دفعه للضعيف و{[54038]}هو يرجعكم إليه فينبئكم بما{[54039]} كنتم تعملون ويحضره لكم وإن كان في أخفى الأماكن { وأسبغ } أي أطال وأوسع وأتم وأفضل عن قدر الحاجة وأكمل { عليكم } أيها المكلفون { نعمه } أي{[54040]} واحدة تليق بالدنيا - في قراءة الجماعة{[54041]} بإسكان العين وتاء{[54042]} تأنيث منصوبة منونة تنوين تعظيم ، مشيراً إلى أنها ذات أنواع كثيرة جداً ، بما دلت عليه قراءة المدنيين وأبي عمرو وحفص عن عاصم بجعل تاء التأنيث ضميراً له سبحانه مع فتح العين ليكون جمعاً { ظاهرة } وهي ما تشاهدونها متذكرين لها { وباطنة } وهي ما غابت عنكم {[54043]}فلا يحسونها ، أو تحسونها{[54044]} وهي خفية عنكم ، لا تذكرونها إلا بالتذكير ، وكل منكم يعرف ذلك على الإجمال ، فاعبدوه لما دعت إليه مجلة{[54045]} لقمان عليه السلام لتكونوا من المحسنين ، حذراً من سلب نعمه ، وإيجاب نقمه ، ويجوز أن تكون الآية{[54046]} دليلاً على قوله تعالى : { خلق السماوات بغير عمد ترونها } .
ولما كان التقدير : ومع كون كل منكم أيها الخلق يعرف أن ذلك نعمة منه سبحانه تعالى وحده ، فمن الناس من أذعن وأناب ، وسلم{[54047]} لكل ما دعا{[54048]} إليه كتابه الحكيم ، على لسان رسوله النبي الكريم ، فكان من الحكماء{[54049]} المحسنين فاهتدى ، عطف عليه قوله{[54050]} مظهراً موضع ضمير{[54051]} المخاطبين مما يشير إليه النوس : { ومن الناس } أي الذين هم أهل للاضطراب ، ويمكن أن يكون حالاً من { ألم تروا } ويكون { ألم تروا } دليلاً على أول السورة ، أي أشير إلى الآيات حال كونها هدى لمن ذكر والحال أن من الناس من يشتري اللهو ، ألم تروا دليلاً على أن{[54052]} من الناس المعاند بعد وضوح الدليل أن الله سخر لكم جميع العالم وأنعم عليكم بما أنعم والحال أن من الناس { من{[54053]} يجادل } فلا لهو أعظم من جداله ، ولا كبر مثل كبره ، ولا ضلال مثل ضلاله ، وأظهر لزيادة التشنيع على هذا المجادل ، وإشارة إلى قبح{[54054]} المجادلة من غير نظر إلى النعم فقال تعالى : { في الله } المحيط {[54055]}بكل شيء{[54056]} علماً وقدرة .
ولما كان سبحانه في ظهور وجوده{[54057]} وأوصافه بحيث لا يخفى بوجه ، وكان المجادل قد يكون فهماً ، قال : { بغير } {[54058]}أي بكلام متصف بأنه غير{[54059]} { علم } أي بل{[54060]} بألفاظ هي في ركاكة معانيها لعدم استنادها إلى حس ولا عقل ملحقة بأصوات الحيوانات العحم ، فكان بذلك حماراً تابعاً للهوى .
ولما كان المعنى قد يظهر بطلانه لبعض القاصرين ، لوروده على لسان من لا يعتبر ، فإذا أضيف إلى كبير ، تؤمل ولم يبادر إلى رده لاستعظامه ، فظهر على طول حسه ، قال {[54061]}معبراً بأداة النفي الحقيقة به ، لأن الموضع لها ، وعدل عنها اولاً لئلا يظن أن المذموم إنما هو المجادل إذا كان غير متصف بالعلم{[54062]} وإن كان جداله متصفاً بالعلم{[54063]} : { ولا هدى } أي وارد عمن{[54064]} عهد منه سداد الأقوال والأفعال بما أبدى من المعجزات والآيات البينات ، فوجب أخذ اقواله مسلمة وإن لم يظهر معناها .
ولما كان القول قد يكون مقبولاً لاستناده إلى الله تعالى وإن لم يكن اصلاً معقولاً ، قال : { ولا كتاب } أي من الله ؛ ووصفه بما هو لازمه لا ينفك عنه فقال : { منير* } أي بين غاية البيان ، مبين لغيره على عادة بيان الله سبحانه وتعالى ، أو يكون أريد بالوصف الإعجاز لإظهاره قطعاً أنه من الله ، فإنه ليس كل كتاب الله كذلك .