تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{وَكَذَٰلِكَ بَعَثۡنَٰهُمۡ لِيَتَسَآءَلُواْ بَيۡنَهُمۡۚ قَالَ قَآئِلٞ مِّنۡهُمۡ كَمۡ لَبِثۡتُمۡۖ قَالُواْ لَبِثۡنَا يَوۡمًا أَوۡ بَعۡضَ يَوۡمٖۚ قَالُواْ رَبُّكُمۡ أَعۡلَمُ بِمَا لَبِثۡتُمۡ فَٱبۡعَثُوٓاْ أَحَدَكُم بِوَرِقِكُمۡ هَٰذِهِۦٓ إِلَى ٱلۡمَدِينَةِ فَلۡيَنظُرۡ أَيُّهَآ أَزۡكَىٰ طَعَامٗا فَلۡيَأۡتِكُم بِرِزۡقٖ مِّنۡهُ وَلۡيَتَلَطَّفۡ وَلَا يُشۡعِرَنَّ بِكُمۡ أَحَدًا} (19)

يقول تعالى : وكما أرقدناهم بعثناهم صحيحة أبدانهم وأشعارهم وأبشارهم ، لم يفقدوا من أحوالهم وهيئاتهم شيئًا ، وذلك بعد ثلاثمائة سنة وتسع سنين ؛ ولهذا تساءلوا بينهم : { كَمْ لَبِثْتُمْ } ؟ أي : كم رقدتم ؟ { قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ } كان دخولهم إلى الكهف في أول نهار ، واستيقاظهم{[18053]} كان في آخر نهار ؛ ولهذا استدركوا فقالوا : { أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ } أي : الله أعلم بأمركم ، وكأنه حصل لهم نوع تَرَدّد في كثرة نومهم ، فالله أعلم ، ثم عدلوا إلى الأهم في أمرهم إذ ذاك{[18054]} وهو احتياجهم إلى الطعام والشراب ، فقالوا : { فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ } أي : فضتكم هذه . وذلك أنهم كانوا قد استصحبوا معهم دراهم من منازلهم لحاجتهم إليها ، فتصدقوا منها وبقي منها ؛ فلهذا قالوا : { فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ } أي : مدينتكم التي خرجتم منها والألف واللام للعهد .

{ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا } أي : أطيب طعامًا ، كقوله : { وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا } [ النور : 21 ] وقوله { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى } [ الأعلى : 14 ] ومنه الزكاة التي تُطَيب{[18055]} المال وتطهره . وقيل : أكثر طعامًا ، ومنه زكاة الزرع إذا كثر ، قال الشاعر :{[18056]}

قَبَاِئُلنا سَبْعٌ وَأَنْتُمْ ثَلاثَةٌ *** وَللسَّبْعُ أزْكَى مِنْ ثَلاثٍ وَأطْيَبُ

والصحيح الأول ؛ لأن مقصودهم إنما هو الطيب الحلال ، سواء كان قليلا أو كثيرا .

وقوله { وَلْيَتَلَطَّفْ } أي : في خروجه وذهابه ، وشرائه وإيابه ، يقولون : وَلْيَتَخَفَّ{[18057]} كل ما يقدر عليه { وَلا يُشْعِرَنَّ } أي : ولا يعلمن { بِكُمْ أَحَدًا }


[18053]:في ف: "وإيقاظهم".
[18054]:في ت: "إن ذلك".
[18055]:في ت: "يطيب".
[18056]:البيت في تفسير الطبري (15/148) غير منسوب.
[18057]:في ف، أ: "وليتخفف".
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَكَذَٰلِكَ بَعَثۡنَٰهُمۡ لِيَتَسَآءَلُواْ بَيۡنَهُمۡۚ قَالَ قَآئِلٞ مِّنۡهُمۡ كَمۡ لَبِثۡتُمۡۖ قَالُواْ لَبِثۡنَا يَوۡمًا أَوۡ بَعۡضَ يَوۡمٖۚ قَالُواْ رَبُّكُمۡ أَعۡلَمُ بِمَا لَبِثۡتُمۡ فَٱبۡعَثُوٓاْ أَحَدَكُم بِوَرِقِكُمۡ هَٰذِهِۦٓ إِلَى ٱلۡمَدِينَةِ فَلۡيَنظُرۡ أَيُّهَآ أَزۡكَىٰ طَعَامٗا فَلۡيَأۡتِكُم بِرِزۡقٖ مِّنۡهُ وَلۡيَتَلَطَّفۡ وَلَا يُشۡعِرَنَّ بِكُمۡ أَحَدًا} (19)

عطف لجزء من القصة الذي فيه عبرة لأهل الكهف بأنفسهم ليعلموا من أكرمهم الله به من حفظهم عن أن تنالهم أيدي أعدائهم بإهانة ، ومن إعلامهم علم اليقين ببعض كيفية البعث ، فإن علمه عظيم وقد قال إبراهيم { رب أرني كيف تحيي الموتى } [ البقرة : 260 ] .

والإشارة بقوله : { وكذلك } إلى المذكور من إنامتهم وكيفيتها ، أي كما أنمناهم قروناً بعثناهم . ووجه الشبه : أن في الإفاقة آية على عظيم قدرة الله تعالى مثل آية الإنامة .

ويجوز أن يكون تشبيه البعث المذكور بنفسه للمبالغة في التعجيب كما تقدم في قوله : { وكذلك جعلناكم أمة وسطا } [ البقرة : 143 ] .

وتقدم الكلام على معنى البعث في الآية المتقدمة ، وفي حسن موقع لفظ البعث في هذه القصة ، وفي التعليل من قوله : ليتساءلوا } عند قوله : { ثم بعثناهم لنعلم أي الحزبين أحصى } [ الكهف : 12 ] . والمعنى : بعثناهم فتساءلوا بينهم .

وجملة { قال قائل منهم } بيان لجملة { ليتساءلوا } . وسميت هذه المحاورة تساؤلاً لأنها تحاور عن تطلب كل رأيَ الآخر للوصول إلى تحقيق المدة . و الذين قالوا : { لبثنا يوماً أو بعض } هم مَن عدا الذي قال : { كم لبثتم } .

وأسند الجواب إلى ضمير جماعتهم : إما لأنهم تواطؤوا عليه ، وإما على إرادة التوزيع ، أي منهم من قال : لبثنا يوماً ، ومنهم قال : لبثنا بعض يوم . وعلى هذا يجوز أن تكون ( أو ) للتقسيم في القول بدليل قوله بعد { قالوا ربكم أعلم بما لبثتم } ، أي لما اختلفوا رجعوا فعدلوا عن القول بالظن إلى تفويض العلم إلى الله تعالى ، وذلك من كمال إيمانهم . فالقائلون { ربكم أعلم بما لبثتم } يجوز أن يكون جميعهم وهو الظاهر . ويجوز أن يكون قول بعضهم فأسند إليهم لأنهم رأوه صواباً .

وتفريع قولهم : { فابعثوا أحدكم } على قولهم : { ربكم أعلم بما لبثتم } لأنه في معنى فدَعُوا الخوض في مدة اللبث فلا يعلمها إلا الله وخذوا في شيء آخر مما يهمكم ، وهو قريب من الأسلوب الحكيم . وهو تلقي السائل بغير ما يتطلب تنبيهاً على أن غيره أولى بحاله ، ولولا قولهم : { ربكم أعلم بما لبثتم } لكان قولهم : { فابعثوا أحدكم } عين الأسلوب الحكيم .

والوَرِق بفتح الواو وكسر الراءِ : الفضة . وكذلك قرأه الجمهور . ويقال وَرْق بفتح الواو وسكون الراء وبذلك قرأ أبوعمرو وحمزة وأبو بكر عن عاصم ورَوح عن يعقوب وخلف . والمراد بالورق هنا القطعة المسكوكة من الفضة ، وهي الدراهم قيل : كانت من دراهم ( دقيوس ) سلطان الروم .

والإشارة بهذه إلى دَراهم معينة عندهم ، والمدينة هي ( أبْسُسْ ) بالباء الموحدة . وقد قدمنا ذكرها في صدر القصة .

و { أيها } ما صدقه أي مكان من المدينة ، لأن المدينة كل له أجزاء كثيرة منها دكاكين الباعة ، أي فلينظر أي مكان منها هو أزكى طعاماً ، أي أزكى طعامُه من طعام غيره .

وانتصب { طعاماً } على التمييز لنسبة ( أزكى ) إلى ( أي ) .

والأزكى : الأطْيب والأحسن ، لأن الزّكْوَ الزيادة في الخير والنفع .

والرزق : القوت . وقد تقدم عند قوله تعالى : { قال لا يأتيكما طعام ترزقانه } في سورة يوسف ( 37 ) ، والفاء لتفريع أمرهم مَن يبعثونه بأن يأتي بطعام زكي وبأن يتلطف .

وصيغة الأمر في قوله : { فليأتكم } و { ليتلطف } أمر لأحدٍ غير معين سيوكَلونه ، أي أن تبعثوه يأتكم برزق ، ويجوز أن يكون المأمور معيناً بينهم وإنما الإجمال في حكاية كلامهم لا في الكلام المحكي . وعلى الوجهين فهم مأمورون بأن يوصوه بذلك .

قيل التاء من كلمة { وليتلطف } هي نصف حروف القرآن عَدًّا . وهنالك قول اقتصر عليه ابن عطية هو أن النون من قوله تعالى : { لقد جئت شيئاً نكراً } [ الكهف : 74 ] هي نصف حروف القرآن .

والإشعار : الإعلام ، وهو إفعال من شَعَر من باب نصر وكَرُم شُعوراً ، أي علم . فالهمزة للتعدية مثل همزة أعلم } من علم الذي هو عِلم العرفان يتعدى إلى واحد .

وقوله : { بكم } متعلق ب { يُشعِرَنَّ } . فمدخول الباء هو المشعور ، أي المعلوم . والمعلوم إنما يكون معنى من المعاني متعلق الضمير المجرور بفعل { يشعرن } من قبيل تعليق الحكم بالذات ، والمراد بعض أحوالها . والتقدير : ولا يخبرن بوجودكم أحداً . فهنا مضاف محذوف دلت عليه دلالة الاقتضاء فيشمل جميع أحوالهم من عددهم ومكانهم وغير ذلك . والنون لتوكيد النهي تحذيراً من عواقبه المضمنة في جملة { إنهم إن يظهروا عليكم يرجموكم } الواقعة تعليلاً للنهي ، وبياناً لوجه توكيد النهي بالنون ، فهي واقعة موقع العلة والبيان ، وكلاهما يقتضي فصلها عما قبلها .

 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{وَكَذَٰلِكَ بَعَثۡنَٰهُمۡ لِيَتَسَآءَلُواْ بَيۡنَهُمۡۚ قَالَ قَآئِلٞ مِّنۡهُمۡ كَمۡ لَبِثۡتُمۡۖ قَالُواْ لَبِثۡنَا يَوۡمًا أَوۡ بَعۡضَ يَوۡمٖۚ قَالُواْ رَبُّكُمۡ أَعۡلَمُ بِمَا لَبِثۡتُمۡ فَٱبۡعَثُوٓاْ أَحَدَكُم بِوَرِقِكُمۡ هَٰذِهِۦٓ إِلَى ٱلۡمَدِينَةِ فَلۡيَنظُرۡ أَيُّهَآ أَزۡكَىٰ طَعَامٗا فَلۡيَأۡتِكُم بِرِزۡقٖ مِّنۡهُ وَلۡيَتَلَطَّفۡ وَلَا يُشۡعِرَنَّ بِكُمۡ أَحَدًا} (19)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

{وكذلك}، يعني: وهكذا، {بعثناهم}، من نومهم فقاموا،

{ليتساءلوا بينهم}، ف {قال قائل منهم}... {كم لبثتم} رقودا،

{قالوا لبثنا يوما}، وكانوا دخلوا الغار غدوة، وبعثوا من آخر النهار، فمن ثم قالوا: {أو بعض يوم قالوا}... {ربكم أعلم بما لبثتم} في رقودكم منكم، فردوا العلم إلى الله عز وجل...

{فابعثوا أحدكم بورقكم}، يعني: الدراهم، {هذه} التي معكم،

{إلى المدينة}، فبعثوا... {فلينظر أيها أزكى طعاما}، يعني: أطيب طعاما، {فليأتكم برزق منه وليتلطف}، يعني: وليترفق حتى لا يفطن له،

{ولا يشعرن بكم أحدا}، يعني: ولا يعلمن بمكانكم أحدا، من الناس.

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يقول تعالى ذكره: كما أرقدنا هؤلاء الفتية في الكهف، فحفظناهم من وصول واصل إليهم، وعين ناظر أن ينظر إليهم، وحفظنا أجسامهم من البلاء على طول الزمان، وثيابهم من العفن على مرّ الأيام بقدرتنا، فكذلك بعثناهم من رقدتهم، وأيقظناهم من نومهم، لنعرّفهم عظيم سلطاننا، وعجيب فعلنا في خلقنا، وليزدادوا بصيرة في أمرهم الذي هم عليه من براءتهم من عبادة الآلهة، وإخلاصهم لعبادة الله وحده لا شريك له، إذا تبيّنوا طول الزمان عليهم، وهم بهيئتهم حين رقدوا. وقوله:"لِيَتَساءَلُوا بَيْنَهُمْ" يقول: ليسأل بعضهم بعضا، "قالَ قائلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ "يقول عزّ ذكره: فتساءلوا فقال قائل منهم لأصحابه: "كَمْ لبثْتمْ" وذلك أنهم استنكروا من أنفسهم طول رقدتهم، "قالُوا لَبِثْنا يَوْما أوْ بَعْضَ يَوْمٍ" يقول: فأجابه الآخرون فقالوا: "لَبِثْنا يوما أو بعض يوم" ظنا منهم أن ذلك كذلك كان، فقال الآخرون: "رَبّكُمْ أعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ" فسلّموا العلم إلى الله.

وقوله: "فابْعَثُوا أحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إلى المَدِينَةِ" يعني مدينتهم التي خرجوا منها هِرابا... "فَلْيَنْظُرْ أيّها أزْكَى طَعاما فَلْيأَتِكُمْ بِرزْقٍ مِنْهُ" ذكر أنهم هبوا من رقدتهم جياعا، فلذلك طلبوا الطعام...

وأولى الأقوال في ذلك بالصواب عندي قول من قال: إن الله تعالى بعثهم من رقدتهم ليتساءلوا بينهم كما بيّنا قبل، لأن الله عزّ ذكره، كذلك أخبر عباده في كتابه، وإن الله أعثر عليهم القوم الذين أعثرهم عليهم، ليتحقق عندهم ببعث الله هؤلاء الفتية من رقدتهم بعد طول مدتها بهيئتهم يوم رقدوا، ولم يشيبوا على مرّ الأيام والليالي عليهم، ولم يهرَموا على كرّ الدهور والأزمان فيهم قدرته على بعث من أماته في الدنيا من قبره إلى موقف القيامة يوم القيامة، لأن الله عزّ ذكره بذلك أخبرنا، فقال: "وكذلكَ أعْثَرنْا عَلَيْهمْ لِيَعْلَمُوا أنّ وَعْدَ اللّهِ حَقّ وأنّ السّاعَة لا رَيْبَ فِيها"...

وأما قوله: "فَلْيَنْظُرْ أيّها أزْكَى طَعاما" فإن أهل التأويل اختلفوا في تأويله فقال بعضهم: معناه فلينظر أيّ أهل المدينة أكثر طعاما...

وقال آخرون: بل معناه: أيها أحلّ طعاما... وقال آخرون: بل معناه: أيها خير طعاما...

وأولى الأقوال عندي في ذلك بالصواب: قول من قال: معنى ذلك: أحلّ وأطهر، وذلك أنه لا معنى في اختيار الأكثر طعاما للشراء منه إلا بمعنى إذا كان أكثرهم طعاما كان خليقا أن يكون الأفضل منه عنده أوجد، وإذا شرط على المأمور الشراء من صاحب الأفضل، فقد أمر بشراء الجيد، كان ما عند المشتري ذلك منه قليلاً الجيد أو كثيرا... وقيل: "فَلْيَنْظُرْ أيّها" فأضيف إلى كناية المدينة، والمراد بها أهلها، لأن تأويل الكلام: فلينظر أيّ أهلها أزكى طعاما لمعرفة السامع بالمراد من الكلام. وقد يُحتمل أن يكونوا عنوا بقولهم أيّها أزْكَى طَعاما: أيها أحلّ، من أجل أنهم كانوا فارقوا قومهم وهم أهل أوثان، فلم يستجيزوا أكل ذبيحتهم.

وقوله: "فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ" يقول: فليأتكم بقوت منه تقتاتونه، وطعام تأكلونه...

وقوله: "وَلْيَتَلَطّفْ" يقول: وليترفق في شرائه ما يشتري، وفي طريقه ودخوله المدينة، "وَلا يُشْعِرَنّ بِكُمْ أحَدا" يقول: ولا يعلمنّ بكم أحدا من الناس.

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

{وكذلك بعثناهم} وكما أنمناهم تلك النومة كذلك بعثناهم، إدكاراً بقدرته على الإنامة والبعث جميعاً ليسأل بعضهم بعضاً ويعرفوا حالهم وما صنع الله بهم، فيعتبروا، ويستدلوا على عظم قدرة الله تعالى ويزدادوا يقيناً، ويشكروا ما أنعم الله به عليهم وكرموا به.

{قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} جواب مبني على غالب الظن. وفيه دليل على جواز الاجتهاد والقول بالظن الغالب، وأنه لا يكون كذباً وإن جاز أن يكون خطأ. {قَالُواْ رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ} إنكار عليهم من بعضهم، وأن الله أعلم بمدّة لبثهم، كأنّ هؤلاء قد علموا بالأدلة أو بإلهام من الله أنّ المدة متطاولة، وأنّ مقدارها مبهم لا يعلمه إلا الله...

فإن قلت: كيف وصلوا قولهم {فابعثوا} بتذاكر حديث المدة؟ قلت: كأنهم قالوا: ربكم أعلم بذلك، لا طريق لكم إلى علمه، فخذوا في شيء آخر مما يهمكم. والورق: الفضة، مضروبة كانت أو غير مضروبة... قالوا: وتزوّدهم ما كان معهم من الورق عند فرارهم دليل على أنّ حمل النفقة وما يصلح المسافر هو رأي المتوكلين على الله، دون المتكلين على الاتفاقات وعلى ما في أوعية القوم من النفقات {بَيْنَهُمْ} أيّ أهلها، فحذف الأهل كما في قوله {واسأل القرية} [يوسف: 82]، {أزكى طَعَامًا} أحلّ وأطيب وأكثر وأرخص {وَلْيَتَلَطَّفْ} وليتكلف اللطف والنيقة فيما يباشره من أمر المبايعة حتى لا يغبن. أو في أمر التخفي حتى لا يعرف {وَلاَ يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا} يعني: ولا يفعلنّ ما يؤدي من غير قصد منه إلى الشعور بنا، فسمى ذلك إشعاراً منه بهم؛ لأنه سبب فيه الضمير في {إِنَّهُمْ}.

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

فإن قيل: هل يجوز أن يكون الغرض من بعثهم أن يتساءلوا ويتنازعوا؟ قلنا: لا يبعد ذلك لأنهم إذا تساءلوا انكشف لهم من قدرة الله تعالى أمور عجيبة وأحوال غريبة، وذلك الانكشاف أمر مطلوب لذاته...

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

{وكذلك} أي فعلنا بهم هذا من آياتنا من النوم وغيره، ومثل ما فعلناه بهم {بعثناهم} بما لنا من العظمة {ليتساءلوا} وأظهر بالافتعال إشارة إلى أنه في غاية الظهور. ولما كان المراد تساؤلا عن أخبار لا تعدوهم قال تعالى: {بينهم} أي عن أحوالهم في نومهم ويقظتهم فيزدادوا إيماناً، وثباتاً وإيقاناً، بما ينكشف لهم من الأمور العجيبة، والأحوال الغريبة فيعلم أنه لا علم لأحد غيرنا، ولا قدرة لأحد سوانا، وأن قدرتنا تامة، وعلمنا شامل، فليعلم ذلك من أنكر قدرتنا على البعث وسأل اليهود البعداء البغضاء عن نبيه الحبيب الذي أتاهم بالآيات، وأراهم البينات، فإن كانوا يستنصحون اليهود فليسألوهم عما قصصنا من هذه القصة، فإن اعترفوا به لزمهم جميعاً الإيمان والرجوع عن الغي والعدوان، وإن لم يؤمنوا علم قطعاً أنه لا يؤمن إلا من أردنا هدايته بالآيات البينات كأهل الكهف وغيرهم، لا بإنزال الآيات المقترحات.

ولما كان المقام مقتضياً لأن يقال: ما كان تساؤلهم؟ أجيب بقوله تعالى: {قال قائل منهم} مستفهماً من إخوانه: {كم لبثتم} نائمين في هذا الكهف من ليلة أو يوم، وهذا يدل على أن هذا القائل استشعر طول لبثهم بما رأى من هيئتهم أو لغير ذلك من الأمارات؛ ثم وصل به في ذلك الأسلوب أيضاً قوله تعالى: {قالوا لبثنا يوماً} ودل على أن هذا الجواب مبني على الظن بقوله دالاً حيث أقرهم عليه سبحانه على جواز الاجتهاد والقول بالظن المخطئ، وأنه لا يسمى كذباً وإن كان مخالفاً للواقع {أو بعض يوم} كما تظنون أنتم عند قيامكم من القبور إن لبثتم إلا قليلاً، لأنه لا فرق بين صديق وزنديق في الجهل بما غيبه الله تعالى: فكأنه قيل: على أي شيء استقر أمرهم في ذلك؟ فأجيب بأنهم ردوا الأمر إلى الله بقوله: {قالوا} أي قال بعضهم إنكاراً على أنفسهم ووافق الباقون بما عندهم من التحاب في الله والتوافق فيه فهم في الحقيقة إخوان الصفا وخلان الألفة والوفا {ربكم} المحسن إليكم {أعلم} أي من كل أحد {بما لبثتم فابعثوا} أي فتسبب عن إسناد العلم إلى الله تعالى أن يقال: اتركوا الخوض في هذا واشتغلوا بما ينفعكم بأن تبعثوا {أحدكم بورقكم} أي فضتكم {هذه} التي جمعتموها لمثل هذا {إلى المدينة} التي خرجتم منها وهي طرطوس ليأتينا بطعام فإنا جياع {فلينظر أيها} أي أي أهلها {أزكى} أي أطهر وأطيب {طعاماً فليأتكم} ذلك الأحد {برزق منه} لنأكل {وليتلطف} في التخفي بأمره حتى لا يتفطنوا له {ولا يشعرن} أي هذا المبعوث منكم في هذا الأمر {بكم أحداً} أن فطنوا له فقبضوا عليه، وإن المعنى: لا يقولن ولا يفعلن ما يؤدي من غير قصد منه إلى الشعور بكم فيكون قد أشعر بما كان منه من السبب، وفي قصتهم دليل على أن حمل المسافر ما يصلحه من المنفعة رأى المتوكلين لا المتآكلين المتكلين على الإنفاقات على ما في أوعية القوم من النفقات، وفيها صحة الوكالة...

تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :

{قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ} فردوا العلم إلى المحيط علمه بكل شيء، جملة وتفصيلا، ولعل الله تعالى -بعد ذلك- أطلعهم على مدة لبثهم، لأنه بعثهم ليتساءلوا بينهم، وأخبر أنهم تساءلوا، وتكلموا بمبلغ ما عندهم، وصار آخر أمرهم، الاشتباه، فلا بد أن يكون قد أخبرهم يقينا، علمنا ذلك من حكمته في بعثهم، وأنه لا يفعل ذلك عبثا. ومن رحمته بمن طلب علم الحقيقة في الأمور المطلوب علمها، وسعى لذلك ما أمكنه، فإن الله يوضح له ذلك، وبما ذكر فيما بعده من قوله. {وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا} فلولا أنه حصل العلم بحالهم، لم يكونوا دليلا على ما ذكر...

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

عطف لجزء من القصة الذي فيه عبرة لأهل الكهف بأنفسهم ليعلموا من أكرمهم الله به من حفظهم عن أن تنالهم أيدي أعدائهم بإهانة، ومن إعلامهم علم اليقين ببعض كيفية البعث، فإن علمه عظيم وقد قال إبراهيم {رب أرني كيف تحيي الموتى} [البقرة: 260].

والإشارة بقوله: {وكذلك} إلى المذكور من إنامتهم وكيفيتها، أي كما أنمناهم قروناً بعثناهم. ووجه الشبه: أن في الإفاقة آية على عظيم قدرة الله تعالى مثل آية الإنامة.

ويجوز أن يكون تشبيه البعث المذكور بنفسه للمبالغة في التعجيب كما تقدم في قوله: {وكذلك جعلناكم أمة وسطا} [البقرة: 143].

وتقدم الكلام على معنى البعث في الآية المتقدمة، وفي حسن موقع لفظ البعث في هذه القصة، وفي التعليل من قوله: {ليتساءلوا} عند قوله: {ثم بعثناهم لنعلم أي الحزبين أحصى} [الكهف: 12]. والمعنى: بعثناهم فتساءلوا بينهم.

وجملة {قال قائل منهم} بيان لجملة {ليتساءلوا}. وسميت هذه المحاورة تساؤلاً لأنها تحاور عن تطلب كل رأيَ الآخر للوصول إلى تحقيق المدة. و الذين قالوا: {لبثنا يوماً أو بعض} هم مَن عدا الذي قال: {كم لبثتم}.

وأسند الجواب إلى ضمير جماعتهم: إما لأنهم تواطؤوا عليه، وإما على إرادة التوزيع، أي منهم من قال: لبثنا يوماً، ومنهم قال: لبثنا بعض يوم. وعلى هذا يجوز أن تكون (أو) للتقسيم في القول بدليل قوله بعد {قالوا ربكم أعلم بما لبثتم}، أي لما اختلفوا رجعوا فعدلوا عن القول بالظن إلى تفويض العلم إلى الله تعالى، وذلك من كمال إيمانهم. فالقائلون {ربكم أعلم بما لبثتم} يجوز أن يكون جميعهم وهو الظاهر. ويجوز أن يكون قول بعضهم فأسند إليهم لأنهم رأوه صواباً.

وتفريع قولهم: {فابعثوا أحدكم} على قولهم: {ربكم أعلم بما لبثتم} لأنه في معنى فدَعُوا الخوض في مدة اللبث فلا يعلمها إلا الله وخذوا في شيء آخر مما يهمكم، وهو قريب من الأسلوب الحكيم. وهو تلقي السائل بغير ما يتطلب تنبيهاً على أن غيره أولى بحاله، ولولا قولهم: {ربكم أعلم بما لبثتم} لكان قولهم: {فابعثوا أحدكم} عين الأسلوب الحكيم.

والوَرِق بفتح الواو وكسر الراءِ: الفضة... والإشارة بهذه إلى دَراهم معينة عندهم... و {أيها} ما صدقه أي مكان من المدينة، لأن المدينة كل له أجزاء كثيرة منها دكاكين الباعة، أي فلينظر أي مكان منها هو أزكى طعاماً، أي أزكى طعامُه من طعام غيره.

وانتصب {طعاماً} على التمييز لنسبة (أزكى) إلى (أي).

والأزكى: الأطْيب والأحسن، لأن الزّكْوَ الزيادة في الخير والنفع.

والرزق: القوت. وقد تقدم عند قوله تعالى: {قال لا يأتيكما طعام ترزقانه} في سورة يوسف (37)، والفاء لتفريع أمرهم مَن يبعثونه بأن يأتي بطعام زكي وبأن يتلطف.

وصيغة الأمر في قوله: {فليأتكم} و {ليتلطف} أمر لأحدٍ غير معين سيوكَلونه، أي أن تبعثوه يأتكم برزق، ويجوز أن يكون المأمور معيناً بينهم وإنما الإجمال في حكاية كلامهم لا في الكلام المحكي. وعلى الوجهين فهم مأمورون بأن يوصوه بذلك...

والإشعار: الإعلام، وهو إفعال من شَعَر من باب نصر وكَرُم شُعوراً، أي علم. فالهمزة للتعدية مثل همزة أعلم} من علم الذي هو عِلم العرفان يتعدى إلى واحد...

تفسير الشعراوي 1419 هـ :

وهذه وقفة المشدوه حين يسأل عن زمن لا يدري مدته، إنه طويل عند الله إنما قصير عنده، وهذا كقوله تعالى في سورة البقرة: {قال كم لبثت قال لبثت يوما أو بعض يوم قال بل لبثت مائة عام فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه وانظر إلى حمارك ولنجعلك آية للناس.. "259 "} (سورة البقرة): لقد حكم على مدة لبثه بيوم أو بعض يوم؛ لأنه وجد نفسه على الحال التي عهدها لم يتغير منه شيء، فكيف يتأتى الصدق من الحق سبحانه في قوله (مائة عام) والصدق في قول العزير بيوم أو بعض يوم؟ لاشك أننا أمام آية من آيات الخالق سبحانه، ومعجزة من معجزاته لا يقدر عليها إلا المالك للزمان والمكان، القابض للزمان ليوم أو بعض يوم، الباسط له إلى مائة عام. لذلك أظهر الخالق سبحانه في هذه المعجزة الدليل على صدق القولين: ففي طعام العزير الذي ظل على حاله طازجاً لم يتغير دليل على يوم أو بعض يوم، وفي حماره الذي رآه عظاماً بالية دليل على المائة عام، فسبحان الذي يجمع الشيء وضده في آن واحد. ثم يقول تعالى حكاية عنهم: {قالوا ربكم أعلم بما لبثتم}: وهو قول الجماعة الذين أرادوا إنهاء الخلاف في هذه المسألة، فقالوا لإخوانهم: دعونا من هذه القضية التي لا تفيد، واتركوا أمرها لله تعالى. ودائماً يأمرنا الحق سبحانه بأن ننقل الجدل من شيء لا ننتهي فيه إلى شيء، ونحوله للأمر المثمر النافع؛ لذلك قالوا: {فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة فلينظر أيها أزكى طعاما فليأتكم برزق منه وليتلطف ولا يشعرن بكم أحدا}. والورق يعني العملة من الفضة، فأرادوا أن يرسلوا أحدهم بما معهم من النقود ليشتري لهم من المدينة طعاماً؛ لأنهم بمجرد أن استيقظوا انتهت حالتهم الاستثنائية، وعادوا إلى طبيعتهم؛ لذلك طلبوا الطعام، لكن نلحظ هنا أن الجوع لم يحملهم على طلب مطلق الطعام، بل تراهم حريصين على تزكية طعامهم واختيار أطيبه وأطهره، وأبعده عن الحرام. وكذلك لم يفتهم أن يكونوا على حذر من قومهم، فمن سيذهب منهم إلى هذه المهمة عليه أن يدخل المدينة خلسة، وأن يتلطف في الأمر حتى لا يشعر به أحد من القوم، ذلك لأنهم استيقظوا على الحالة التي ناموا عليها، ومازالوا على حذر من قومهم يظنون أنهم يتتبعونهم ويبحثون عنهم، ويسعون للقضاء عليهم.