أباح تبارك وتعالى طلاق المرأة بعد العقد عليها وقبل الدخول بها . قال ابن عباس ، وطاوس ، وإبراهيم ، والحسن البصري : المس : النكاح . بل ويجوز أن يطلقها قبل الدخول بها ، والفرض لها إن كانت مفوضة ، وإن كان في هذا انكسار لقلبها ؛ ولهذا أمر تعالى بإمتاعها ، وهو تعويضها عما فاتها بشيء تعطاه من زوجها بحسب حاله ، على الموسع قدره وعلى المقتر قدره .
وقال سفيان الثوري ، عن إسماعيل بن أمية ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : متعة الطلاق أعلاه الخادم ، ودون ذلك الورق ، ودون ذلك الكسوة .
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : إن{[4048]} كان موسرا متعها بخادم ، أو شبه ذلك ، وإن كان معسرا أمتعها بثلاثة أثواب .
وقال الشعبي : أوسط ذلك : درع وخمار وملحفة وجلباب . قال : وكان شريح يمتع بخمسمائة . وقال عبد الرزاق : أخبرنا مَعْمَر ، عن أيوب ، عن ابن سيرين قال : كان يُمتع بالخادم ، أو بالنفقة ، أو بالكسوة ، قال : ومتع الحسن بن علي بعشرة آلاف{[4049]} ويروى أن المرأة قالت :
متاعٌ قليلٌ من حَبِيبٍ مُفَارق
وذهب أبو حنيفة ، رحمه الله ، إلى أنه متى تنازع الزوجان في مقدار المتعة وجب لها عليه نصف مهر مثلها . وقال الشافعي في الجديد : لا يجبر الزوج على قدر معلوم ، إلا على أقل ما يقع عليه اسم المتعة ، وأحب ذلك إليَّ أن يكون أقله ما تجزئ فيه الصلاة . وقال في القديم : لا أعرف في المتعة قدرًا{[4050]} إلا أني أستحسن ثلاثين درهمًا ؛ لما روي عن ابن عمر ، رضي الله عنهما{[4051]} .
وقد اختلف العلماء أيضًا : هل تجب المتعة لكل مطلقة ، أو إنما تجب المتعة لغير المدخول بها التي لم يفرض لها ؟ على أقوال :
أحدها : أنه تجب المتعة لكل مطلقة ، لعموم قوله تعالى : { وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ } [ البقرة : 241 ] ولقوله تعالى : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلا } [ الأحزاب : 28 ] وقد كن مفروضا لهن ومدخولا بهن ، {[4052]} وهذا قول سعيد بن جُبير ، وأبي العالية ، والحسن البصري . وهو أحد قولي الشافعي ، ومنهم من جعله الجديد الصحيح ، فالله أعلم .
والقول الثاني : أنها تجب للمطلقة إذا طلقت قبل المسيس ، وإن كانت مفروضًا لها لقوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلا } [ الأحزاب : 49 ] قال شعبة وغيره ، عن قتادة ، عن سعيد بن المسيب قال : نسخت هذه الآية التي في الأحزاب الآية التي في البقرة .
وقد روى البخاري في صحيحه ، عن سهل بن سعد ، وأبي أسَيد أنهما قالا تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم أميمة بنت شراحيل ، فلما أدخلت عليه بسط يده إليها فكأنما{[4053]} كرهت ذلك ، فأمر أبا أسيد أن يجهزها ويكسوها ثوبين رازِقِيَّين{[4054]} {[4055]} .
والقول الثالث : أن المتعة إنما تجب للمطلقة إذا لم يدخل بها ، ولم يفرض{[4056]} لها ، فإن كان قد دخل بها وجب لها مهر مثلها إذا كانت مفوضة ، وإن كان قد فرض لها وطلقها قبل الدخول ، وجب لها عليه شطره ، فإن دخل بها استقر الجميع ، وكان ذلك عوضًا لها عن المتعة ، وإنما المصابة التي لم يفرض لها ولم يدخل بها فهذه التي دلت هذه الآية الكريمة على وجوب متعتها . وهذا قول ابن عمر ، ومجاهد . ومن العلماء : من استحبها لكل مطلقة ممن عدا المفوضة المفارقة قبل الدخول : وهذا ليس بمنكور{[4057]} وعليه تحمل آية التخيير في الأحزاب ؛ ولهذا قال تعالى : { وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ } [ البقرة : 241 ] .
ومن العلماء من يقول : إنها مستحبة مطلقًا . قال ابن أبي حاتم : حدثنا كثير بن شهاب القزويني ، حدثنا محمد بن سعيد بن سابق ، حدثنا عمرو - يعني ابن أبي قيس - عن أبي إسحاق ، عن الشعبي قال : ذكروا له المتعة ، أيحبس فيها ؟ فقرأ : { عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ } قال الشعبي : والله ما رأيت أحدا حبس{[4058]} فيها ، والله لو كانت واجبة لحبس فيها القضاة .
استئناف تشريع لبيان حكم ما يترتب على الطلاق من دفع المهر ، كله أو بعضه ، وسقوطه وحكم المتعة مع إفادة إباحة الطلاق قبل المسيس . فالجملة مستأنفة استئنافاً ابتدائياً ، ومناسبة موقعها لا تخفى ، فإنه لما جرى الكلام في الآيات السابقة على الطلاق الذي تجب فيه العدة ، وهو طلاق المدخول بهن ، عرج هنا على الطلاق الواقع قبل الدخول ، وهو الذي في قوله تعالى : { يأيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن } الآية ، في سورة الأحزاب ( 49 ) ، وذكر مع ذلك هنا تنصيف المهر والعفو عنه .
وحقيقة الجناح الإثم كما تقدم في قوله : { فلا جناح عليه أن يطوف بهما } [ البقرة : 158 ] . ولا يعرف إطلاق الجناح على غير معنى الإثم ، ولذلك حمله جمهور المفسرين هنا على نفي الإثم في الطلاق ، ووقع في « الكشاف » تفسير الجناح بالتبعة فقال : { لا جناح عليكم لا تبعة عليكم من إيجاب المهر } ثم قال : والدليل على أن الجناح تبعة المهر ، قوله : { وإن طلقتموهن } إلى قوله : { فنصف ما فرضتم } فقوله : { فنصف ما فرضتم } إثبات للجناح المنفي ثمة » وقال ابن عطية وقال قوم : لا جناح عليكم معناه لا طلب بجميع المهر فعلمنا أن صاحب « الكشاف » مسبوق بهذا التأويل ، وهو لم يذكر في « الأساس » هذا المعنى للجناح حقيقة ولا مجازاً ، فإنما تأوله من تأوله تفسيراً لمعنى الكلام كله لا لكلمة { جناح } وفيه بعد ، ومحمله على أن الجناح كناية بعيدة عن التبعة بدفع المهر . والوجه ما حمل عليه الجمهور لفظ الجناح ، وهو معناه المتعارف ، وفي « تفسير ابن عطية » عن مكي بن أبي طالب « لا جناح عليكم في الطلاق قبل البناء ؛ لأنه قد يقع الجناح على المطلق بعد أن كان قاصداً للذوق ، وذلك مأمون قبل المسيس » وقريب منه في الطيبي عن الراغب أي في « تفسيره » .
فالمقصود من الآية تفصيل أحوال دفع المهر أو بعضه أو سقوطه ، وكأن قوله : { لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن } إلى آخره تمهيد لذلك وإدماج لإباحة الطلاق قبل المسيس لأنه بعيد عن قصد التذوق ، وأبعد من الطلاق بعد المسيس عن إثارة البغضاء بين الرجل والمرأة ، فكان أولى أنواع الطلاق بحكم الإباحة الطلاق قبل البناء .
قال ابن عطية وغيره : إنه لكثرة ما حض الرسول عليه الصلاة والسلام المؤمنين على أن يقصدوا من التزوج دوام المعاشرة ، وكان ينهى عن فعل الذواقين الذين يكثرون تزوج النساء وتبديلهن ، ويكثر النهي عن الطلاق حتى قد يظن محرماً ، فأبانت الآية إباحته بنفي الجناح بمعنى الوزر .
والنساء : الأزواج ، والتعريف فيه تعريف الجنس ، فهو في سياق النفي للعموم ، أي لا جناح في تطليقكم الأزواج ، و ( ما ) ظرفية مصدرية ، والمسيس هنا كناية عن قربان المرأة .
و ( أو ) في قوله : { أو تفرضوا لهن فريضة } عاطفة على { تمسوهن } المنفي ، و ( أو ) إذا وقعت في سياق النفي تفيد مفاد واو العطف فتدل على انتفاء المعطوف والمعطوق عليه معاً ، ولا تفيد المفاد الذي تفيده في الإثبات ، وهو كون الحكم لأحد المتعاطفين ، نبه على ذلك الشيخ ابن الحاجب في « أماليه » وصرح به التفتازاني في « شرح الكشاف » ، وقال الطيبي : إنه يؤخذ من كلام الراغب ، وهو التحقيق ؛ لأن مفاد « أو » في الإثبات نظير مفاد النكرة وهو الفرد المبهم ، فإذا دخل النفي استلزم نفي الأمرين جميعاً ، ولهذا كان المراد في قوله تعالى : { ولا تطع منهم آثماً أو كفوراً } [ الإنسان : 24 ] النهي عن طاعة كليهما ، لا عن طاعة أحدهما دون الآخر ، وعلى هذا انبنت المسألة الأصولية وهي : هل وقع في اللغة ما يدل على تحريم واحد لا بعينه ، بناء على أن ذلك لا يكون إلا بحرف أو ، وأن أو إذا وقعت في سياق النهي كانت كالتي تقع في سياق النفي .
وجعل صاحب « الكشاف » ( أو ) في قوله : { أو تفرضوا لهن فريضة } بمعنى إلا أو حتى ، وهي التي ينتصب المضارع بعدها بأن واجبة الإضمار ، بناء على إمكانه هنا وعلى أنه أبعد عن الخفاء في دلالة أو العاطفة في سياق النفي ، على انتفاء كلا المتعاطفين ؛ إذ قد يتوهم أنها لنفي أحدهما كشأنها في الإثبات ، وبناء على أنه أنسب بقوله تعالى بعد ذلك { وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة } حيث اقتصر في التفصيل على أحد الأمرين : وهو الطلاق قبل المسيس مع فرض الصداق ، ولم يذكر حكم الطلاق قبل المسيس أو بعده ، وقبل فرض الصداق ، فدل بذلك على أن الصورة لم تدخل في التقسيم السابق ، وذلك أنسب بأن تكون للاستثناء أو الغاية ، لا للعطف ، ولا يتوهم أن صاحب الكشاف أهمل تقدير العطف لعدم استقامته ، بل لأن غيره هنا أوضح وأنسب ، يعني والمراد قد ظهر من الآية ظهوراً لا يدع لتوهم قصد نفي أحد الأمرين خطوراً بالأذهان ، ولهذا استدركه البيضاوي فجوز تقديرها عاطفة في هذه الآية .
وقد أفادت الآية حكماً بمنطوقها وهو أن المطلقة قبل البناء إذا لم يسم لها مهر لا تستحق شيئاً من المال ، وهذا مجمع عليه فيما حكاه ابن العربي ، وحكى القرطبي عن حماد بن سليمان أن لها نصف صداق أمثالها ، والجمهور على خلافه وأن ليس لها إلا المتعة ، ثم اختلفوا في وجوبها كما سيأتي . وهذا الحكم دلنا على أن الشريعة قد اعتبرت النكاح عقداً لازماً بالقول ، واعتبرت المهر الذي هو من متمماته غير لازم بمجرد صيغة النكاح ، بل يلزم بواحد من أمرين إما بصيغة تخصه ، وهي تعيين مقداره بالقول ، وهي المعبر عنها في الفقه بنكاح التسمية ، وإما بالفعل وهو الشروع في اجتناء المنفعة المقصودة ابتداء من النكاح وهي المسيس ، فالمهر إذن من توابع العقود التي لا تثبت بمجرد ثبوت متبوعها ، بل تحتاج إلى موجب آخر كالحوز في عقود التبرعات ، وفيه نظر ، والنفس لقول حماد بن سليمان أميل .
والآية دلت على مشروعية أصل الطلاق ، لما أشعرت بنفي الجناح عن الطلاق قبل المسيس وحيث أشعرت بإباحة بعض أنواعه : بالتصدي لبيان أحكامها ، ولما لم يتقدم لنا موضع هو أنسب بذكر مشروعية الطلاق من هذه الآية ، فنحن نبسط القول في ذلك : إن القانون العام لانتظام المعاشرة هو الوفاق في الطبائع والأخلاق والأهواء والأميال ، وقد وجدنا المعاشرة نوعين : أولهما معاشرة حاصلة بحكم الضرورة ، وهي معاشرة النسب ، المختلفة في القوة والضعف ، بحسب شدة قرب النسب وبعده كمعاشرة الآباء مع الأبناء ، والإخوة بعضهم مع بعض ، وأبناء العم والعشيرة ، واختلافها في القوة والضعف يستتبع اختلافها في استغراق الأزمان ، فنجد في قصر زمن المعاشرة ، عند ضعف الآصرة ، ما فيه دافع للسآمة والتخالف الناشئين عما يتطرق إلى المتعاشرين من تنافر في الأهواء والأميال ، وقد جعل الله في مقدار قرب النسب تأثيراً في مقدار الملاءمة ؛ لأنه بمقدار قرب النسيب ، يكون التئام الذات مع الأخرى أقوى وأتم ، وتكون المحاكة والممارسة والتقارب أطول ، فنشأ من السببين الجبلي ، والاصطحابي ، ما يقوي اتحاد النفوس في الأهواء والأميال بحكم الجبلة ، وحكم التعود والإلف ، وهكذا يذهب ذلك السببان يتباعدان بمقدار ما يتباعد النسيب .
النوع الثاني : معاشرة بحكم الاختيار وهي معاشرة الصحبة والخلة والحاجة والمعاونة ، وما هي إلا معاشرة مؤقتة تطول أو تقصر ، وتستمر أو تغب ، بحسب قوة الداعي وضعفه ، وبحسب استطاعة الوفاء بحقوق تلك المعاشرة ، والتقصير في ذلك ، والتخلص من هذا النوع ممكن إذا لم تتحد الطباع . ومعاشرة الزوجين في التنويع ، هي من النوع الثاني ، وفي الآثار محتاجة إلى آثار النوع الأول ، وينقصها من النوع الأول سببه الجبلي لأن الزوجين يكثر ألا يكونا قريبين وسببه الاصطحابي ، في أول عقد التزوج حتى تطول المعاشرة ويكتسب كل من الآخر خلقه ، إلا أن الله تعالى جعل في رغبة الرجل في المرأة إلى حد أن خطبها ، وفي ميله إلى التي يراها ، مذ انتسبت به واقترنت ، وفي نيته معاشرتها معاشرة طيبة ، وفي مقابلة المرأة الرجل بمثل ذلك ما يغرز في نفس الزوجين نوايا وخواطر شريفة وثقة بالخير ، تقوم مقام السبب الجبلي ، ثم تعقبها معاشرة وإلف تكمل ما يقوم مقام السبب الاصطحابي ، وقد أشار الله تعالى إلى هذا السر النفساني الجليل ، بقوله : { ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة } [ الروم : 21 ] .
وقد يعرض من تنافر الأخلاق وتجافيها ما لا يطمع معه في تكوين هذين السببين أو أحدهما ، فاحتيج إلى وضع قانون للتخلص من هذه الصحبة ، لئلا تنقلب سبب شقاق وعداوة فالتخلص قد يكون مرغوباً لكلا الزوجين ، وهذا لا إشكال فيه ، وقد يكون مرغوباً لأحدهما ويمتنع منه الآخر ، فلزم ترجيح أحد الجانبين وهو جانب الزوج لأن رغبته في المرأة أشد ، كيف وهو الذي سعى إليها ورغب في الاقتران بها ؛ ولأن العقل في نوعه أشد ، والنظر منه في العواقب أسد ، ولا أشد احتمالاً لأذى وصبراً على سوء خلق من المرأة ، فجعل الشرع التخلص من هذه الورطة بيد الزوج ، وهذا التخلص هو المسمى : بالطلاق ، فقد يعمد إليه الرجل بعد لأي ، وقد تسأله المرأة من الرجل ، وكان العرب في الجاهلية تسأل المرأة الرجل الطلاق فيطلقها ، قال سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل يذكر زوجتيه :
تلك عِرساي تنطقان على عم *** د إلى اليوم قولَ زور وهَتْر
سَالَتَانِي الطلاق أَن رأَتامَا *** لي قليلاً قد جئتماني بنُكْـــر
تلكَ عِرسي غضبى تريد زيالي *** أَلبَيْن تري ، ، د أم لِـــدَلال
إن يكن طِبُّكِ الفــراقَ فلا أح *** فِلُ أن تعطفي صُدور الجِمال
وجعل الشرع للحاكم إذا أبى الزوج الفراق ولحق الزوجة الضرُّ من عشرته ، بعد ثبوت موجباته ، أن يطلقها عليه . فالطلاق فسخ لعقدة النكاح بمنزلة الإقالة في البيع ، إلا أنه فسخ لم يشترط فيه رضا كلا المتعاقدين بل اكتُفي برضا واحد : وهو الزوج ، تسهيلاً للفراق عند الاضطرار إليه ، ومقتضى هذا الحكم أن يكون الطلاق قبل البناء بالمرأة ممنوعاً ؛ إذ لم تقع تجربة الأخلاق ، لكن لما كان الداعي إلى الطلاق قبل البناء لا يكون إلا لسبب عظيم لأن أفعال العقلاء تصان عن العبث ، كيف يعمد راغب في امرأة ، باذل لها ماله ونفسه إلى طلاقها قبل التعرف بها ، لولا أن قد علم من شأنها ما أزال رجاءه في معاشرتها ، فكان التخلص وقتئذ قبل التعارف ، أسهل منه بعد التعارف .
وقرأ الجمهور ( ما لم تمسوهن ) بفتح المثناة الفوقية مضارع مس المجرد ، وقرأ حمزة والكسائي وخلف ، ( تماسوهن ) بضم المثناة الفوقية وبألف بعد الميم مضارع ماس ؛ لأن كلا الزوجين يمس الآخر .
وقوله : { ومتعوهن على الموسع قدره } الآية عطف على قوله : { لا جناح عليكم } عطف التشريع على التشريع ، على أن الاتحاد بالإنشائية والخبرية غير شرط عند المحققين ، والضمير عائد إلى النساء المعمول للفعل المقيد بالظرف وهو : { ما لم تَمسوهن أو تفرضوا } ، كما هو الظاهر ، أي متعوا المطلقات قبل المسيس ، وقبل الفرض ، ولا أحسب أحداً يجعل معاد الضمير على غير ما ذكرنا ، وأما ما يوجد من الخلاف بين العلماء في حكم المتعة للمطلقة المدخول بها ، فذلك لأدلة أخرى غير هذه الآية .
والأمر في قوله : { ومتعوهن } ظاهره الوجوب وهو قول علي وابن عمر والحسن والزهريّ وابن جبير وقتادة والضحاك وإسحاق بن راهويه ، وقاله أبو حنيفة والشافعي وأحمد ؛ لأن أصل الصِّيغة للوجوب مع قرينة قوله تعالى : { حقا على المحسنين } وقوله بعد ذلك ، في الآية الآتية : { حقا على المتقين } لأن كلمة { حقا } تؤكد الوجوب ، والمراد بالمحسنين عند هؤلاء المؤمنون ، فالمحسن بمعنى المحسن إلى نفسه بإبعادها عن الكفر ، وهؤلاء جعلوا المتعة للمطلقة غير المدخول بها وغير المسمى لها مهر واجبة ، وهو الأرجح لئلا يكون عقد نكاحها خلياً عن عوض المهر .
وجعل جماعة الأمر هنا للندب لقوله بعدُ : { حقا على المحسنين } فإنه قرينة على صرف الأمر إلى أحد ما يقتضِيه ، وهو ندب خاص مؤكد للندب العام في معنى الإحسان ، وهو قول مالك وشُريح ، فجعلها حقاً على المحسنين ، ولو كانت واجبة لجعلها حقاً على جميع الناس ، ومفهوم جعلها حقاً على المحسنين أنها ليست حقاً على جميع الناس ، وكذلك قوله { المتقين } في الآية الآتية ، لأن المتقي هو كثير الامتثال ، على أننا لو حملنا المتقين على كل مؤمن لكان بين الآيتين تعارض المفهوم والعموم ، فإن المفهوم الخاص يخصص العموم .
وفي « تفسير الأبّي » عن ابن عرفة : « قال محمد بن مسلمة من أصحاب مالك : المتعة واجبة يقضى بها إذ لا يأبى أن يكون من المحسنين ولا من المتقين إلا رجل سوء ، ثم ذكر ابن عرفة عن ابن عبد السلام عن ابن حبيب أنه قال بتقديم العموم على المفهوم عند التعارض ، وأنه الأصح عند الأصوليين ، قلت : فيه نظر ، فإن القائل بالمفهوم لا بد أن يخصص بخصوصه عموم العام إذا تعارضا ، على أن لمذهببِ مالك أن المتعة عطية ومؤاساة ، والمؤاساة في مرتبة التحسيني ، فلا تبلغ مبلغ الوجوب ، ولأنها مال بذل في غير عوض ، فيرجع إلى التبرعات ، والتبرعات مندوبة لا واجبة ، وقرينة ذلك قوله تعالى : { حقا على المحسنين } فإن فيه إيماء إلى أن ذلك من الإحسان لا من الحقوق ، على أنه قد نفى الله الجناح عن المطلق ثم أثبت المتعة ، فلو كانت المتعة واجبة لانتقض نفي الجناح ، إلا أن يقال : إن الجناح نفي لأن المهر شيء معين ، قد يجحف بالمطلق بخلاف المتعة ، فإنها على حسب وسعه ولذلك نفى مالك ندبَ المتعة للتي طلقت قبل البناء وقد سمَّى لها مهراً ، قال : فحسبها ما فرض لها أي لأن الله قصَرها على ذلك ، رفقاً بالمطلق ، أي فلا تندب لها ندب خاصاً ، بأمر القرآن . وقد قال مالك : بأن المطلقة المدخول بها يستحب تمتيعها ، أي بقاعدة الإحسان الأعم ولما مضى من عمل السلف .
وقوله : { على الموسع قدره وعلى المقتر قدره } الموسع من أوسع إذا صار ذا سعة ، والمقتر من أقتر إذا صار ذا قَتر وهو ضيق العيش ، والقدر بسكون الدال وبفتحها ما به تعيين ذات الشيء أو حاله ، فيطلق على ما يساوي الشيء من الأجرام ، ويطلق على ما يساويه في القيمة ، والمراد به هنا الحال التي يقدر بها المرء في مراتب الناس في الثروة ، وهو الطبقة من القوم ، والطاقة من المال ، وقرأه الجمهور بسكون الدال ، وقرأه ابن ذكوان عن ابن عامر ، وحمزة ، والكسائي ، وحفص عن عاصم ، وأبو جعفر بفتح الدال .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة}: وإن لم تسموا لهن المهر، فلا حرج في الطلاق في هذه الأحوال كلها، وهو الرجل يطلق امرأته قبل أن يجامعها ولم يسم لها مهرا، فلا مهر لها، ولا عدة عليها، ولها المتعة بالمعروف، ويجبر الزوج على متعة هذه المرأة التي طلقها قبل أن يسمي لها مهرا، وليس بمؤقت. {ومتعوهن على الموسع قدره}: في المال. {وعلى المقتر قدره} [فيه]. {متاعا بالمعروف}: وليس بمؤقت. وهو واجب؛ {حقا على المحسنين}...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
"لا جُناحَ عَلَيْكُمْ": لا حرج عليكم. "إن طلقتم النساء": لا حرج عليكم في طلاقكم نساءكم وأزواجكم. "ما لم تماسوهن": ما لم تجامعوهن. والمماسة في هذا الموضع كناية عن اسم الجماع، ولكن الله يكني ما يشاء بما شاء.
وقد اختلف القراء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قراء أهل الحجاز والبصرة: ما لَم تَمَسّوهُنّ بفتح التاء من تمسوهن، وبغير ألف من قولك: مَسِسْتُه أمَسّه مَسّا؛ وكأنهم اختاروا قراءة ذلك إلحاقا منهم له بالقراءة المجتمع عليها في قوله: "ولَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ". وقرأ ذلك آخرون: «ما لَمْ تُمَاسّوهُنّ» بضم التاء والألف بعد الميم إلحاقا منهم ذلك بالقراءة المجمع عليها في قوله: "فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أنْ يَتَمَاسّا"؛ وجعلوا ذلك بمعنى فعل كل واحد من الرجل والمرأة بصاحبه من قولك: ماسست الشيء مماسة ومِسَاسا.
والذي نرى في ذلك أنهما قراءتان صحيحتا المعنى متفقتا التأويل، وإن كان في إحداهما زيادة معنى غير موجبة اختلافا في الحكم والمفهوم. وذلك أنه لا يجهل ذو فهم إذا قيل له: مسست زوجتي أن الممسوسة قد لاقى من بدنها بدن الماسّ ما لاقاه مثله من بدن الماسّ، فكل واحد منهما وإن أفرد الخبر عنه بأنه الذي مسّ صاحبه معقول، كذلك الخبر نفسه أن صاحبه المسوس قد ماسه، فلا وجه للحكم لإحدى القراءتين مع اتفاق معانيهما، وكثرة القراءة بكل واحدة منهما بأنها أولى بالصواب من الأخرى، بل الواجب أن يكون القارئ بأيتهما قرأ مصيب الحقّ في قراءته.
وإنما عنى الله تعالى ذكره بقوله: "لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إنْ طَلّقْتُمُ النّساءَ ما لَمْ تَمَسّوهُنّ"؛ المطلقات قبل الإفضاء إليهنّ في نكاح قد سمي لهن فيه الصداق. وإنما قلنا إن ذلك كذلك، لأن كل منكوحة فإنما هي إحدى اثنتين: إما مسمى لها الصداق، أو غير مسمى لها ذلك. فعلمنا بالذي يتلو ذلك من قوله تعالى ذكره أن المعنية بقوله: "لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إنْ طَلّقْتُمْ النّساءَ مَا لَمْ تَمَسّوهُنّ"؛ إنما هي المسمى له، لأن المعنية بذلك لو كانت غير المفروض لها الصداق لما كان لقوله: "أوْ تَفْرِضُوا لَهُنّ فَرِيضَةً "معنى معقول، إذ كان لا معنى لقول قائل: لا جناح عليكم إذا طلقتم النساء ما لم تفرضوا لهنّ فرِيضة في نكاح لم تماسوهنّ فيه أو ما لم تفرضوا لهنّ فريضة. فإذ كان لا معنى لذلك، فمعلوم أن الصحيح من التأويل في ذلك: لا جناح عليكم إن طلقتم المفروض لهن من نسائكم الصداقُ قبل أن تماسوهن، وغير المفروض لهن قبل الفرض.
"أوْ تَفْرِضُوا لَهُنّ فَرِيضَةً": أو توجبوا لهنّ صداقا واجبا. "وَمَتّعُوهُنّ على المُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلى المُقْتِرِ قَدَرُهُ": وأعطوهنّ ما يتمتعن به من أموالكم على أقداركم ومنازلكم من الغنى والإقتار.
ثم اختلف أهل التأويل في مبلغ ما أمر الله به الرجال من ذلك؛ فقال بعضهم: أعلاه الخادم، ودون ذلك الوَرِق، ودونه الكسوة... فأمر الله سبحانه أن يمتعها على قدر عسره ويسره؛ فإن كان موسرا متعها بخادم أو شبه ذلك، وإن كان معسرا متعها بثلاثة أثواب أو نحو ذلك.
وقال آخرون: مبلغ ذلك -إذا اختلف الزوج والمرأة فيه- قدر نصف صداق مثل تلك المرأة المنكوحة بغير صداق مسمى في عقده. وذلك قول أبي حنيفة وأصحابه.
والصواب من القول في ذلك: أن الواجب من ذلك للمرأة المطلقة على الرجل على قدر عسره ويسره، كما قال الله تعالى ذكره: "على الموسع قدره وعلى المقتر قدره"، لا على قدر المرأة. ولو كان ذلك واجبا للمرأة على قدر صداق مثلها إلى قدر نصفه، لم يكن لقيله تعالى ذكره:"على الموسع قدره وعلى المقتر قدره"، معنى مفهوما، ولكان الكلام: ومتعوهن على قدرهن وقدر نصف صداق أمثالهن.
وفي إعلام الله تعالى ذكره عباده أن ذلك على قدر الرجل في عسره ويسره، لا على قدرها وقدر نصف صداق مثلها، ما يبين عن صحة ما قلنا، وفساد ما خالفه. وذلك أن المرأة قد يكون صداق مثلها المال العظيم، والرجل في حال طلاقه إياها مقتر لا يملك شيئا، فإن قضي عليه بقدر نصف صداق مثلها، ألزم ما يعجز عنه بعض من قد وسع عليه، فكيف المقدور عليه؟ وإذا فعل ذلك به، كان الحاكم بذلك عليه قد تعدى حكم قول الله تعالى ذكره: "على الموسع قدره وعلى المقتر قدره" -ولكن ذلك على قدر عسر الرجل ويسره، لا يجاوز بذلك خادم أو قيمتها، إن كان الزوج موسعا. وإن كان مقترا، فأطاق أدنى ما يكون كسوه لها، وذلك ثلاثة أثواب ونحو ذلك، قضي عليه بذلك. وإن كان عاجزا عن ذلك، فعلى قدر طاقته. وذلك على قدر اجتهاد الإمام العادل عند الخصومة إليه فيه.
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله. "ومتعوهن"، هل هو على الوجوب، أو على الندب؟
فقال بعضهم: هو على الوجوب، يقضى بالمتعة في مال المطلق، كما يقضى عليه بسائر الديون الواجبة عليه لغيره. وقالوا: ذلك واجب عليه لكل مطلقة، كائنة من كانت من نسائه.
وقال آخرون: المتعة للمطلقة على زوجها المطلقها واجبة، ولكنها واجبة لكل مطلقة سوى المطلقة المفروض لها الصداق، فأما المطلقة المفروض لها الصداق إذا طلقت قبل الدخول بها، فإنها لا متعة لها، وإنما لها نصف الصداق المسمى.
وقال آخرون: المتعة حق لكل مطلقة، غير أن منها ما يقضى به على المطلق، ومنها ما لا يقضى به عليه، ويلزمه فيما بينه وبين الله إعطاؤه.
وقال آخرون: لا يقضي الحاكم ولا السلطان بشيء من ذلك على المطلق، وإنما ذلك من الله تعالى ذكره ندب وإرشاد إلى أن تمتع المطلقة.
وكأن قائلي هذا القول ذهبوا في تركهم إيجاب المتعة فرضا للمطلقات، إلى أن قول الله تعالى ذكره:"حقا على المحسنين"، وقوله: "حقا على المتقين"، دلالة على أنها لو كانت واجبة وجوب الحقوق اللازمة الأموال بكل حال، لم يخصص المتقون والمحسنون بأنها حق عليهم دون غيرهم، بل كان يكون ذلك معموما به كل أحد من الناس.
وأما موجبوها على كل أحد سوى المطلقة المفروض لها الصداق، فإنهم اعتلوا بأن الله تعالى ذكره لما قال:"وللمطلقات متاع بالمعروف حقا على المتقين"، كان ذلك دليلا على أن لك مطلقة متاعا سوى من استحدثناه الله تعالى ذكره في كتابه أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم. فلما قال: "وإذ طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم"، كان في ذلك دليل عندهم على أن حقها النصف مما فرض لها، لأن المتعة جعلها الله في الآية التي قبلها عندهم، لغير المفروض لها. فكان معلوما عندهم بخصوص الله بالمتعة غير المفروض لها، أن حكمها غير حكم التي لم يفرض لها إذا طلقها قبل المسيس، فيما لها على الزوج من الحقوق.
والذي هو أولى بالصواب من القول في ذلك عندي، قول من قال:"لكل مطلقة متعة"، لأن الله تعالى ذكره قال: "وللمطلقات متاع بالمعروف حقا على المتقين"، فجعل الله تعالى ذكره ذلك لكل مطلقة، ولم يخصص منهن بعضا دون بعض. فليس لأحد إحالة ظاهر تنزيل عام، إلى باطن خاص، إلا بحجة يجب التسليم لها.
فإن قال قائل: فإن الله تعالى ذكره قد خص المطلقة قبل المسيس، إذا كان
مفروضا لها، بقوله:"وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم"، إذ لم يجعل لها غير النصف من الفريضة؟
قيل: إن الله تعالى ذكره إذا دل على وجوب شيء في بعض تنزيله، ففي دلالته على وجوبه في الموضع الذي دل عليه، الكفاية عن تكريره، حتى يدل على بطول فرضه. وقد دل بقوله، "وللمطلقات متاع بالمعروف"، على وجوب المتعة لكل مطلقة، فلا حاجة بالعباد إلى تكرير ذلك في كل آية وسورة. وليس في دلالته على أن للمطلقة قبل المسيس المفروض لها الصداق نصف ما فرض لها، دلالة على بطول المتعة عنه. لأنه غير مستحيل في الكلام لو قيل:"وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم "والمتعة. فلما لم يكن ذلك محالا في الكلام، كان معلوما أن نصف الفريضة إذا وجب لها، لم يكن في وجوبه لها نفي عن حقها من المتعة، ولما لم يكن اجتماعهما للمطلقة محالا، وكان الله تعالى ذكره قد دل على وجوب ذلك لها، وإن كانت الدلالة على وجوب أحدهما في آية غير الآية التي فيها الدلالة على وجوب الأخرى، ثبت وصح وجوبهما لها.
هذا، إذا لم يكن على أن للمطلقة المفروض لها الصداق إذا طلقت قبل المسيس، دلالة غير قول الله تعالى ذكره:"وللمطلقات متاع بالمعروف"، فكيف وفي قول الله تعالى ذكره: "لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة ومتعوهن"، الدلالة الواضحة على أن المفروض لها إذا طلقت قبل المسيس، لها من المتعة مثل الذي لغير المفروض لها منها؟ وذلك أن الله تعالى ذكره لما قال:"لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة، "كان معلوما بذلك أنه قد دل به على حكم طلاق صنفين من طلاق النساء: أحدهما المفروض له، والآخر غير المفروض له. وذلك أنه لما قال:"أو تفرضوا لهن فريضة"، علم أن الصنف الآخر هو المفروض له، وأنها المطلقة المفروض لها قبل المسيس. لأنه قال: "لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم يمسوهن"، ثم قال تعالى ذكره:"ومتعوهن"، فأوجب المتعة للصنفين منهن جميعا، المفروض لهن، وغير المفروض لهن. فمن ادعى أن ذلك لأحد الصنفين، سئل البرهان على دعواه من أصل أو نظير، ثم عكس عليه القول في ذلك. فلن يقول في شيء منه قولا إلا ألزم في الآخر مثله.
وأرى أن المتعة للمرأة حق واجب، إذا طلقت، على زوجها المطلقها، على ما بينا آنفا -يؤخذ بها الزوج كما يؤخذ بصداقها، لا يبرئه منها إلا أداؤه إليها أو إلى من يقوم مقامها في قبضها منه، أو ببراءة تكون منها له. وأرى أن سبيلها سبيل صداقها وسائر ديونها قبله، يحبس بها إن طلقها فيها، إذا لم يكن له شيء ظاهر يباع عليه، إذا امتنع من إعطائها ذلك.
وإنما قلنا ذلك، لأن الله تعالى ذكره قال: "ومتعوهن،" فأمر الرجال أن يمتعوهن، وأمره فرض، إلا أن يبين تعالى ذكره أنه عنى به الندب والإرشاد، لما قد بينا في كتابنا المسمى (بلطيف البيان عن أصول الأحكام)، لقوله: "وللمطلقات متاع بالمعروف". ولا خلاف بين جميع أهل التأويل أن معنى ذلك: وللمطلقات على أزواجهن متاع بالمعروف. وإذا كان ذلك كذلك، فلن يبرأ الزوج مما لها عليه إلا بما وصفنا قبل، من أداء أو إبراء على ما قد بينا.
فإن ظن ذو غباء أن الله تعالى ذكره إذ قال:"حقا على المحسنين "و" حقا على المتقين"، أنها غير واجبة، لأنها لو كانت واجبة لكانت على المحسن وغير المحسن، والمتقي وغير المتقي، فإن الله تعالى ذكره قد أمر جميع خلقه بأن يكونوا من المحسنين ومن المتقين، وما وجب من حق على أهل الإحسان والتقى، فهو على غيرهم أوجب، ولهم ألزم.
وبعد، فإن في إجماع الحجة على أن المتعة للمطلقة غير المفروض لها قبل المسيس واجبة بقوله: "ومتعوهن"، وجوب نصف الصداق للمطلقة المفروض لها قبل المسيس بقول الله تعالى ذكره فيما أوجب لهما من ذلك الدليل الواضح أن ذلك حق واجب لكل مطلقة بقوله:"وللمطلقات متاع بالمعروف"، وإن كان قال: "حقا على المتقين".
ومن أنكر ما قلنا في ذلك، سئل عن المتعة للمطلقة غير المفروض لها قبل المسيس. فإن أنكر وجوب ذلك خرج من قول جميع الحجة، ونوظر مناظرتنا المنكرين في عشرين دينارا زكاة، والدافعين زكاة العروض إذا كانت للتجارة، وما أشبه ذلك. فإن أوجب ذلك لها، سئل الفرق بين وجوب ذلك لها، والوجوب لكل مطلقة، وقد شرط فيما جعل لها من ذلك بأنه حق على المحسنين، كما شرط فيما جعل للآخر بأنه حق على المتقين. فلن يقول في أحدهما قولا إلا ألزم في الآخر مثله.
واجمع الجميع على أن المطلقة غير المفروض لها قبل المسيس، لا شيء لها على زوجها المطلقها غير المتعة...
وأما "الموسع"، فهو الذي قد صار من عيشه إلى سعة وغنى، يقال منه: أوسع فلان فهو يوسع إيساعا وهو موسع.
وأما" المقتر"، فهو المقل من المال، يقال: قد أقتر فهو يقتر إقتارا، وهو مقتر.
واختلف القرأة في قراءة "قدره"؛
فقرأه بعضهم: "على الموسع قدره وعلى المقتر قدره". بتحريك" الدال "إلى الفتح من" القدر"، توجيها منهم ذلك إلى الاسم من "التقدير"، الذي هو من قول القائل:"قدَر فلان هذا الأمر".
وقرأ آخرون بتسكين "الدال" منه، توجيها منهم ذلك إلى المصدر من ذلك.
والقول في ذلك عندي أنهما جميعا قراءتان قد جاءت بهما الأمة، ولا تحيل القراءة بإحداهما معنى في الأخرى، بل هما متفقتا المعنى. فبأي- القراءتين قرأ القارئ ذلك، فهو للصواب مصيب.
وإنما يجوز اختيار بعض القراءات على بعض لبينونة المختارة على غيرها بزيادة معنى أوجبت لها الصحة دون غيرها. وأما إذا كانت المعاني في جميعها متفقة، فلا وجه للحكم لبعضها بأنه أولى أن يكون مقروءا به من غيره.
فتأويل الآية إذا: لا حرج عليكم، أيها الناس، لأن طلقتم النساء وقد فرضتم لهن ما لم تماسوهن، وإن طلقتموهن ما لم تماسوهن قبل أن تفرضوا لهن، ومتعوهن جميعا على ذي السعة والغنى منكم من متاعهن حينئذ بقدر غناه وسعته، وعلى ذي الإقتار والفاقة منكم منه بقدر طاقته وإقتاره.
{مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ}: ومتعوهن متاعا.
" بالمعروف ": بما أمركم الله به من إعطائكم إياهن ذلك، بغير ظلم، ولا مدافعة منكم لهن به.
" حقا على المحسنين ": متاعا بالمعروف الحق على المحسنين.
والتأويل: فمتعوهن متاعا بمعروف حق على كل من كان منكم محسنا.
" المحسنين ": الذين يحسنون إلى أنفسهم في المسارعة إلى طاعة الله فيما ألزمهم به، وأدائهم ما كلفهم من فرائضه.
فإن قال قائل: إنك قد ذكرت أن "الجناح" هو الحرج، وقد قال الله تعالى ذكره: "لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن"، فهل علينا من جناح لو طلقناهن بعد المسيس، فيوضع عنا بطلاقنا إياهن قبل المسيس؟ قيل: قد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:"إن الله لا يحب الذواقين ولا الذواقات".
وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ما بال أقوام يلعبون بحدود الله، يقولون: قد طلقتك، قد راجعتك، قد طلقتك"...
فجائز أن يكون" الجناح "الذي وضع عن الناس في طلاقهم نساءهم قبل المسيس، هو الذي كان يلحقهم منه بعد ذوقهم إياهن، كما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد كان بعضهم يقول: معنى قوله في هذا الموضع:"لا جناح"، لا سبيل عليكم للنساء- إن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن، ولم تكونوا فرضتم لهن فريضة -في إتباعكم بصداق ولا نفقة. وذلك مذهب، لولا ما قد وصفت من أن المعني بالطلاق قبل المسيس في هذه الآية صنفان من النساء: أحدهما المفروض لها، والآخر غير المفروض لها. فإذ كان ذلك كذلك، فلا وجه لأن يقال: لا سبيل لهن عليكم في صداق، إذا كان الأمر على ما وصفنا.
وقد يحتمل ذلك أيضا وجها آخر: وهو أن يكون معناه: لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تماسوهن، في أي وقت شئتم طلاقهن. لأنه لا سنة في طلاقهن، فللرجل أن يطلقهن إذا لم يكن مسهن حائضا وطاهرا في كل وقت أحب. وليس ذلك كذلك في المدخول بها التي قد مست، لأنه ليس لزوجها طلاقها إن كانت من أهل الأقراء- إلا للعدة طاهرا في طهر لم يجامع فيه. فيكون "الجناح" الذي أسقط عن مطلق التي لم يمسها في حال حيضها، هو "الجناح" الذي كان به مأخوذا المطلق بعد الدخول بها في حال حيضها، أو في طهر قد جامعها فيه.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تسموهن}: فيه دليل رخصة طلاق غير مدخولات بهن في الأوقات كلها، إذ لا يتكلم بنفي الجناح إلا في موضع الرخصة، ولم يخص وقتا دون وقت. وأما المدخولات بهن فإنه جل وعلا ذكر لطلاقهن وقتا بقوله {فطلقهن لعدتهن} [الطلاق: 1]؛ لذلك قال أصحابنا، رحمهم الله تعالى:
(إنه لا بأس للرجل أن يطلق امرأته في حال الحيض إذا كان [لم يدخل] بها؛ ووجهه أنه إذا كان دخل بها يعرف وقت طهرها مما سبق من الدخول بها، فأمر بالطلاق في ذلك الوقت ليكون أدعى إلى المراجعة إذا ندم على طلاقها). وأما التي لم يدخل بها، لا يعرف طهرها لما لم يسبق منه ما به يعرف ذلك الوقت، فلم يؤمر بحفظ ذلك الوقت، ولأنه إذا لم يدخل بها فإن الطلاق بينهما منه، فجعل كل الأوقات له وقتا للطلاق لما لم يجعل له الحق المراجعة قبلها لتكون بعض الأوقات له أدعى إلى ذلك، والله أعلم.
ولأن المدخول بها يتوهم علوقها منه، جعل لطلاقها وقتا ليستبين حالها: أحامل؟ أم لا؛ لئلا يندم على طلاقها، لذلك كان الجواب ما ذكرنا، والله أعلم... وفيه دليل رخصة طلاق المبين منه إذا لم يمسك إمساكها عند الندامة لأن الطلاق قبل الدخول يبين المرأة من زوجها. والأصل في الأمرين جعل الطلاق في وقت حلها للأزواج وكل الأوقات في غير المدخول بها وقت الحل...
{أو تفرضوا لهن فريضة}: ولم تفرضوا لهن فريضة كأنه عطف على قوله: {لا جناح عليكم} إلى قوله عز وجلا {ما لم تمسوهن}؛ دليله قوله تعالى: {ومتعوهن}؛ دل الأمر بالمتعة أن قوله تعالى: {أو تفرضوا لهن} معناه: ولم تفرضوا لهن، ودل قوله عز وجلا: {فنصف ما فرضتم} [البقرة: 237] أن ذاك في غر المدخول بها؛ حين أوجب فيه نصف المفروض أوجب المتعة، ثم مجيء في القياس أن يوجب في غير [المدخول بها] نصف مهر المثل إلا المتعة لأنه إذا دخل بها أوجب كل المفروض عند الدخول بها ونصف المفروض عند الدخول بها.
أحدهما: أن مهر المثل إنما يقدر بها إذا دخل بها، فإن لم يدخل بها لم يعرف الزوج ما قدر مهر مثلها، فإذا لم يعرف ما قدر مهر مثلها لم يعرف النصف من ذلك. والثاني: أنهم أوجبوا المتعة تخفيفا وتيسيرا لأن الحاكم يلحقه فضل كلفة وعناء في تعرف حالها وحال نسائها، إذ مهر المثل إنما يعتبر بنسائها، وليس ذلك في المتعة، والله أعلم...
ثم قدر المتعة يعتبر شأنه اعتبارا بقدرها لأنه لو اعتبر شأنه قدر ما أوجب لها غناها وعنى أهلها، ومهر المثل لا يبلغ ذلك، فكان في ذلك تفصيل المتعة على مهر المثل. وقد ذكرنا أن المتعة أوجب تخفيفا، ولو نظر إلى قدرها دون قدره لكلف الزوج ما لا طاقة له به ولا وسع؛ ولذلك وجب النظر إلى قدره اعتبارا بقدرها، والله أعلم... وقوله تعالى: {أو تفرضوا لهن فريضة} لو نسق على قوله: {ما لم تمسوهن} فهو على ما لم تفرضوا لهن فريضة. وعلى ذلك قوله: {إذ نكحتم المؤمنات [ثم طلقتموهن قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدوها فمتعوهن وسرحوهن سراحا جميلا]} [الأحزاب: 49].
وعلى هذا إجماع القوم في جواز النكاح بغير تسمية. وفي ذلك دليل أن قوله تعالى: [{وأحل لكم ما وراء ذلكم} أن تبتغوا بأموالكم تحصين} [النساء: 24] الآية وهو ما يبتغي من النكاح بالمال لا بتسمية المال، فيكون النكاح موجبا له، به يوصل إلى الحق [الاستمتاع لا بالتسمية. ولهذا كان لها حق] حبس نفسها عنه حتى يسلم إليها ما متع عن الملك إلا مهرا به مسمى أو غير مسمى كقوله تعالى: {والمحصنات من المؤمنات [والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم] إذا آتيتموهن أجورهن} [المائدة: 5] وقوله تعالى: {يا أيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك [والتي آتيت أجورهن وما ملكت يمينك}] الآية [الأحزاب: 50]...
وأما عندنا: فإنه لا تلزم المتعة، ولكن يلزم المهر لوجوه:
أحدهما: قوله تعالى: {وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم} ذكر في الطلاق قبل الدخول نصف المفروض، وفي الدخول كل المفروض. فعلى ذلك ما أوجب من الحكم في التي لم يدخل بها، ولم يسم لها مهرا، دون ما أوجب في حكم الدخول، والله أعلم.
والثاني: أن المقصود بالنكاح إنما يكون إلى موت أحد الزوجين؛ فإذا كان كذلك لزم كل المسمى أو كل مهر المثل، والله أعلم.
والثالث: الخبر الذي ذكرنا أنه قضى بمهر المثل، وخبر أمثال هؤلاء مقبول إذا كانت البلية في مثله بلية خاصة؛ إذ بمثل هذا لا يبلي إلا الخواص من الناس. لذلك كان ما ذكرنا...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
لمَّا وقع عليهن اسمكم، فنصف المسمَّى يجب لهن، فإِن الفراق -كيفما كان- فهو شديد، فجعل ما يستحق من العوض كالخَلفِ لها عند تجرع كأس الفرقة. فإن لم يكن مسمًّى فلا يخلو العقد من متعة؛ فإن تجرع الفرقة -مجرداً عن الراحة- بلاء عظيم...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
هذا ابتداء إخبار برفع الجناح عن المطلق قبل البناء والجماع، فرض مهراً أو لم يفرض، ولما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التزوج لمعنى الذوق وقضاء الشهوة وأمر بالتزوج طلباً للعصمة والتماس ثواب الله وقصد دوام الصحبة وقع في نفوس المؤمنين أن من طلق قبل البناء قد واقع جزءاً من هذا المكروه، فنزلت الآية رافعة للجناح في ذلك إذا كان أصل النكاح على المقصد الحسن.
وقال قوم: {لا جناح عليكم} معناه لا طلب بجميع المهر بل عليكم نصف المفروض لمن فرض لها والمتعة لمن لم يفرض لها، وقال قوم: {لا جناح عليكم} معناه في أن ترسلوا الطلاق في وقت حيض بخلاف المدخول بها، وقال مكي: «المعنى لا جناح عليكم في الطلاق قبل البناء لأنه قد يقع الجناح على المطلق بعد أن كان قاصداً للذوق، وذلك مأمون قبل المسيس»، والخطاب بالآية لجميع الناس.
أما قوله: {على المحسنين} ففي سبب تخصيصه بالذكر وجوه أحدها:
أن المحسن هو الذي ينتفع بهذا البيان: كقوله: {إنما أنت منذر من يخشاها}.
والثاني: قال أبو مسلم: المعنى أن من أراد أن يكون من المحسنين فهذا شأنه وطريقه، والمحسن هو المؤمن، فيكون المعنى أن العمل بما ذكرت هو طريق المؤمنين الثالث: {حقا على المحسنين} إلى أنفسهم في المسارعة إلى طاعة الله تعالى...
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :
"بالمعروف" : بما عرف في الشرع من الاقتصاد...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما تمت أحكام العدد وما يتبعها مما حق الرجال فيه أغلب أتبعها أحكام الأصدقة.
ولما كان الكلام قد طال في أحكام الطلاق والموت ولم يذكر الصداق وكان قد ختم تلك الأحكام بصفتي الغفر والحلم وكان الصداق معلوماً عندهم قبل الإسلام اقتضى ذلك السؤال: هل يجب للمفارقة صداق أو هو مما دخل تحت المغفرة والحلم فلا يجب؟
فقيل: {لا جناح عليكم} أي لا تبعة من مهر ولا غيره إلا ما يأتي من المتعة، وأصل الجناح الميل من الثقل {إن طلقتم النساء} أي إن طلق أحد منكم ما يملك عصمته منهن {ما لم تمسوهن} أي تجامعوهن. من المس ومن المماسة في القراءة الأخرى وهو ملاقاة الجرمين بغير حائل بينهما -قاله الحرالي {أو تفرضوا لهن فريضة} أي تسموا لهن مهراً معلوماً. أي لا جناح عليكم ما لم يقع أحد الأمرين أي مدة انتفائه ولا ينتفي الأحد المبهم إلا بانتفاء الأمرين معاً فإذا انتفيا انتفى الجناح وإن وجدا أو أحدهما وجد، فإن وجد المسيس وجب المسمى أو مهر المثل. وإن وجد الفرض وجب نصفه إن خلا عن مسيس.
قال الحرالي: ففي إنبائه صحة عقد النكاح مع إهمال ذكر الصداق لا مع إبطاله، ففيه صحة نكاح التفويض ونكاح التأخير لذكر الصداق، فبان به أن الصداق ليس ركناً فيه وأن إبطاله مانع من بنائه، فيكون له ثلاثة أحوال من رفع الجناح فيه عن المهمل الذي لم يمس فيه كأنه كان يستحق فرضاً ما فرفع عنه جناحه من حيث إن على الماس كلية النحلة وعلى الفارض شطر النحلة فرفع عنه جناح الفرض وجبر موضع الفرض بالإمتاع، ولذلك ألزمت المتعة طائفة من العلماء...
ولما كان التقدير: وطلقوهن إن أردتم وراعوا فيهن ما أوجبت من الحقوق لكم وعليكم عطف عليه قوله: {ومتعوهن} أي جبراً لما وقع من الكسر بالطلاق على حسب حال المطلقين، والمطلقة من غير مس ولا فرض تستحقه للمتعة بالإجماع- نقله الأصبهاني. و {على الموسع} منهم أي الذي له في حاله سعة. قال الحرالي: هو من الإيساع وهو المكنة في السعة التي هي أكثر من الكفاية {قدره} من القدر وهو الحد المحدود في الشيء حساً أو معنى {وعلى المقتر} أي الذي في حاله ضيق. قال الحرالي: هو من الإقتار وهو النقص من القدر الكافي... {قدره} أي ما يقدر عليه ويطيقه، وقراءة فتح الدال كقراءة إسكانها فإنهما لغتان أو أن الفتح مشير إلى التفضل بتحمل شيء ما فوق القدرة {متاعاً} أي تمتيعاً {بالمعروف} وهو ما ليس فيه في الشرع نكارة {حقاً على المحسنين} أي الذين صار الإحسان لهم وصفاً لازماً، والإحسان غاية رتب الدين كأنه كما قال الحرالي إسلام ظاهر يقيمه إيمان باطن يكمله إحسان شهودي...
فالكلام على هذا النظام إلهاب وتهييج لا قيد، وإنما كانت إحساناً لأن ملاك القصد فيها كما قال الحرالي ما تطيب به نفس المرأة ويبقى باطنها وباطن أهلها سلماً أو ذا مودة {لعل الله يحدث بعد ذلك أمراً} [الطلاق: 1] انتهى. ولا شك في أن هذا إحسان.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
قال الأستاذ الإمام مبينا الحكمة في شرع هذه المتعة: إن في هذا الطلاق غضاضة وإيهاما للناس أن الزوج ما طلقها إلا وقد رابه منها شيء، فإذا هو متعها متاعا حسنا تزول هذه الغضاضة ويكون هذا المتاع الحسن بمنزلة الشهادة بنزاهتها والاعتراف بأن الطلاق كان من قبله أي لعذر يختص به، لا من قبلها، أي لا لعلة فيها، لأن الله تعالى أمرنا أن نحافظ على الأعراض بقدر الطاقة. فجعل هذا التمتيع كالمرهم لجرح القلب لكي يتسامع به الناس فيقال: إن فلانا أعطى فلانة كذا وكذا فهو لم يطلقها إلا لعذر وهو آسف عليها معترف بفضلها، لا أنه رأى عيبا فيها أو رابه شيء من أمرها...
وأقول زيادة في إيضاح الحكمة: من المعروف أن الإقدام على عقد الزوجية يتقدمه تعارف وتواد بين بيت الرجل وبيت المرأة، ثم تكون الخطبة فالعقد، فإذا طلق الرجل قبل الدخول فإن الناس يظنون بالمرأة من الظنون ما لا يظنون بها إذا طلقت بعد الدخول، لأن المعاشرة هي التي تكشف لكل واحد عن طباع الآخر، فحمل الطلاق على تنافر الطباع، وعدم المشاركة في الأخلاق والعادات، وهذا وجه جعل بعض العلماء متعة غير المدخول بها واجبة ومتعة غيرها مستحبة، وإذا كانت الغضاضة في الطلاق قبل الدخول على ما ذكرنا فلا جرم أن ذلك التواد الذي ظهرت بوادره قبل الخطبة وتمكن العقد يتحول إلى عداء وتباغض، إلا أن يدفع المطلق ذلك بالتي هي أحسن وهي المتعة اللائقة، ولا تتحقق هذه الحكمة إلا بجعل مقدار المتعة موكولا إلى اختيار الرجل مع العلم بأنها واجبة على حسب الحال في السعة، وأن الغرض منها كذا، فلا يتحقق الامتثال إلا بتحري إصابته، ومما روي عن الحسن السبط أيضا أنه متع بعشرين ألفا من عسل، وكذلك كانوا يفعلون...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
إن انفصام هذه العقدة من قبل ابتدائها ينشئ جفوة ممضة في نفس المرأة، ويجعل الفراق طعنة عداء وخصومة. ولكن التمتيع يذهب بهذا الجو المكفهر، وينسم فيه نسمات من الود والمعذرة؛ ويخلع على الطلاق جو الأسف والأسى. فهي محاولة فاشلة إذن وليست ضربة مسددة! ولهذا يوصي أن يكون المتاع بالمعروف استبقاء للمودة الإنسانية، واحتفاظا بالذكرى الكريمة. وفي الوقت نفسه لا يكلف الزوج ما لا يطيق، فعلى الغني بقدر غناه، وعلى الفقير في حدود ما يستطيع: ويلوح بالمعروف والإحسان فيندي بهما جفاف القلوب واكفهرار الجو المحيط: {متاعا بالمعروف حقا على المحسنين}..
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
استئناف تشريع لبيان حكم ما يترتب على الطلاق من دفع المهر، كله أو بعضه، وسقوطه وحكم المتعة مع إفادة إباحة الطلاق قبل المسيس. فالجملة مستأنفة استئنافاً ابتدائياً، ومناسبة موقعها لا تخفى، فإنه لما جرى الكلام في الآيات السابقة على الطلاق الذي تجب فيه العدة، وهو طلاق المدخول بهن، عرج هنا على الطلاق الواقع قبل الدخول، وهو الذي في قوله تعالى: {يأيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن} الآية، في سورة الأحزاب (49)، وذكر مع ذلك هنا تنصيف المهر والعفو عنه. فالمقصود من الآية تفصيل أحوال دفع المهر أو بعضه أو سقوطه، وكأن قوله: {لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن} إلى آخره تمهيد لذلك وإدماج لإباحة الطلاق قبل المسيس لأنه بعيد عن قصد التذوق، وأبعد من الطلاق بعد المسيس عن إثارة البغضاء بين الرجل والمرأة، فكان أولى أنواع الطلاق بحكم الإباحة الطلاق قبل البناء.
والآية دلت على مشروعية أصل الطلاق، لما أشعرت بنفي الجناح عن الطلاق قبل المسيس وحيث أشعرت بإباحة بعض أنواعه: بالتصدي لبيان أحكامها، ولما لم يتقدم لنا موضع هو أنسب بذكر مشروعية الطلاق من هذه الآية، فنحن نبسط القول في ذلك: إن القانون العام لانتظام المعاشرة هو الوفاق في الطبائع والأخلاق والأهواء والأميال، وقد وجدنا المعاشرة نوعين:
أولهما معاشرة حاصلة بحكم الضرورة، وهي معاشرة النسب، المختلفة في القوة والضعف، بحسب شدة قرب النسب وبعده كمعاشرة الآباء مع الأبناء، والإخوة بعضهم مع بعض، وأبناء العم والعشيرة، واختلافها في القوة والضعف يستتبع اختلافها في استغراق الأزمان، فنجد في قصر زمن المعاشرة، عند ضعف الآصرة، ما فيه دافع للسآمة والتخالف الناشئين عما يتطرق إلى المتعاشرين من تنافر في الأهواء والأميال، وقد جعل الله في مقدار قرب النسب تأثيراً في مقدار الملاءمة؛ لأنه بمقدار قرب النسيب، يكون التئام الذات مع الأخرى أقوى وأتم، وتكون المحاكة والممارسة والتقارب أطول، فنشأ من السببين الجبلي، والاصطحابي، ما يقوي اتحاد النفوس في الأهواء والأميال بحكم الجبلة، وحكم التعود والإلف، وهكذا يذهب ذلك السببان يتباعدان بمقدار ما يتباعد النسيب.
النوع الثاني: معاشرة بحكم الاختيار وهي معاشرة الصحبة والخلة والحاجة والمعاونة، وما هي إلا معاشرة مؤقتة تطول أو تقصر، وتستمر أو تغب، بحسب قوة الداعي وضعفه، وبحسب استطاعة الوفاء بحقوق تلك المعاشرة، والتقصير في ذلك، والتخلص من هذا النوع ممكن إذا لم تتحد الطباع. ومعاشرة الزوجين في التنويع، هي من النوع الثاني، وفي الآثار محتاجة إلى آثار النوع الأول، وينقصها من النوع الأول سببه الجبلي لأن الزوجين يكثر ألا يكونا قريبين وسببه الاصطحابي، في أول عقد التزوج حتى تطول المعاشرة ويكتسب كل من الآخر خلقه، إلا أن الله تعالى جعل في رغبة الرجل في المرأة إلى حد أن خطبها، وفي ميله إلى التي يراها، مذ انتسبت به واقترنت، وفي نيته معاشرتها معاشرة طيبة، وفي مقابلة المرأة الرجل بمثل ذلك ما يغرز في نفس الزوجين نوايا وخواطر شريفة وثقة بالخير، تقوم مقام السبب الجبلي، ثم تعقبها معاشرة وإلف تكمل ما يقوم مقام السبب الاصطحابي، وقد أشار الله تعالى إلى هذا السر النفساني الجليل، بقوله: {ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة} [الروم: 21].
وقد يعرض من تنافر الأخلاق وتجافيها ما لا يطمع معه في تكوين هذين السببين أو أحدهما، فاحتيج إلى وضع قانون للتخلص من هذه الصحبة، لئلا تنقلب سبب شقاق وعداوة فالتخلص قد يكون مرغوباً لكلا الزوجين، وهذا لا إشكال فيه، وقد يكون مرغوباً لأحدهما ويمتنع منه الآخر، فلزم ترجيح أحد الجانبين وهو جانب الزوج لأن رغبته في المرأة أشد، كيف وهو الذي سعى إليها ورغب في الاقتران بها؛ ولأن العقل في نوعه أشد، والنظر منه في العواقب أسد، ولا أشد احتمالاً لأذى وصبراً على سوء خلق من المرأة، فجعل الشرع التخلص من هذه الورطة بيد الزوج، وهذا التخلص هو المسمى: بالطلاق، فقد يعمد إليه الرجل بعد لأي، وقد تسأله المرأة من الرجل، وكان العرب في الجاهلية تسأل المرأة الرجل الطلاق فيطلقها، وجعل الشرع للحاكم إذا أبى الزوج الفراق ولحق الزوجة الضرُّ من عشرته، بعد ثبوت موجباته، أن يطلقها عليه. فالطلاق فسخ لعقدة النكاح بمنزلة الإقالة في البيع، إلا أنه فسخ لم يشترط فيه رضا كلا المتعاقدين بل اكتُفي برضا واحد: وهو الزوج، تسهيلاً للفراق عند الاضطرار إليه، ومقتضى هذا الحكم أن يكون الطلاق قبل البناء بالمرأة ممنوعاً؛ إذ لم تقع تجربة الأخلاق، لكن لما كان الداعي إلى الطلاق قبل البناء لا يكون إلا لسبب عظيم لأن أفعال العقلاء تصان عن العبث، كيف يعمد راغب في امرأة، باذل لها ماله ونفسه إلى طلاقها قبل التعرف بها، لولا أن قد علم من شأنها ما أزال رجاءه في معاشرتها، فكان التخلص وقتئذ قبل التعارف، أسهل منه بعد التعارف.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
بين سبحانه آثار الفراق بين الزوجين بالطلاق أو الموت، فقد بين العدة، وهي في معناها حق الزواج وحق الزوج وحق الولد، وقد ذكر بعد ذلك حق المرأة الخالص، وهو المهر أو المتعة، وقد أمر الله سبحانه وتعالى بإيتاء المهر في قوله تعالى: [و آتوا النساء صدقاتهن نحلة...4] (النساء) ووجوبه كاملا في حال الطلاق بعد الدخول في قوله تعالى: {وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا أتأخذونه بهتانا وإثما مبينا 20} (النساء).
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
ربما يتبادر إلى الوهم أنَّ الطلاق لا يكون قبل الدخول، على أساس أنَّ الزواج لا يكون كاملاً بدون الدخول. وقد يُظَنَّ أنه لا يتحقّق في صورة إغفال ذكر المهر في العقد، فنزلت هذه الآية لتدل على أنَّ ذلك لا علاقة له بالعلاقة الزوجية التي تتحقّق بالعقد. أمّا الدخول فإنه من نتائجها لا من مقوّماتها. وأمّا المهر، فهو تابع للشرط، ولا علاقة له بصحة العقد، فقد يصح العقد الخالي منه، وهذا ما يؤكد على أنَّ الجانب المالي لا يعتبر أساساً في الزواج، بل هو رمز محبة ومودّة، وعطيّة لا تخضع لطبيعة المعاوضة... ولكنَّ اللّه أراد للإنسان أن لا يُنهي العلاقة بالطلاق من دون أن يقدّم لها إمتاعاً مالياً بالمستوى المعروف بين النّاس بحسب حاله من الإقتار أو اليسار، كنوع من أنواع التعويض المعنوي. وهو أمر واجب ينطلق من موقع الحقّ الذي أراده اللّه منطلقاً من روح الإحسان الذي يتحرّك فيه الطلاق؛ وبهذا لا يتنافى جانب الإحسان مع جانب الوجوب. وهذا مختص بالطلاق قبل الدخول... أمّا إذا كان هناك دخول من دون فرض فريضةٍ، فإنَّ الحكم هو دفع مهر المثل كما ذكره الفقهاء. {لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النِّسَآءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةً}، لأنَّ العقد بين الزوجين هو الذي يحقّق العلاقة الزوجية بينهما، من خلال مدلوله الذي يجعل أحدهما مرتبطاً بالآخر من خلال التراضي بينهما، وليس للدخول وعدمه تأثير فيه، إيجاباً أو سلباً؛ فإنَّ الدخول متفرع على شرعية العقد وليس قيداً في الشرعية، كما أنَّ المهر لا علاقة له بصحته، كما في المعاوضات المالية التي لا تصح إلاَّ مع ذكر العوض، فلا يصح البيع بلا ثمن، والإجارة بدون أجرة فإنَّ الزواج يمثّل ارتباطاً بين شخصين من خلال إرادتهما الحرة القائمة على التراضي، بحيث يعطي كلّ منهما الآخر من نفسه، في مقابل ما يعطيه الآخر من نفسه في نطاق الدائرة التي يملك فيها أحدهما الآخر من خلال الحقوق المفروضة بالعقد أو بالشرط؛ فلا علاقة للمال في الموضوع، ولذلك عبّر اللّه عن المهر بأنه «نحلة»، وهي العطية من دون مقابل في قوله تعالى: {وَآتُواْ النِّسَآءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شيء مِّنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَّرِيئاً} [النساء: 4].
وإذا كان قد عُبّر عنه في بعض الآيات بالأجر، فإنها واردة على سبيل المجاز أو المسامحة، من حيث إيحاء الجانب الشكلي بذلك عندما يذكر في المهر أو يتحقّق الاستمتاع بالمرأة. وفي ضوء ذلك، لا مانع من الطلاق حتى في حالة عدم المواقعة وعدم فرض المهر، لأنه يتضمن فسخ العقد الذي شرع العلاقة في الواقع.
{وَمَتِّعُوهُنَّ} أي: أعطوهن من مالكم ما يفتح قلوبهن، ويوحي إليهن بالمحبة، تماماً كما هي الهدية التي يقدّمها الإنسان للإنسان تدليلاً على اهتمامه به، فلا يشعرن بأنَّ هذه العلاقة التي بدأت من موقع الإخلاص للأشخاص الذين ارتبطن بهم، ولذلك لم يشترط المهر في العقد، فأقدمن على زواج لا مهر فيه، سوف تنتهي من دون أن يقدّم لهن هؤلاء الرجال أي شيء يوحي بعرفان الجميل، ولو كان ذلك بشكل رمزي.
وهكذا أراد اللّه لهذه العلاقة أن تنتهي بمبادرة إنسانية، يقدّمها الزوج لزوجته بعد الطلاق كهدية يمتعها بها روحياً ومادياً، بحسب الحجم المادي للزوج،
{عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدْرُهُ} فيعطي بالكمية التي تتناسب مع إمكاناته المادية الجيّدة، {مَتَاعاً بِالْمَعْرُوفِ}، فتكون المتعة رمزية في دلالتها على الاهتمام بها تبعاً لحاله، حَقًّا مفروضاً عَلَى الْمُحْسِنِينَ الذين عاشوا الإحسان في حياتهم، فهم يتحرّكون من موقع الإحسان الذي يتقرّبون به إلى اللّه في علاقتهم بعباده بما ألزمهم اللّه به أو استحبه لهم من ذلك كلّه.