تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَۚ وَلِذَٰلِكَ خَلَقَهُمۡۗ وَتَمَّتۡ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمۡلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ ٱلۡجِنَّةِ وَٱلنَّاسِ أَجۡمَعِينَ} (119)

يخبر تعالى أنه قادر على جعل الناس كُلِّهم أمة واحدة ، من إيمان أو كفران{[14991]} كما قال تعالى : { وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا } [ يونس : 99 ] .

وقوله : { وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ } أي : ولا يزال الخُلْفُ بين الناس في أديانهم واعتقادات مللهم ونحلهم ومذاهبهم وآرائهم .

قال{[14992]} عكرمة : { مُخْتَلِفِينَ } في الهدى{[14993]} . وقال الحسن البصري : { مُخْتَلِفِينَ } في الرزق ، يُسخّر بعضهم بعضا ، والمشهورُ الصحيح الأول .

وقوله : { إِلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ } أي : إلا المرحومين من أتباع الرسل ، الذين تمسكوا بما أمروا به من الدين{[14994]} . أخبرتهم به رسل الله إليهم ، ولم يزل ذلك دأبهم ، حتى كان النبي صلى الله عليه وسلم الأمي خاتم الرسل والأنبياء ، فاتبعوه وصدقوه ، ونصروه ووازروه ، ففازوا بسعادة الدنيا والآخرة ؛ لأنهم الفرقة الناجية ، كما جاء في الحديث المروي في المسانيد والسنن ، من طرق يشد بعضها بعضا : " إن اليهود افترقت على إحدى{[14995]} وسبعين فرقة ، وإن النصارى افترقوا على ثنتين وسبعين فرقة ، وستفترق أمتي{[14996]} على ثلاث وسبعين فرقة ، كلها في النار إلا فرقة واحدة " . قالوا : ومن هم يا رسول الله ؟ قال : " ما أنا عليه وأصحابي " .

رواه الحاكم في مستدركه بهذه الزيادة{[14997]} وقال عطاء : { وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ } يعني : اليهود والنصارى والمجوس { إِلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ } يعني : الحنَيفيَّة .

وقال قتادة : أهلُ رحمة الله أهل الجماعة ، وإن تفرقت ديارهم وأبدانهم ، وأهل معصيته أهل فرقة ، وإن اجتمعت ديارهم وأبدانهم .

وقوله : { وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ } قال الحسن البصري - في رواية عنه - : وللاختلاف خَلَقهم .

وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : خلقهم فريقين ، كقوله : { فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ } [ هود : 105 ] .

وقيل : للرحمة خلقهم . قال ابن وهب : أخبرني مسلم بن خالد ، عن ابن أبي نَجِيح ، عن طاوس ؛ أن رجلين اختصما إليه فأكثرا{[14998]} فقال طاوس : اختلفتما فأكثرتما{[14999]} ! فقال أحد الرجلين : لذلك خلقنا . فقال طاوس : كذبت . فقال : أليس الله يقول : { وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ } قال : لم يخلقهم ليختلفوا ، ولكن خلقهم للجماعة والرحمة . كما قال الحكم بن أبان ، عن عِكْرِمة ، عن ابن عباس قال : للرحمة خلقهم ولم يخلقهم للعذاب . وكذا قال مجاهد والضحاك وقتادة . ويرجع معنى هذا القول إلى قوله تعالى : { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ } [ الذاريات : 56 ] .

وقيل : بل المراد : وللرحمة والاختلاف خلقهم ، كما قال الحسن البصري في رواية عنه في قوله : { وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ } قال : الناس مختلفون على أديان شتى ، { إِلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ } فمن رحم ربك غير مختلف . قيل له : فلذلك خلقهم ؟ [ قال ]{[15000]} خلق هؤلاء لجنته ، وخلق هؤلاء لناره ، وخلق هؤلاء لرحمته ، وخلق هؤلاء لعذابه .

وكذا{[15001]} قال عطاء بن أبي رَبَاح ، والأعمش .

وقال ابن وَهْب : سألت مالكا عن قوله تعالى : { وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ } قال : فريق في الجنة وفريق في السعير .

وقد اختار هذا القول ابن جرير ، وأبو عبيدة{[15002]} والفراء .

وعن مالك فيما رويناه عنه في التفسير : { وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ } قال : للرحمة ، وقال قوم : للاختلاف .

وقوله : { وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ } يخبر تعالى أنه قد سبق في قضائه وقدره ، لعلمه التام وحكمته النافذة ، أن ممن{[15003]} خلقه من يستحق الجنة ، ومنهم من يستحق النار ، وأنه لا بد أن يملأ جهنم من هذين الثقلين الجن والإنس ، وله الحجة البالغة والحكمة التامة . وفي الصحيحين عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اختصمت الجنة والنار ، فقالت الجنة : ما لي لا يدخلني إلا ضَعَفَةُ الناس وسَقطُهم ؟ وقالت النار : أوثرت بالمتكبرين والمتجبرين . فقال الله عز وجل للجنة ، أنت رحمتي أرحم بك من أشاء . وقال للنار : أنت عذابي ، أنتقم بك ممن أشاء ، ولكل واحدة منكما ملؤها . فأما الجنة فلا يزال فيها فضل ، حتى ينشئ الله لها خلقا يسكن فضل الجنة ، وأما النار فلا تزال تقول : هل من مزيد ؟ حتى يضع عليه ربّ العزة قَدمه ، فتقول : قَطْ قط ، وعزتك " {[15004]} .


[14991]:- في ت ، أ : "وكفران".
[14992]:- في ت ، أ : "وقال".
[14993]:- في ت ، أ : "الهوى".
[14994]:- في ت : "الذي" ، وفي أ : "الذين".
[14995]:- في أ : "اثنين".
[14996]:- في أ : "هذه الأمة".
[14997]:- سبق تخريجه عند تفسير الآية : 93 من سورة يونس.
[14998]:- في ت : "فأكثروا".
[14999]:- في ت : "وأكثرتما".
[15000]:- زيادة من ت.
[15001]:- في ت : "وكذلك".
[15002]:- في ت ، أ : "من".
[15003]:- صحيح البخاري برقم (7449) وصحيح مسلم برقم (2846).
[15004]:- زيادة من أ.

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَۚ وَلِذَٰلِكَ خَلَقَهُمۡۗ وَتَمَّتۡ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمۡلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ ٱلۡجِنَّةِ وَٱلنَّاسِ أَجۡمَعِينَ} (119)

لمّا أشعر الاختلاف بأنه اختلاف في الدّين ، وأنّ معناه العدول عن الحق إلى الباطل ، لأنّ الحق لا يقبل التعدّد والاختلاف ، عُقّب عموم { ولا يزالون مختلفين } باستثناء من ثبتوا على الدين الحق ولم يخالفوه بقوله : { إلاّ من رحم ربك } ، أي فعصمهم من الاختلاف .

وفهم من هذا أنّ الاختلاف المذموم المحذّر منه هو الاختلاف في أصول الدّين الذي يترتّب عليه اعتبار المخالف خارجاً عن الدين وإن كان يزعم أنّه من مُتّبعيه ، فإذا طرأ هذا الاختلاف وجب على الأمّة قصمه وبذل الوسع في إزالته من بينهم بكلّ وسيلة من وسائل الحقّ والعدل بالإرشاد والمجادلة الحسنة والمناظرة ، فإنْ لم ينجع ذلك فبالقتال كما فعل أبو بكر في قتال العرب الذين جحدوا وجوب الزكاة ، وكما فعل عليّ كرّم الله وجهه في قتال الحروريّة الذين كفّروا المسلمين . وهذه الآية تحذير شديد من ذلك الاختلاف .

وأما تعقيبه بقوله : { ولذلك خلقهم } فهو تأكيد بمضمون { ولا يزالون مختلفين } . والإشارة إلى الاختلاف المأخوذ من قوله : { مختلفين } ، واللاّم للتعليل لأنّه لمّا خلقهم على جِبِلّة قاضية باختلاف الآراء والنزعات وكان مريداً لمقتضى تلك الجبلّة وعالماً به كما بيّناه آنفاً كان الاختلاف علّة غائية لخلقهم ، والعلّة الغائية لا يلزمها القصر عليها بل يكفي أنها غاية الفعل ، وقد تكون معها غايات كثيرة أخرى فلا ينافي ما هنا قولُه : { وما خلقت الجنّ والإنس إلاّ ليعبدون } [ الذاريات : 56 ] لأنّ القصر هنالك إضافيّ ، أي إلاّ بحالة أن يعبدوني لا يشركوا ، والقصر الإضافي لا ينافي وجود أحوال أخرى غير ما قُصدَ الردّ عليه بالقصر كما هو بيّن لمن مارس أساليب البلاغة العربية .

وتقديم المعمول على عامله في قوله : { ولذلك خلقهم } ليس للقصر بل للاهتمام بهذه العلّة ، وبهذا يَندفع ما يوجب الحيرة في التفسير في الجمع بين الآيتين .

ثم أعقب ذلك بقوله : { وتمّت كلمة ربّك لأملأنّ جهنم من الجِنّة والنّاس أجمعين } لأنّ قوله : { إلاّ من رحم ربّك } يؤذن بأنّ المستثنى منه قوم مختلفون اختلافاً لا رحمة لهم فيه ، فهو اختلاف مضاد للرحمة ، وضدّ النعمة النقمة فهو اختلاف أوجب الانتقام .

وتمام كلمة الرب مجاز في الصّدق والتحقّق ، كما تقدّم عند قوله تعالى : { وتمّت كلمات ربّك صدقاً وعدلاً } في سورة [ الأنعام : 115 ] ، فالمختلفون هم نصيب جهنم .

والكلمة هنا بمعنى الكلام . فكلمة الله : تقديره وإرادته . أطلق عليها كلمة } مجازاً لأنّها سبب في صدور كلمة ( كن ) وهي أمر التكوين . وتقدّم تفصيله في قوله تعالى : { وتمّت كلمات ربّك صدقاً وعدلاً } في سورة [ الأنعام : 115 ] .

وجملة { لأملأنّ جهنّم } تفسير للكلمة بمعنى الكلام . وذلك تعبير عن الإرادة المعبّر عنها بالكلام النفسي .

ويجوز أن تكون الكلمة كلاماً خَاطَبَ به الملائكةَ قبل خلق الناس فيكون { لأمْلأنّ جهنّم } تفسيراً ل { كلمة } .

و { من الجِنّة والنّاس } تبعيض ، أي لأمْلأن جهنم من الفريقين . و { أجمعين } تأكيد لشمول تثنية كِلا النوعين لاَ لِشُمُول جميع الأفراد لمنافاته لمعنى التبعيض الذي أفادته { من } .