نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي  
{إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَۚ وَلِذَٰلِكَ خَلَقَهُمۡۗ وَتَمَّتۡ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمۡلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ ٱلۡجِنَّةِ وَٱلنَّاسِ أَجۡمَعِينَ} (119)

{ إلا من رحم ربك } أي المحسن إليك بالتأليف بينهم في جعلهم من أهل طاعتك فإنهم لا يختلفون في أصول الحق{[40320]} . ولما كان ما تقدم ربما أوجب أن يقال : لمَ لم يُقبل بقلوبهم إلى الهدى ويصرفهم عن موجبات الردى إذا كان قادراً ؟ قال تعالى مجيباً عن ذلك : { ولذلك } أي الاختلاف { خلقهم } أي اخترعهم وأوجدهم من العدم وقدرهم{[40321]} ، وذلك أنه لما طبعهم سبحانه على خلائق من الخير والشر تقتضي الاختلاف لتفاوتهم فيها ، جعلوا كأنهم خُلقوا له فجروا مع القضاء والقدر ، ولم يمكنهم الجري على ما تدعو إليه العقول في{[40322]} أن الاتفاق رحمة والاختلاف نقمة ، فاستحق فريق منهم النار وفريق الجنة ، وليس ذلك مخالفاً لقوله تعالى :{ وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون }{[40323]}[ الذاريات : 56 ] بل هو من شكله ، أي أنه تعالى لما ركبهم على العجز ومنحهم العقول مع نصب الأدلة ، كان ذلك مهيئاً للعبادة فكانوا كأنهم ما خلقوا إلا لها أي ما خلقتهم{[40324]} إلا ليعرفون بنفوذ أقضيتي وتصاريفي فيهم فيعبدون ، أي {[40325]}يخضعوا لي{[40326]} فمن كان منهم طائعاً فهو عابد حقيقة ، ومن كان عاصياً كان عابداً مجازاً ، أي خاضعاً للأمر لنفوذه فيه وعجزه عن الامتناع كما قال تعالى{ ولله يسجد من في السماوات والأرض طوعاً وكرهاً }{[40327]}[ الرعد : 15 ] ، فقد بان أن خلقهم للعبادة فقط ينافي خلقهم للاختلاف ، لأن جريهم في قضائه بالاختلاف عبادة وسجود لغة ، وذلك أن مادتي عبد وسجد تدوران{[40328]} على الخضوع والذل والانقياد ، وبذلك كان الكل عبيد الله ، أو{[40329]} الإشارة إلى مجمع الاتفاق والاختلاف ليظهر فضله على من ثبتهم ويظهر عدله فيمن خذلهم .

ولما كان هذا الاختلاف سبب الكفر الذي أرسل رسله بالقتال عليه ، كان ربما ظن أنه بغير مشيئته ، فبين أنه إنما{[40330]} هو بمراده ولا اعتراض عليه فقال : { وتمت } أي فبادروا إلى ما خلقهم لهم{[40331]} معرضين عن أوامره ولم تغن عنهم عقولهم ، وتمت حينئذ { كلمة ربك } أي المحسن إليك بقهر أعدائك التي سبقت في الأزل وهي وعزتي { لأملأن جهنم } أي{[40332]} التي تلقى{[40333]} المعذب فيها بالتجهم{[40334]} والعبوسة { من الجنة } أي قبيل الجن ، قدمهم لأنهم أصل في الشر ، ثم عم فقال : { والناس أجمعين* } فمشوا{[40335]} على ما أراد{[40336]} ولم يمكنهم مع عقولهم الجيدة الاستعدد وقواهم الشداد غير إلقاء القياد ، فمن قال : إنه يخلق فعله أو له قدرة على شيء{[40337]} فليفعل غير ذلك بأن يخبر باتفاقهم ثم يفعله ليتم قوله .

وإلا فليعلم أنه مربوب مقهور فيسمع رسالات ربه إليه بقالبه وقلبه .


[40320]:زيد بعده في مد: شتى.
[40321]:زيد من ظ ومد.
[40322]:في مد: من.
[40323]:سورة 51 آية 56.
[40324]:من ظ ومد، وفي الأصل: خلقهم.
[40325]:في ظ: يخضعون إلي.
[40326]:في ظ: يخضعون إلي.
[40327]:سورة 13 آية 15.
[40328]:من ظ ومد، وفي الأصل: يدوران.
[40329]:من ظ ومد، وفي الأصل: أم.
[40330]:في ظ: ربما.
[40331]:من مد، وفي الأصل وظ: له.
[40332]:زيد من ظ ومد.
[40333]:من مد، وفي الأصل: يلقى، وفي ظ: تلتقي.
[40334]:من مد، وفي الأصل: بالتحميم، وفي ظ: بالتحريم ـ كذا.
[40335]:سقط من ظ.
[40336]:من ظ ومد، وفي الأصل: أرادوا.
[40337]:في ظ: الشيء.