فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَۚ وَلِذَٰلِكَ خَلَقَهُمۡۗ وَتَمَّتۡ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمۡلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ ٱلۡجِنَّةِ وَٱلنَّاسِ أَجۡمَعِينَ} (119)

{ إلا من رحم ربك } أي إلا أهل رحمته فإنهم لا يختلفون وعن عطاء ابن أبي رباح قال : لا يزالون مختلفين أي اليهود والنصارى والمجوس والحنيفية وهم الذين رحم ربك . وقال الحسن : الناس مختلفون على أديان شتى إلا من رحم ربك فمن رحم ربك غير مختلف .

وعن مجاهد قال : من اختلف أهل الباطل ومن رحم أهل الحق فمن الله عليهم بالتوفيق والهداية إلى دين الحق ، فإنهم لم يختلفوا أو إلا من رحم ربك من المختلفين في الحق أو دين الإسلام بهدايته إلى الصواب الذي هو حكم الله وهو الحق الذي لا حق غيره أو إلا من رحم ربك بالقناعة والأولى تفسير لجعل الناس أمة واحدة بالمجتمعة على الحق حتى يكون معنى الاستثناء في إلا من رحم واضحا غير محتاج إلى تكلف .

و { لذلك } أي ولما ذكر من الاختلاف أو لرحمته وصح تذكير الإشارة إلى الرحمة لكون تأنيثها غير حقيقي والضمير في { خلقهم } إن كان راجعا إلى الناس فالإشارة إلى الاختلاف واللام للعاقبة أو إليه وإلى الرحمة ، وإن كان إلى من فإلى الرحمة ، وقيل الإشارة بذلك إلى مجموع الاختلاف والرحمة ولا مانع من الإشارة بها إلى شيئين كما في قوله { عوان بين ذلك } وقوله { وابتغ بين ذلك سبيلا } وقوله { فبذلك فليفرحوا } قال مجاهد : خلقهم للرحمة وعن عكرمة نحوه وقال ابن عباس : خلقهم فريقين فريقا يرحم فلا يختلف وفريقا لا يرحم فيختلف فذلك قوله { فمنهم شقي وسعيد } .

وقال الحسن وعطاء : خلقهم للاختلاف وقال أشهب : سألت مالك ابن أنس عن هذه الآية فقال : خلقهم ليكون فريق في الجنة وفريق في السعير . وقال الفراء : خلق أهل الرحمة وأهل الاختلاف للاختلاف .

قال شيخ الإسلام ابن تيمية في كتاب الرد على المنطقيين : إن القوم كلما بعدوا عن إتباع الرسل والكتب المنزلة كان أعظم في تفرقتهم واختلافهم فإنهم يكونوا أضل وقد أمر الله بالجماعة والائتلاف ونهى عن الفرقة والاختلاف فقال تعالى { واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا } وقال تعالى { إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء } وقال { ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات } .

وقد أخبر أن أهل الرحمة لا يختلفون فقال تعالى { ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك } ولذلك يوجد أتبع الناس للرسول أقلهم اختلافا كأهل الحديث والسنة فإنهم أقل اختلافا من جميع الطوائف ثم من كان إليهم أقرب كان من الاختلاف أبعد ، فأما من بعد عن السنة كالمعتزلة والرافضة فتجدهم أكثر الطوائف اختلافا ، وأما اختلاف الفلاسفة فلا يحصره أحد .

وقد ذكر أبو الحسن الأشعري في كتاب المقالات مقالات غير الإسلاميين عنهم من المقالات ما لم يذكره الفارابي وابن سينا وأمثالهما وكذلك القاضي أبو بكر من الطيب في كتاب الدقائق الذي رد فيه على الفلاسفة والمنجمين ورجح فيه منطق المتكلمين من العرب على منطق اليونان .

وكذلك متكلمة المعتزلة والشيعة وغيرهم في ردهم على الفلاسفة ذكروا أنواعا من المقالات وردوها ولكن مذهب الفلاسفة الذي نصره الفارابي وابن سينا وأمثالهما كالسهروردي المقتول على الزندقة وكأبي بكر ابن الصائغ وابن رشد الحفيد هو مذهب المشائبين أتباع أرسطو صاحب المنطق وهو الذي يذكره الغزالي في كتاب مقاصد الفلاسفة وعليه رد في التهافت وهو الذي يذكره الرازي في الملخص والمباحث المشرقية ويذكره الآمدي في دقائق الحقائق ورموز الكنوز وغير ذلك .

وعلى طريقتهم مشى أبو البركات صاحب المعتبر لكن لم يقلدهم تقليد غيره بل اعتبر ما ذكروه بحسب نظره وعقله وكذلك الرازي والآمدي يعترضان عليهم في كثير مما يذكرونه بحسب ما ينسخ لهم وابن سينا أيضا قد يخالف الأولين في بعض ما ذكروه .

والفلاسفة طوائف كثيرون وبينهم اختلاف كثير في الطبيعيات والإلهيات وفي الهيئة أيضا وأول من خلط منطقهم بأصول المسلمين أبو حامد الغزالي وتكلم فيه علماء المسلمين بما يطول ذكره وهذا الرد عليهم مذكور في كثير من كتب أهل الكلام .

والفلاسفة ليسوا أمة واحدة لها مقالة في العلم الإلهي والطبيعي وغيرهما بل هم أصناف متفرقون وبينهم من التفرق والاختلاف ما لا يحصيه إلا الله أعظم مما بين الملة الواحدة كاليهود والنصارى أضعافا مضاعفة .

والمقصود أن نظار المسلمين ما زالوا يصنفون في الرد عليهم في المنطق وغير المنطق ويثبتون خطأهم فيما ذكروه جميعا إذ لا يحكم بين الناس فيما تنازعوا فيه إلا كتاب منزل ونبي مرسل كما قال تعالى { وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم } ولهذا قال تعالى { فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا } انتهى المقصود بتصرف في العبارة .

وحاصل الآية أن الله خلق أهل الباطل وجعلهم مختلفين وخلق أهل الحق وجعلهم متفقين وحكم على بعضهم بالاختلاف ومصيرهم إلى النار وحكم على بعضهم بالرحمة ومصيرهم إلى الجنة وهم أهل الاتفاق .

ويدل لصحة هذا قوله { وتمت كلمة ربك } أي ثبتت كما قدره في أزله وإذا تمت وحقت ووجبت وامتنعت من التغيير والتبديل وقيل الكلمة هي قوله للملائكة { لأملأن جهنم من الجنة } أي الجن والتاء للمبالغة { والناس أجمعين } أي ممن يستحقها من الطائفتين .