الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي  
{إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَۚ وَلِذَٰلِكَ خَلَقَهُمۡۗ وَتَمَّتۡ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمۡلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ ٱلۡجِنَّةِ وَٱلنَّاسِ أَجۡمَعِينَ} (119)

" إلا من رحم ربك " استثناء منقطع ، أي لكن من رحم ربك بالإيمان والهدى فإنه لم يختلف . وقيل : مختلفين في الرزق ، فهذا غني وهذا فقير . " إلا من رحم ربك " بالقناعة ، قاله الحسن . " ولذلك خلقهم " قال الحسن ومقاتل ، وعطاء ويمان{[8918]} : الإشارة للاختلاف ، أي وللاختلاف خلقهم . وقال ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك : ولرحمته خلقهم ، وإنما قال : " ولذلك " ولم يقل ولتلك ، والرحمة مؤنثة لأنه مصدر ، وأيضا فإن تأنيث الرحمة غير حقيقي ، فحملت على معنى الفضل . وقيل . الإشارة بذلك للاختلاف والرحمة ، وقد يشارك ب " ذلك " إلى شيئين متضادين ، كقوله تعالى : " لا فارض ولا بكر عوان بين ذلك{[8919]} " [ البقرة : 68 ] ولم يقل بين ذينك ولا تينك ، وقال : " والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما{[8920]} " [ الفرقان : 67 ] وقال : " ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلا{[8921]} " [ الإسراء : 110 ] وكذلك قوله : " قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا{[8922]} " [ يونس : 58 ] وهذا أحسن الأقوال إن شاء الله تعالى ؛ لأنه يعم ، أي ولما ذكر خلقهم ، وإلى هذا أشار مالك رحمه الله فيما روى عنه أشهب ، قال أشهب : سألت مالكا عن هذه الآية قال : خلقهم ليكون فريق في الجنة وفريق في السعير ، أي خلق أهل الاختلاف للاختلاف ، وأهل الرحمة للرحمة . وروي عن ابن عباس أيضا قال : خلقهم فريقين : فريقا يرحمه وفريقا لا يرحمه . قال المهدوي : وفي الكلام على هذا التقدير تقديم وتأخير ، المعنى : ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ، وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين ، ولذلك خلقهم . وقيل : هو متعلق بقوله " ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود " [ هود : 103 ] والمعنى : ولشهود ذلك اليوم خلقهم . وقيل : هو متعلق بقوله : " فمنهم شقي وسعيد " [ هود : 105 ] أي للسعادة والشقاوة خلقهم .

قوله تعالى : " وتمت كلمة ربك " معنى " تمت " ثبت ذلك كما أخبر وقدر في أزله ، وتمام الكلمة امتناعها عن قبول التغيير والتبديل . " لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين " " من " لبيان الجنس ، أي من جنس الجنة وجنس الناس . " أجمعين " تأكيد ، وكما أخبر أنه يملأ ناره كذلك أخبر على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم{[8923]} أنه يملأ جنته بقوله : ( ولكل واحدة منكما ملؤها ) . خرجه البخاري من حديث أبي هريرة وقد تقدم .


[8918]:من ع، ا، و، ي.
[8919]:راجع ج 1 ص 448.
[8920]:راجع ج 13 ص 72.
[8921]:راجع ج 10 ص 343.
[8922]:راجع ج 8ص 353.
[8923]:من ع.