اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَۚ وَلِذَٰلِكَ خَلَقَهُمۡۗ وَتَمَّتۡ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمۡلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ ٱلۡجِنَّةِ وَٱلنَّاسِ أَجۡمَعِينَ} (119)

قوله : { إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ } ظاهرهُ أنه متَّصلٌ ، وهو استثناءٌ من فاعل " يَزالُون " ، أو من الضَّمير في " مُختلفينَ " وجوَّز الحوفي أن يكون استثناءً منقطعاً ، أي : لكن من رحمَ ، لم يختلفُوا ، ولا ضرورة تدعُوا على ذلك .

قوله : " ولذلِكَ " في المشار إليه أقوال كثيرة .

أظهرها : أنَّهُ الاختلافُ المدلولُ عليه ب " مُخْتلفينَ " ؛ كقوله : [ الوافر ]

إذَا نُهِيَ السَّفِيهُ جَرَى إلَيْهِ *** وخَالفَ والسَّفِيهُ إلى خِلافِ{[19082]}

رجع الضَّمير في " إليه " على السَّفه " ، ولا بدَّ من حذف مضافٍ على هذا ، أي : ولثمرة الاختلاف خلقهم ، واللام في الحقيقةِ للصَّيروةِ ، أي : خلقهم ليصير أمرهم إلى الاختلاف .

وقيل : المرادُ به الرحمة المدلول عليها بقوله : " رَحِمَ " وإنَّما ذكرَّ ذهاباً بها إلى الخير وقيل : المرادُ به المجموعُ منهما ، وإليه نحا ابنُ عباس -رضي الله عنهما- : كقوله : { عَوَانٌ بَيْنَ ذلك } [ البقرة : 68 ] وقيل : إشارةٌ إلى ما بعده من قوله : { وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ } ففي الكلام تقديمٌ وتأخيرٌ ، وهو قولٌ مرجوحٌ ؛ لأنَّ الأصل عدمُ ذلك .

فصل

قال الحسنُ وعطاء : وللاختلاف خلقهم قال أشهب : سألتُ مالكاً -رحمه الله - عن هذه الآية فقال : خلقهم ليكون فريقٌ في الجنَّةِ وفريقٌ في السَّعير . قال أبو عبيدة : الذي أختاره قول من قال : خلق فريقاً لرحمته ، وفريقاُ لعذابه ، ويُؤيده قوله تعالى : " وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين " .

وقوله صلى الله عليه وسلم : " خلق الله الجنَّة وخلق لها أهلاً ، وخلق النَّار وخلق لها أهلاً " {[19083]} .

وقال ابن عباس- رضي الله عنهما- ومجاهدٌ ، وقتادة ، والضحاك رضي الله عنهم : وللرَّحمةِ خلقهم ، يعني الذين رحمهم{[19084]} . وقال الفراء : خلق أهل الرَّحْمةِ ، وأهل الاختلاف للاختلاف ومحصول الآية أنَّ أهل الباطلِ مختلفُون ، وأهل الحقِّ متَّفقُون ، فخلق أهل الحق للاتفاق ، وأهل الباطل للاختلاف .

وذهبت المعتزلةُ إلى قولِ ابن عبَّاسٍ ، وهو أنَّهُ خلقهم للرَّحمةِ ، قالوا : ولا يجوز أن يقال : وللاختلاف خلقهم لوجوه :

الأول : أنَّ عود الضَّمير إلى أقرب المذكورين ألوى من عوده إلى أبعدهما :

والثاني : لو خلقهم للاختلاف وأراد منهم ذلك لام يجز أن يعذبهم عليه ، إذا كانوا مطيعين له بذلك الاختلاف .

الثالث : أنَّا إذ فسرنا الآية بالرحمةِ مطابقاً لقوله تعالى : { وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ } [ الذاريات : 56 ] .

فإن قيل : لو كان المراد ، وللرَّحمة خلقهم لقال : ولتلك خلقهم ، ولم يقل : ولذلك خلقهم قلنا : إن تأنيث الرَّحمةِ لي حقيقيًّا ، فكان محمولاً على الفضل والغفرانِ ، كقوله : { هذا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي } [ الكهف : 98 ] وقوله : { إِنَّ رَحْمَةَ الله قَرِيبٌ مِّنَ المحسنين } [ الأعراف : 56 ] .

فصل

احتج من قال بأنَّ الهداية والإيمان لا يحصل إلاَّ بخلقِ الله تعالى بهذه الآية ، وذلك لأنَّها تدلُ على أنَّ زوال الاختلاف في الدِّين لا يحصلُ إلاَّ لمنْ خصَّهُ الله برحمته ، وتلك الرحمة ليست عبارة عن إعطاء القدرة والعقل ، وإرسال الرسل ، وإنزال الكتب ، وإزاحة العذر ، فإن كُلَّ ذلك حاصل للكفار ، فلم يبق إلاَّ أن يقال : تلك الرحمة هو أنَّ الله - تعالى - يخلق فيه تلك الهداية والمعرفة .

قوله تعالى : { وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ } .

قال القاضي{[19085]} معناه : إلا من رحم ربُّك بأن يصير من أهل الجنة ، والثواب فيرحمه الله بألطافه وتسهيله ، وهذان الجوابان في غاية الضعف .

أمَّا الأولُ فلأنَّ قوله تعالى : { وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ } بأن يصير من أهل الجنة ، يفيدُ أنَّ ذلك الاختلاف إنما زال بسبب هذه الرحمة ؛ فوجب ان تكون هذه الرَّحمة جارية مجرى السّبب المتقدم على زوال هذا الاختلاف ، والثَّواب شيء متأخر عن زوال هذا الاختلاف ، فالاختلاف جارٍ مجرى السبب له فحملُ هذه الرَّحمة على الثَّواب لا يجوزُ .

وأمَّا الثاني- وهو حملُ هذه الرَّحمة على الألطافِ التي فعلها في حقِّ المؤمن- فهي مفعولة أيضاً في حقِّ الكافر ، وهذه الرحمة أمر اختص به المؤمن ؛ فوجب أن يكون شيئاً زائداً على تلك الألطاف ، وأيضاً فحصول الألطاف هل يوجبُ رجحان وجود الإيمان على عدمه أم لا يوجبه ؟ فإن لم يوجبه كان وجود تلك الألطاف وعدمها ، بالنسبة إلى حصول هذا المقصود سيان ، فلم يكُ لطفاً منه ، وإذا وجب تلك الألطاف وعدمها ، بالنسبة إلى حصول هذا المقصود سيان ، فلم يكُ لطفاً منه ، وإذا وجب الرُّجحان فقد ثبت في العقليات أنه متى حصل الرجحان ، فقد وجب حينئذٍ أن يكون حصول الإيمان من الله ، وما يدل على أنَّ حصول الإيمان لا يكون إلاَّ بخلق الله تعالى ؛ لأنَّهُ ما لم يتميز الإيمان عن الكفر ، والعلم عن الجهلِ امتنع القصد إلى تكوين الإيمان والعلم ، وهذا الامتياز إنما يحصلُ إذا علم كون أحد هذين الاعتقادين مطابقاً للمعتقد ، وكون الآخر ليس كذلك ، وإنَّما يصح هذا العلم إذا عرف ذلك المعتقد كيف يكون ، وهذا يوجب أنَّهُ لا يصح من العبدِ القصد إلى تكوين العلم بالشيء إلا بعد أن كان عالماً ، وذلك يقتضي تكوين الكائن وتحصيل الحاصل وهو محالٌ ، فثبت أنَّ زوال الاختلاف في الدِّين ، وحصولِ العلم والهداية لا يحصل إلاَّ بخلق الله تعالى .

ثم قال تعالى : { وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ } وتم حكم ربك { لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الجنة والناس أَجْمَعِينَ } فقوله : " أجْمَعِينَ " تأكيد ، والأكثر أن يسبق ب " كُل " وقد جاء هنا دونها .

والجنَّةُ والجِنُّ : قيل : واحد ، والتاء فيه للمبالغة .

وقيل : الجنَّةُ جمع جِنّ ، وهو غريبٌ ، فيكون مثل " كَمْءِ " للجمع ، و " كَمْأة " للواحد .


[19082]:تقدم.
[19083]:تقدم.
[19084]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (7/140) عن ابن عباس ومجاهد والضحاك وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (3/645) عن ابن عباس وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم. وذكره البغوي في "تفسيره" (2/406).
[19085]:ينظر: الفخر الرازي 17/62.