قوله : { إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ } ظاهرهُ أنه متَّصلٌ ، وهو استثناءٌ من فاعل " يَزالُون " ، أو من الضَّمير في " مُختلفينَ " وجوَّز الحوفي أن يكون استثناءً منقطعاً ، أي : لكن من رحمَ ، لم يختلفُوا ، ولا ضرورة تدعُوا على ذلك .
قوله : " ولذلِكَ " في المشار إليه أقوال كثيرة .
أظهرها : أنَّهُ الاختلافُ المدلولُ عليه ب " مُخْتلفينَ " ؛ كقوله : [ الوافر ]
إذَا نُهِيَ السَّفِيهُ جَرَى إلَيْهِ *** وخَالفَ والسَّفِيهُ إلى خِلافِ{[19082]}
رجع الضَّمير في " إليه " على السَّفه " ، ولا بدَّ من حذف مضافٍ على هذا ، أي : ولثمرة الاختلاف خلقهم ، واللام في الحقيقةِ للصَّيروةِ ، أي : خلقهم ليصير أمرهم إلى الاختلاف .
وقيل : المرادُ به الرحمة المدلول عليها بقوله : " رَحِمَ " وإنَّما ذكرَّ ذهاباً بها إلى الخير وقيل : المرادُ به المجموعُ منهما ، وإليه نحا ابنُ عباس -رضي الله عنهما- : كقوله : { عَوَانٌ بَيْنَ ذلك } [ البقرة : 68 ] وقيل : إشارةٌ إلى ما بعده من قوله : { وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ } ففي الكلام تقديمٌ وتأخيرٌ ، وهو قولٌ مرجوحٌ ؛ لأنَّ الأصل عدمُ ذلك .
قال الحسنُ وعطاء : وللاختلاف خلقهم قال أشهب : سألتُ مالكاً -رحمه الله - عن هذه الآية فقال : خلقهم ليكون فريقٌ في الجنَّةِ وفريقٌ في السَّعير . قال أبو عبيدة : الذي أختاره قول من قال : خلق فريقاً لرحمته ، وفريقاُ لعذابه ، ويُؤيده قوله تعالى : " وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين " .
وقوله صلى الله عليه وسلم : " خلق الله الجنَّة وخلق لها أهلاً ، وخلق النَّار وخلق لها أهلاً " {[19083]} .
وقال ابن عباس- رضي الله عنهما- ومجاهدٌ ، وقتادة ، والضحاك رضي الله عنهم : وللرَّحمةِ خلقهم ، يعني الذين رحمهم{[19084]} . وقال الفراء : خلق أهل الرَّحْمةِ ، وأهل الاختلاف للاختلاف ومحصول الآية أنَّ أهل الباطلِ مختلفُون ، وأهل الحقِّ متَّفقُون ، فخلق أهل الحق للاتفاق ، وأهل الباطل للاختلاف .
وذهبت المعتزلةُ إلى قولِ ابن عبَّاسٍ ، وهو أنَّهُ خلقهم للرَّحمةِ ، قالوا : ولا يجوز أن يقال : وللاختلاف خلقهم لوجوه :
الأول : أنَّ عود الضَّمير إلى أقرب المذكورين ألوى من عوده إلى أبعدهما :
والثاني : لو خلقهم للاختلاف وأراد منهم ذلك لام يجز أن يعذبهم عليه ، إذا كانوا مطيعين له بذلك الاختلاف .
الثالث : أنَّا إذ فسرنا الآية بالرحمةِ مطابقاً لقوله تعالى : { وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ } [ الذاريات : 56 ] .
فإن قيل : لو كان المراد ، وللرَّحمة خلقهم لقال : ولتلك خلقهم ، ولم يقل : ولذلك خلقهم قلنا : إن تأنيث الرَّحمةِ لي حقيقيًّا ، فكان محمولاً على الفضل والغفرانِ ، كقوله : { هذا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي } [ الكهف : 98 ] وقوله : { إِنَّ رَحْمَةَ الله قَرِيبٌ مِّنَ المحسنين } [ الأعراف : 56 ] .
احتج من قال بأنَّ الهداية والإيمان لا يحصل إلاَّ بخلقِ الله تعالى بهذه الآية ، وذلك لأنَّها تدلُ على أنَّ زوال الاختلاف في الدِّين لا يحصلُ إلاَّ لمنْ خصَّهُ الله برحمته ، وتلك الرحمة ليست عبارة عن إعطاء القدرة والعقل ، وإرسال الرسل ، وإنزال الكتب ، وإزاحة العذر ، فإن كُلَّ ذلك حاصل للكفار ، فلم يبق إلاَّ أن يقال : تلك الرحمة هو أنَّ الله - تعالى - يخلق فيه تلك الهداية والمعرفة .
قوله تعالى : { وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ } .
قال القاضي{[19085]} معناه : إلا من رحم ربُّك بأن يصير من أهل الجنة ، والثواب فيرحمه الله بألطافه وتسهيله ، وهذان الجوابان في غاية الضعف .
أمَّا الأولُ فلأنَّ قوله تعالى : { وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ } بأن يصير من أهل الجنة ، يفيدُ أنَّ ذلك الاختلاف إنما زال بسبب هذه الرحمة ؛ فوجب ان تكون هذه الرَّحمة جارية مجرى السّبب المتقدم على زوال هذا الاختلاف ، والثَّواب شيء متأخر عن زوال هذا الاختلاف ، فالاختلاف جارٍ مجرى السبب له فحملُ هذه الرَّحمة على الثَّواب لا يجوزُ .
وأمَّا الثاني- وهو حملُ هذه الرَّحمة على الألطافِ التي فعلها في حقِّ المؤمن- فهي مفعولة أيضاً في حقِّ الكافر ، وهذه الرحمة أمر اختص به المؤمن ؛ فوجب أن يكون شيئاً زائداً على تلك الألطاف ، وأيضاً فحصول الألطاف هل يوجبُ رجحان وجود الإيمان على عدمه أم لا يوجبه ؟ فإن لم يوجبه كان وجود تلك الألطاف وعدمها ، بالنسبة إلى حصول هذا المقصود سيان ، فلم يكُ لطفاً منه ، وإذا وجب تلك الألطاف وعدمها ، بالنسبة إلى حصول هذا المقصود سيان ، فلم يكُ لطفاً منه ، وإذا وجب الرُّجحان فقد ثبت في العقليات أنه متى حصل الرجحان ، فقد وجب حينئذٍ أن يكون حصول الإيمان من الله ، وما يدل على أنَّ حصول الإيمان لا يكون إلاَّ بخلق الله تعالى ؛ لأنَّهُ ما لم يتميز الإيمان عن الكفر ، والعلم عن الجهلِ امتنع القصد إلى تكوين الإيمان والعلم ، وهذا الامتياز إنما يحصلُ إذا علم كون أحد هذين الاعتقادين مطابقاً للمعتقد ، وكون الآخر ليس كذلك ، وإنَّما يصح هذا العلم إذا عرف ذلك المعتقد كيف يكون ، وهذا يوجب أنَّهُ لا يصح من العبدِ القصد إلى تكوين العلم بالشيء إلا بعد أن كان عالماً ، وذلك يقتضي تكوين الكائن وتحصيل الحاصل وهو محالٌ ، فثبت أنَّ زوال الاختلاف في الدِّين ، وحصولِ العلم والهداية لا يحصل إلاَّ بخلق الله تعالى .
ثم قال تعالى : { وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ } وتم حكم ربك { لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الجنة والناس أَجْمَعِينَ } فقوله : " أجْمَعِينَ " تأكيد ، والأكثر أن يسبق ب " كُل " وقد جاء هنا دونها .
والجنَّةُ والجِنُّ : قيل : واحد ، والتاء فيه للمبالغة .
وقيل : الجنَّةُ جمع جِنّ ، وهو غريبٌ ، فيكون مثل " كَمْءِ " للجمع ، و " كَمْأة " للواحد .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.