تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{وَجَآءَتۡ سَيَّارَةٞ فَأَرۡسَلُواْ وَارِدَهُمۡ فَأَدۡلَىٰ دَلۡوَهُۥۖ قَالَ يَٰبُشۡرَىٰ هَٰذَا غُلَٰمٞۚ وَأَسَرُّوهُ بِضَٰعَةٗۚ وَٱللَّهُ عَلِيمُۢ بِمَا يَعۡمَلُونَ} (19)

يقول تعالى مخبرًا عما جرى ليوسف ، عليه السلام ، حين ألقاه إخوته ، وتركوه في ذلك الجب فريدا وحيدًا ، فمكث في البئر ثلاثة أيام ، فيما قاله أبو بكر بن عياش{[15092]} وقال محمد بن إسحاق : لما ألقاه إخوته جلسوا حول البئر يومهم ذلك ، ينظرون ما يصنع وما يُصنع به ، فساق الله له سَيَّارة ، فنزلوا قريبًا من تلك{[15093]} البئر ، وأرسلوا واردهم - وهو الذي يتطلب لهم الماء - فلما جاء تلك{[15094]} البئر ، وأدلى دلوه فيها ، تشبث يوسف ، عليه السلام ، فيها ، فأخرجه واستبشر به ، وقال : { يَا بُشْرَى هَذَا غُلامٌ }

وقرأ بعض القراء : " يا بشرى " ، زعم السدي أنه اسم رجل ناداه ذلك الرجل الذي أدلى دلوه ، معلما له أنه أصاب غلامًا . وهذا القول من السدي غريب ؛ لأنه لم يُسبَق إلى تفسير هذه القراءة بهذا إلا في رواية عن ابن عباس ، والله أعلم . وإنما معنى القراءة على هذا النحو يرجع إلى القراءة الأخرى ، ويكون قد أضاف البشرى إلى نفسه ، وحذف ياء الإضافة وهو يريدها ، كما تقول العرب : " يا نفسُ اصبري " ، و " يا غلام أقبل " ، بحذف حرف الإضافة ، ويجوز الكسر حينئذ والرفع ، وهذا منه ، وتفسرها القراءة الأخرى { يَا بُشْرَى " } والله أعلم .

وقوله : { وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً } أي : وأسره الواردون من بقية السيارة وقالوا : اشتريناه وتبضّعناه من أصحاب الماء مخافة أن يشاركوهم فيه إذا علموا خبره . قاله مجاهد ، والسدي ، وابن جرير . هذا قول .

وقال العوفي ، عن ابن عباس قوله : { وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً } يعني : إخوة يوسف ، أسروا شأنه ، وكتموا أن يكون أخاهم وكتم يوسف شأنه مخافة أن يقتله إخوته ، واختار البيع . فذكره إخوته لوارد القوم ، فنادى أصحابه : { يَا بُشْرَى هَذَا غُلامٌ } يباع ، فباعه إخوته .

وقوله : { وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ } أي : يعلم ما يفعله إخوة يوسف ومشتروه ، وهو قادر على تغيير ذلك ودفعه ، ولكن له حكمة وقَدرَ سابق ، فترك ذلك ليمضي ما قدره وقضاه ، ألا له الخلق والأمر ، تبارك الله رب العالمين .

وفي هذا تعريض لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم{[15095]} ، وإعلامه له بأنني عالم بأذى قومك ، وأنا قادر على الإنكار عليهم ، ولكني سأملي لهم ، ثم أجعل لك العاقبة والحكم عليهم ، كما جعلت ليوسف الحكم والعاقبة على إخوته .


[15092]:- في ت ، "ابن عباس".
[15093]:- في ت : "ذلك".
[15094]:- في ت : "ذلك".
[15095]:- في ت : "صلوات الله عليه" وفي أ : "صلوات الله عليه وسلامه".
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَجَآءَتۡ سَيَّارَةٞ فَأَرۡسَلُواْ وَارِدَهُمۡ فَأَدۡلَىٰ دَلۡوَهُۥۖ قَالَ يَٰبُشۡرَىٰ هَٰذَا غُلَٰمٞۚ وَأَسَرُّوهُ بِضَٰعَةٗۚ وَٱللَّهُ عَلِيمُۢ بِمَا يَعۡمَلُونَ} (19)

عطف على { وجاءوا أباهم عشاء يبكون } [ سورة يوسف : 16 ] عطف قصة على قصة . وهذا رجوع إلى ما جرى في شأن يوسف عليه السّلام ، والمعنى : وجاءت الجبّ .

و ( السّيّارة ) تقدم آنفاً .

والوارد : الذي يرد الماء ليستقي للقوم .

والإدلاء : إرسال الدلو في البئر لنزع الماء .

والدلو : ظرف كبير من جلد مخيط له خرطوم في أسفله يكون مطوياً على ظاهر الظرف بسبب شده بحبل مقارن للحبل المعلقة فيه الدلو . والدلو مؤنثة .

وجملة قال يا بشراي مستأنفة استئنافاً بيانياً لأن ذكر إدلاء الدلو يهيّىء السامع للسؤال عمّا جرى حينئذٍ فيقع جوابه قال يا بشراي .

والبشرى : تقدمت في قوله تعالى : { لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة } في سورة يونس ( 64 ) .

ونداء البشرى مجاز ، لأنّ البشرى لا تنادى ، ولكنها شبّهت بالعاقل الغائب الذي احتيج إليه فينادى كأنه يقال له : هذا آن حضورك . ومنه : يا حسرتَا ، ويا عجباً ، فهي مكنية وحرف النداء تخييل أو تبعية .

والمعنى : أنه فرح وابتهج بالعثور على غلام .

وقرأ الجمهور { يا بشّرَايَ } بإضافة البشرى إلى ياء المتكلم . وقرأ عاصم ، وحمزة ، والكسائي ، وخلف بدون إضافة .

واسم الإشارة عائد إلى ذات يوسف عليه السّلام ؛ خاطب الواردُ بقية السيّارة ، ولم يكونوا يرون ذات يوسف عليه السّلام حين أصعده الوارد من الجب ، إذ لو كانوا يرونه لما كانت فائدة لتعريفهم بأنه غلام إذ المشاهدة كافية عن الإعلام ، فتعين أيضاً أنهم لم يكونوا مشاهدين شبح يوسف عليه السّلام حين ظهر من الجب ، فالظاهر أن اسم الإشارة في مثل هذا المقام لا يقصد به الدلالة على ذات معيّنة مرئية بل يقصد به إشعار السامع بأنه قد حصَل شيءٌ فرح به غير مترقب ، كما يقول الصائد لرفاقه : هذا غزال وكما يقول الغائص : هذه صدقة أو لؤلؤة ويقول الحافر للبئر : هذا الماء قال النابغة يصف الصائد وكلابه وفرسه :

يقول راكبه الجنيّ مرتفقاً *** هذا لكُنّ ولحم الشاة محجور

وكان الغائصون إذا وجدوا لؤلؤة يصيحون . قال النابغة :

أو درّة صدفاته غوّاصها *** بهج متى يُرها يهلّ ويسجد

والمعنى : وجدت في البئر غلاماً ، فهو لقطة ، فيكون عبداً لمن التقطه . وذلك سبب ابتهاجه بقوله : { يا بشراي هذا غلام } .

والغلام : مَن سنهُ بين العشر والعشرين . وكان سنّ يوسف عليه السّلام يومئذٍ سبع عشرة سنة .

وكان هؤلاء السيارة من الإسماعيليين كما في التّوراة ، أي أبناء إسماعيل بن إبراهيم . وقيل : كانوا من أهل مدين وكان مجيئهم الجب للاستقاء منها ، ولم يشعر بهم إخوة يوسف إذ كانوا قد ابتعدوا عن الجب .

ومعنى { أسَرُّوه } أخْفَوْه . والضمير للسيارة لا محالة ، أي أخْفوا يوسف عليه السّلام ، أي خبر التقاطه خشية أن يكون من ولدان بعض الأحياء القريبة من الماء قد تردّى في الجب ، فإذا علم أهله بخبره طلبوه وانتزعوه منهم لأنهم توسموا منه مخائل أبناء البيوت ، وكان الشأن أن يعرّفوا من كان قريباً من ذلك الجب ويعلنوا كما هو الشأن في التعريف باللّقطة ، ولذلك كان قوله : { وأسرّوه } مشعراً بأن يوسف عليه السّلام أخبرهم بقصته ، فأعرضوا عن ذلك طمعاً في أن يبيعوه .

وذلك من فقدان الدين بينهم أو لعدم العمل بالدين .

و { بضاعةً } منصوب على الحال المقدّرة من الضمير المنصوب في { أسرّوه } ، أي جعلوه بضاعة . والبضاعة : عروض التجارة ومتاعها ، أي عزموا على بيعه .

وجملة { والله عليم بما يعملون } معترضة ، أي والله عليم بما يعملون من استرقاق من ليس لهم حقّ في استرقاقه ، ومن كان حقّه أن يسألوا عن قومه ويبلغوه إليهم ، لأنهم قد علموا خبره ، أو كان من حقهم أن يسْألوه لأنه كان مستطيعاً أن يخبرهم بخبره .

وفي عثور السيارة على الجب الذي فيه يوسف عليه السّلام آية من لطف الله به .