تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{فَبَدَأَ بِأَوۡعِيَتِهِمۡ قَبۡلَ وِعَآءِ أَخِيهِ ثُمَّ ٱسۡتَخۡرَجَهَا مِن وِعَآءِ أَخِيهِۚ كَذَٰلِكَ كِدۡنَا لِيُوسُفَۖ مَا كَانَ لِيَأۡخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ ٱلۡمَلِكِ إِلَّآ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُۚ نَرۡفَعُ دَرَجَٰتٖ مَّن نَّشَآءُۗ وَفَوۡقَ كُلِّ ذِي عِلۡمٍ عَلِيمٞ} (76)

لما اتهمهم أولئك الفتيان بالسرقة ، قال لهم إخوة يوسف : { تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الأرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ } أي : لقد تحققتم وعلمتم منذ{[15230]} عرفتمونا ، لأنهم{[15231]} شاهدوا منهم سيرة حسنة ، أنَّا ما جئنا للفساد في الأرض ، وما كنا سارقين ، أي : ليست سجايانا تقتضي هذه الصفة ، فقال{[15232]} لهم الفتيان : { فَمَا جَزَاؤُهُ } أي : السارق ، إن كان فيكم { إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ } أي : أي شيء يكون عقوبته إن وجدنا فيكم من أخذه{[15233]} ؟ { قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ }

وهكذا كانت شريعة إبراهيم : أن السارق يدفع إلى المسروق منه . وهذا هو الذي أراد يوسف ، عليه السلام ؛ ولهذا بدأ بأوعيتهم قبل وعاء أخيه ، أي فتشها قبله ، تورية ، { ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ } فأخذه منهم بحكم اعترافهم والتزامهم وإلزاما لهم بما يعتقدونه ؛ ولهذا قال تعالى : { كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ } وهذا من الكيد المحبوب المراد الذي يحبه الله ويرضاه ، لما فيه من الحكمة والمصلحة المطلوبة .

وقوله : { مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ } أي : لم يكن له أخذه في حكم ملك مصر ، قاله الضحاك وغيره .

وإنما قيض الله له أن{[15234]} التزم له إخوته بما التزموه ، وهو كان يعلم ذلك من شريعتهم ؛ ولهذا مدحه تعالى فقال : { نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ } كما قال تعالى : { يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } [ المجادلة : 11 ] .

{ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ } قال الحسن البصري : ليس عالم إلا فوقه عالم ، حتى ينتهي إلى الله عز وجل . وكذا رَوَى عبد الرزاق ، عن سفيان الثوري ، عن عبد الأعلى الثعلبي ، عن سعيد بن جبير قال كنا عند ابن عباس فتحدث بحديث عجيب ، فتعجب رجل فقال : الحمد لله فوق كل ذي علم عليم [ فقال ابن عباس : بئس ما قلت ، الله العليم ، وهو فوق كل عالم ]{[15235]} وكذا روى سماك ، عن عِكْرِمة ، عن ابن عباس : { وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ } قال : يكون هذا أعلم من هذا ، وهذا أعلم من هذا ، والله فوق كل عالم . وهكذا{[15236]} قال عكرمة .

وقال قتادة : { وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ } حتى ينتهي العلم إلى الله ، منه بُدئ وتعلمت العلماء ، وإليه يعود ، وفي قراءة عبد الله " وَفَوْقَ كُلِّ عالم عليم " .


[15230]:- في ت : "مذ".
[15231]:- في ت : "لا لأنهم".
[15232]:- في أ : "فقالت".
[15233]:- في أ : "فيهم من أخذها".
[15234]:- في ت : "أنه".
[15235]:- زيادة من ت ، أ.
[15236]:- في ت ، أ : "وكذا".

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{فَبَدَأَ بِأَوۡعِيَتِهِمۡ قَبۡلَ وِعَآءِ أَخِيهِ ثُمَّ ٱسۡتَخۡرَجَهَا مِن وِعَآءِ أَخِيهِۚ كَذَٰلِكَ كِدۡنَا لِيُوسُفَۖ مَا كَانَ لِيَأۡخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ ٱلۡمَلِكِ إِلَّآ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُۚ نَرۡفَعُ دَرَجَٰتٖ مَّن نَّشَآءُۗ وَفَوۡقَ كُلِّ ذِي عِلۡمٍ عَلِيمٞ} (76)

{ بدأ } أي أمر يوسف عليه السلام بالبداءة بأوعية بقية إخوته قبلَ وعاء أخيه الشقيق .

وأوعية : جمع وعاء ، وهو الظرف ، . مشتق من الوعي وهو الحفظ . والابتداء بأوعية غير أخيه لإبعاد أن يكون الذي يُوجد في وعائه هو المقصود من أول الأمر . وتأنيث ضمير { استخرجها } للسقاية . وهذا التأنيث في تمام الرشاقة إذ كانت الحقيقة أنها سقاية جعلت صواعاً . فهو كردّ العجز على الصدر .

والقول في { كذلك كدنا ليوسف } كالقول في { كذلك نجزي الظالمين } [ سورة يوسف : 75 ] .

والكَيْد : فعل يتوصل بظاهره إلى مقصد خفي . والكيد : هنا هو إلهام يوسف عليه السلام لهذه الحيلة المحكمة في وضع الصواع وتفتيشه وإلهام إخوته إلى ذلك الحكم المُصْمَت .

وأسند الكيد إلى الله لأنه ملهمه فهو مسبّبه . وجعل الكيد لأجل يوسف عليه السلام لأنه لفائدته .

وجملة { ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك إلا أن يشاء الله } بيان للكيد باعتبار جميع ما فيه من وضع السقاية ومن حكم إخوته على أنفسهم بما يلائم مَرغوب يوسف عليه السلام من إبقاء أخيه عنده ، ولولا ذلك لمَا كانت شريعة القبط تخوله ذلك ، فقد قيل : إن شرعهم في جزاء السارق أن يؤخذ منه الشيء ويضرب ويغرم ضعفي المسروق أو ضعفي قيمته . وعن مجاهد { في دين الملك } أي حكمه وهو استرقاق السراق . وهو الذي يقتضيه ظاهر الآية لقوله : { ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك } أي لولا حيلة وضع الصُّواع في متاع أخيه . ولعل ذلك كان حكماً شائعاً في كثير من الأمم ، ألا ترى إلى قولهم : { من وجد في رحله فهو جزاؤه } [ سورة يوسف : 75 ] كما تقدم ، أي أن ملك مصر كان عادلاً فلا يؤخذ أحد في بلاده بغير حق . ومثله ما كان في شرع الرومان من استرقاق المدين ، فتعين أن المراد بالدّين الشريعة لا مطلق السلطان .

ومعنى لام الجحود هنا نفي أن يكون في نفس الأمر سبب يخول يوسف عليه السلام أخذ أخيه عنده .

والاستثناء من عموم أسباب أخذ أخيه المنفية . وفي الكلام حرف جر محذوف قبل { أن } المصدرية ، وهو باء السببية التي يدل عليها نفي الأخذ ، أي أسبابه . فالتقدير : إلا بأن يشاء الله ، أي يُلهم تصوير حالته ويأذن ليوسف عليه السلام في عَمله باعتبار ما فيه من المصالح الجمة ليوسف وإخوته في الحال والاستقبال لهم ولذريتهم .

وجملة { نرفع درجات من نشاء } تذييل لقصة أخذ يوسف عليه السلام أخاه لأن فيها رفع درجة يوسف عليه السلام في الحال بالتدبير الحكيم من وقت مناجاته أخاه إلى وقت استخراج السقاية من رحله . ورفع درجة أخيه في الحال بإلحاقه ليوسف عليه السلام في العيش الرفيه والكمال بتلقي الحكمة من فيه .

ورفع درجات إخوته وأبيه في الاستقبال بسبب رفع درجة يوسف عليه السلام وحنوه عليهم . فالدرجات مستعارة لقوة الشرف من استعارة المحسوس للمعقول . وتقدم في قوله تعالى : { وللرجال عليهن درجة } في سورة البقرة ( 228 ) ، وقوله : { لهم درجات عند ربهم } في سورة الأنفال ( 4 ) .

وجملة وفوق كل ذي علم عليم } تذييل ثان لجملة { كذلك كدنا ليوسف } الآية .

وفيها شاهد لتفاوت الناس في العلم المؤذن بأن علم الذي خلق لهم العلم لا ينحصر مداه ، وأنه فوق كل نهاية من علم الناس .

والفوقية مجاز في شرف الحال ، لأن الشرف يشبّه بالارتفاع .

وعبر عن جنس المتفوق في العلم بوصف { عليم } باعتبار نسبته إلى من هو فوقه إلى أن يبلغ إلى العليم المطلق سبحانه .

وظاهر تنكير { عليم } أن يراد به الجنس فيعم كلّ موصوف بقوة العلم إلى أن ينتهي إلى علم الله تعالى . فعموم هذا الحكم بالنسبة إلى المخلوقات لا إشكال فيه . ويتعين تخصيص هذا العموم بالنسبة إلى الله تعالى بدليل العقل إذ ليس فوق الله عليم .

وقد يحمل التنكير على الوحدة ويكون المراد عليم واحد فيكون التنكير للوحدة والتعظيم ، وهو الله تعالى فلا يحتاج إلى التخصيص .

وقرأ الجمهور { درجات من نشاء } بإضافة { درجات } إلى { من نشاء } . وقرأه حمزة ، وعاصم ، والكسائي ، وخلف بتنوين { درجاتٍ } على أنه تمييز لتعلق فعل { نرفع } بمفعوله وهو { من نشاء } .