تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{وَٱتَّقُواْ فِتۡنَةٗ لَّا تُصِيبَنَّ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمۡ خَآصَّةٗۖ وَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلۡعِقَابِ} (25)

يحذر تعالى عباده المؤمنين { فِتْنَةً } أي : اختبارًا ومحنة ، يعم بها المسيء وغيره ، لا يخص بها أهل المعاصي ولا من باشر الذنب ، بل يعمهما ، حيث لم تدفع وترفع . كما قال الإمام أحمد :

حدثنا أبو سعيد مولى بني هاشم ، حدثنا شَدَّاد بن سعيد ، حدثنا غَيْلان بن جرير ، عن مُطَرِّف قال : قلنا للزبير : يا أبا عبد الله ، ما جاء بكم ؟ ضيعتم الخليفة الذي قتل ، ثم جئتم تطلبون بدمه ؟ فقال الزبير ، رضي الله عنه : إنا قرأنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان ، رضي الله عنهم : { وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً } لم نكن نحسب أنا أهلها حتى وقعت منا حيث وقعت{[12820]}

وقد رواه البزار{[12821]} من حديث مطرف ، عن الزبير ، وقال : لا نعرف مطرفا روى عن الزبير غير هذا الحديث{[12822]}

وقد روى النسائي من حديث جرير بن حازم ، عن الحسن ، عن الزبير نحو هذا{[12823]}

وروى ابن جرير : حدثني الحارث ، حدثنا عبد العزيز ، حدثنا مبارك بن فَضَالة ، عن الحسن قال : قال الزبير : لقد خوفنا بها ، يعني قوله [ تعالى ]{[12824]} { وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً } ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وما ظننا أنا خصصنا بها خاصة .

وكذا رواه حميد ، عن الحسن ، عن الزبير ، رضي الله عنه{[12825]}

وقال داود بن أبي هِنْد ، عن الحسن في هذه الآية قال : نزلت في علي ، وعثمان{[12826]} وطلحة والزبير ، رضي الله عنهم .

وقال سفيان الثوري عن الصَّلت بن دينار ، عن عقبة بن صُهْبان ، سمعت الزبير يقول : لقد قرأت هذه الآية زمانا وما أرانا من أهلها فإن{[12827]} نحن المعنيون بها : { وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ }

وقد روي من غير وجه ، عن الزبير بن العوام .

وقال السُّدِّيّ : نزلت في أهل بدر خاصة ، فأصابتهم يوم الجمل ، فاقتتلوا .

وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في قوله تعالى : { وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً } يعني : أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم خاصة

وقال في رواية له ، عن ابن عباس ، في تفسير هذه الآية : أمر الله المؤمنين ألا يقروا المنكر بين ظهرانيهم إليهم فيعمهم الله بالعذاب .

وهذا تفسير حسن جدًّا ؛ ولهذا قال مجاهد في قوله تعالى : { وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً } هي أيضا لكم ، وكذا قال الضحاك ، ويزيد بن أبي حبيب ، وغير واحد .

وقال ابن مسعود : ما منكم من أحد إلا وهو مشتمل على فتنة ، إن الله تعالى يقول : { إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ } [ التغابن : 15 ] فأيكم استعاذ فليستعذ بالله من مضلات الفتن . رواه ابن جرير .

والقول بأن هذا التحذير يعم الصحابة وغيرهم - وإن كان الخطاب معهم - هو الصحيح ، ويدل على ذلك الأحاديث الواردة في التحذير من الفتن ، ولذلك كتاب مستقل يوضح فيه إن شاء الله تعالى ، كما فعله الأئمة وأفردوه بالتصنيف ومن أخص ما يذكر هاهنا ما رواه الإمام أحمد حيث قال :

حدثنا أحمد بن الحجاج ، أخبرنا عبد الله - يعني ابن المبارك - أنبأنا سيف بن أبي سليمان ، سمعت عَدِيّ بن عَدِيّ الكندي يقول : حدثني مولى لنا أنه سمع جدي - يعني عَدِيّ بن عميرة - يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إن الله عز وجل ، لا يعذب العامة بعمل الخاصة حتى يروا المنكر بين ظَهْرَانَيْهم ، وهم قادرون على أن ينكروه فلا ينكروه ، فإذا فعلوا ذلك عَذَّب الله الخاصة والعامة " {[12828]}

فيه رجل مبهم ، ولم يخرجوه في الكتب الستة ، ولا واحد منهم ، والله أعلم .

حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا سليمان الهاشمي ، حدثنا إسماعيل - يعني ابن جعفر - أخبرني عمرو بن أبي عمرو ، عن عبد الله بن عبد الرحمن الأشهل ، عن حُذَيفة بن اليمان ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " والذي نفسي بيده ، لتأمرن بالمعروف ، ولتنهون عن المنكر ، أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عِقابا من عنده ، ثم لتَدعُنّه فلا يستجيب لكم " {[12829]}

ورواه عن أبي سعيد ، عن إسماعيل بن جعفر ، وقال : " أو ليبعثن الله عليكم قوما ثم تدعونه فلا يستجيب لكم " {[12830]}

وقال أحمد : حدثنا عبد الله بن نمير ، قال حدثنا رَزِين بن حبيب الجُهَني ، حدثني أبو الرُّقاد قال : خرجت مع مولاي ، فدفعت إلى حذيفة وهو يقول : إن كان الرجل ليتكلم بالكلمة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فيصير منافقا ، وإني لأسمعها من أحدكم في المقعد الواحد أربع مرات ؛ لتأمرن بالمعروف ، ولتنهون عن المنكر ، ولَتَحَاضُّن على الخير ، أو لَيَسْحَتَنَّكم الله جميعا بعذاب ، أو ليؤمرَنّ عليكم شراركم ، ثم يدعو خياركم فلا يستجاب لهم{[12831]}

حديث آخر : قال الإمام أحمد أيضا : حدثني يحيى بن سعيد ، عن زكريا ، حدثنا عامر ، قال : سمعت النعمان بن بشير ، رضي الله عنه ، يخطب يقول - وأومأ بإصبعيه{[12832]} إلى أذنيه - يقول : مثل القائم على حدود الله والواقع فيها - أو{[12833]} المُداهن فيها - كمثل قوم ركبوا سفينة ، فأصاب بعضهم أسفلها وأوعرها وشرها ، وأصاب بعضهم أعلاها ، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا الماء مَرُّوا على من فوقهم فآذوهم ، فقالوا : لو خَرَقْنا في نصيبنا خَرْقا ، فاستقينا منه ، ولم نؤذ من فوقنا ، فإن تركوهم وأمرهم هَلَكوا جميعا ، وإن أخذوا على أيديهم نَجَوْا جميعا .

انفرد بإخراجه البخاري دون مسلم ، فرواه في " الشركة " و " الشهادات " ، والترمذي في الفتن من غير وجه ، عن سليمان بن مهران الأعمش ، عن عامر بن شَرَاحيل الشعبي ، به{[12834]}

حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا حسين ، حدثنا خَلَف بن خليفة ، عن لَيْث ، عن عَلْقَمَة بن مَرْثد ، عن المعرور بن سُوَيْد ، عن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إذا ظهرت المعاصي في أمتي ، عَمَّهم الله بعذاب من عنده " . فقلت : يا رسول الله ، أما فيهم أناس صالحون ؟ قال : " بلى " ، قالت : فكيف يصنع أولئك ؟ قال : " يصيبهم ما أصاب الناس ، ثم يصيرون إلى مغفرة من الله ورضوان " {[12835]}

حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا حَجَّاج بن محمد ، أخبرنا شريك ، عن أبي إسحاق ، عن المنذر بن جرير ، عن أبيه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما من قوم يعملون بالمعاصي ، وفيهم رجل أعزّ منهم وأمنع لا يغيرون ، إلا عمهم الله بعقاب{[12836]} - أو : أصابهم العقاب " .

ورواه أبو داود ، عن مُسَدَّد ، عن أبي الأحوص ، عن أبي إسحاق ، به{[12837]}

وقال أحمد أيضًا : حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة سمعت أبا إسحاق يحدث ، عن عُبَيد الله بن جرير ، عن أبيه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ما من قوم يُعْمَل فيهم بالمعاصي ، هم أعَزّ وأكثر ممن يعمله ، لم يغيروه ، إلا عمهم الله بعقاب " {[12838]}

ثم رواه أيضًا عن وَكِيع ، عن إسرائيل - وعن عبد الرزاق ، عن مَعْمَر - وعن أسود ، عن شريك ويونس - كلهم عن أبي إسحاق السَّبِيعي ، به .

وأخرجه ابن ماجه ، عن علي بن محمد ، عن وكيع ، به{[12839]}

[ حديث آخر ]{[12840]} وقال الإمام أحمد : حدثنا سفيان ، حدثنا جامع بن أبي راشد ، عن مُنْذِر ، عن حسن بن محمد ، عن امرأته ، عن عائشة تبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم : " إذا ظهر السوء في الأرض ، أنزل الله بأهل الأرض بأسه " . قالت : وفيهم أهل طاعة الله ؟ قال : " نعم ، ثم يصيرون إلى رحمة الله " {[12841]}


[12820]:المسند (4/165).
[12821]:في أ: "الترمذي".
[12822]:مسند البزار برقم (976).
[12823]:وسنن النسائي الكبرى برقم (11206).
[12824]:زيادة من ك.
[12825]:تفسير الطبري (13/474).
[12826]:في د، ك، م، أ: "عمار".
[12827]:في د، ك، م: "فإذا".
[12828]:المسند (4/192).
[12829]:المسند (5/388).
[12830]:في المسند (5/388) "أبو سعيد مولى بني هاشم عن سليمان بن بلال" ثم راجعت أطراف المسند للحافظ ابن حجر (2/263) فوجدته كما هو في المسند.
[12831]:المسند (5/390).
[12832]:في د، ك: "بأصبعه".
[12833]:في ك، م: "و".
[12834]:المسند (4/269) وصحيح البخاري برقم (2493)، (2686) وسنن الترمذي برقم (2173).
[12835]:المسند (6/304).
[12836]:في د: "بعذاب".
[12837]:المسند (4/361) وسنن أبي داود برقم (4339).
[12838]:المسند (4/364).
[12839]:سنن ابن ماجه برقم (4009).
[12840]:زيادة من م.
[12841]:المسند (6/41).
 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَٱتَّقُواْ فِتۡنَةٗ لَّا تُصِيبَنَّ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمۡ خَآصَّةٗۖ وَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلۡعِقَابِ} (25)

هذه الآية تحتمل تأويلات ، أسبقها إلى النفس أن يريد الله أن يحذر جميع المؤمنين من فتنة إن أصابت لم تخص الظلمة فقط ، بل تصيب الكل من ظالم وبريء ، وهذا التأويل تأول فيها الزبير بن العوام رضي الله عنه ، فإنه قال يوم الجمل{[5283]} وما علمت أنَّا أردنا بهذه الآية إلا اليوم ، وما كنت أظنها إلا فيمن خوطب بها ذلك الوقت ، وكذلك تأول الحسن البصري ، فإنه قال : هذه الآية في علي وعمار وطلحة والزبير ، وكذلك تأول ابن عباس ، فإنه قال : أمر الله المؤمنين في هذه الآية أن لا يقروا المنكر بين أظهرهم فيعمهم العذاب ، وبينه القتبي فيما ذكر مكي عنه بياناً شافياً .

قال القاضي أبو محمد : فيجيء قوله { لا تصيبن } على هذا التأويل صفة ل { فتنة } ، فكان الواجب إذا قدرنا ذلك أن يكون اللفظ لا تصيب وتلطف لدخول النون الثقيلة في الخبر عن الفتنة فقال الزجّاج : زعم بعض النحويين أن الكلام جزاء فيه طرق من النهي ، قال ومثله قوله تعالى : { ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم }{[5284]} فالمعنى أن تدخلوا لا يحطمنكم فكذلك هذا إن تتقوا لا تصيبن{[5285]} ، وقال قوم : هو خبر بمعنى الجزاء فلذلك أمكن دخول النون{[5286]} ، وقال المهدوي : وقيل هو جواب قسم مقدر تقديره واتقوا فتنة لا تصيبن ، ودخلت النون مع لا حملاً على دخولها مع اللام فقط .

قال القاضي أبو محمد : وهذا في القول تكره ، لأن جواب القسم إذا دخلته «لا » أو كان منفياً في الجملة لم تدخل النون ، وإذا كان موجباً دخلته اللام والنون الشديدة كقوله والله لا يقوم زيد والله ليقومن زيد ، هذا هو قانون الباب ولكن معنى هذه الآية يستقيم مع التكره الذي ذكرناه والتأويل الآخر في الآية هو أن يكون قوله { واتقوا فتنة } خطاباً عاماً لجميع المؤمنين مستقلاً بنفسه تم الكلام عنده ثم ابتدأ نهي الظلمة خاصة عن التعرض للظلم فتصيبهم الفتنة خاصة وأخرج النهي على جهة المخاطبة للفتنة فهو نهي محول .

والعرب تفعل هذا كما قالوا لا أرينك ها هنا يريدون لا تقم ها هنا فتقع مني رؤيتك ، ولم يريدوا نهي الإنسان الرائي نفسه ، فكذلك المراد في الآية لا يقع من ظلمتكم ظلم فتقع من الفتنة إصابتهم ، نحا إليه ، الزجّاج ، وهو قول أبي العباس المبرد وحكاه النقاش عن الفراء ، ونهي الظلمة ها هنا بلفظ مخاطبة الجمع كما تقول لقوم لا يفعل سفهاءكم كذا وكذا وأنت إنما تريد نهي السفهاء فقط ، و { خاصة } نعت لمصدر محذوف تقديره إصابة خاصة ، فهي نصب على الحال لما انحذف المصدر من الضمير في { تصيبن } وهذا الفعل هو العامل ، ويحتمل أن تكون { خاصة } حالاً من الضمير في { ظلموا } ولا يحتاج إلى تقدير مصدر محذوف والأول أمكن في المعنى ، وقرأ علي بن أبي طالب وزيد بن ثابت وأبو جعفر محمد بن علي والربيع بن أنس وأبو العالية وابن جماز «لتصيبن » باللام على جواب قسم ، والمعنى على هذا وعيد الظلمة فقط ، قال أبو الفتح : يحتمل أن يراد بهذه القراءة «لا تصيبن » فحذف الألف من «لا » تخفيفاً واكتفاء بالحركة كما قالوا أم والله{[5287]} ويحتمل أن يراد بقراءة الجماعة ، «لا تصيبن » فمطلت حركة اللام فحدثت عنها ألف .

قال القاضي أبو محمد : وهذا تنطع في التحميل{[5288]} وحكى النقاش هذه القراءة عن الزبير بن العوام ، وهذا خلاف لما حكى الطبري وغيره من تأويل الزبير رضي الله عنه في الآية ، وحكى النقاش عن ابن مسعود أنه قرأ «واتقوا فتنة أن تصيب » وقوله { واعلموا أن الله شديد العقاب } وعيد يلتئم مع تأويل الزبير والحسن التئاماً حسناً ويلتئم مع سائر التأويلات بوجوه مختلفة .

وروي عن علي بن سليمان الأخفش أن قوله { لا تصيبن } هي{[5289]} على معنى الدعاء ذكره الزهراوي .


[5283]:- واقعة مشهورة شاركت فيها أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، وكانت سنة 36هـ.
[5284]:- من الآية (18) من سورة (النمل).
[5285]:- صاحب هذا الرأي الذي يرويه الزجاج بقوله: "وزعم بعض النحويين" هو الفراء، وهو يرى أن الجملة جواب للأمر نحو قولك: "انزل عن الدابة لا تطرحنك"، ومنه: {لا يحطمنكم سليمان}- وعقب على التمثيل أبو حيان فقال: {ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم} ليس نظير {واتقوا فتنة لا تصيبن} لأنه ينتظم من الأولى شرط وجزاء ولا ينتظم ذلك في الثانية، ألا ترى أنه لا يصح تقدير: "إن تتقوا فتنة لا تصيب الذين ظلموا منكم خاصة" لأنه يترتب على الشرط غير مقتضاه من جهة المعنى. وللزمخشري رأي في الموضوع يناقشه أبو حيان في "البحر المحيط".
[5286]:- من رأي الزمخشري أن الجملة صفة وأنها نهي، وقال: وكذلك إذا جعلتها صفة على إٍرادة القول كأنه قيل: "واتقوا فتنة مقولا فيها: لا تصيبن"، ونظيره قول الشاعر: حتى إذا جنّ الظلام واختلط جاءوا بمذق هل رأيت الذئب قط؟ أي بَمْذق مقول فيه هذا القول.
[5287]:- قال المهدوي موضحا ذلك: كما حذفت من (ما) وهي أخت (لا) في قولهم: "أم والله لأفعلن"- قال أبو حيان: (ما) ليس للنفي، وهذا فرق بينها وبين (لا) فالتنظير في رأيه غير دقيق.
[5288]:- من رأي أبي حيان أن الإشباع-وهو ما سمي هنا مطلا للحركة- خاص بالشعر، وقال الألوسي ما معناه: إنه لا يعول على القول بحذف الألف تخفيفا، ولا على القول بتمطيط الحركة إشباعا- وابن عطية من رأيهما، بل إنه سمّى مطل الحركة وإشباعها تنطعا في التحميل، ورحم الله علماء النحو فالقرآن في غنى عن هذه الآراء.
[5289]:- أراد بالضمير (هي) جملة (لا تصيبن).
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَٱتَّقُواْ فِتۡنَةٗ لَّا تُصِيبَنَّ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمۡ خَآصَّةٗۖ وَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلۡعِقَابِ} (25)

عُقب تحريضُ جميعهم على الاستجابة ، المستلزمُ تحذيرهم من ضدها بتحذير المستجيبين من إعراض المعرضين ، ليعلموا أنهم قد يلحقهم أذى من جراء فعل غيرهم إذا هم لمُ يُقَوّموا عِوَج قومهم ، كَيلا يحسبوا أن امتثالهم كاف إذا عصى دهماؤهم ، فحذّرهم فتنة تلحقهم فتعم الظالم وغيره .

فإن المسلمين إن لم يكونوا كلمة واحدة في الاستجابة لله وللرسول عليه الصلاة والسلام دب بينهم الاختلاف واضطربت أحوالهم واختل نظام جماعتهم باختلاف الآراء وذلك الحال هو المعبر عنه بالفتنة .

وحاصل معنى الفتنة يرجع إلى اضطراب الآراء ، واختلال السير ، وحلول الخوف والحذر في نفوس الناس ، قال تعالى : { وفتنّاك فتوناً } [ طه : 40 ] وقد تقدم ذكر الفتنة في قوله : { والفتنة أشد من القتل } في سورة [ البقرة : 91 ] .

فعلى عقلاء الأقوام وأصحاب الأحلام منهم إذا رأوا دبيب الفساد في عامتهم أن يبادروا للسعي إلى بيان ما حل بالناس من الضلال في نفوسهم ، وأن يكشفوا لهم ماهيته وشبهته وعواقبه ، وأن يمنعوهم منه بما أوتوه من الموعظة والسلطان ، ويزجروا المفسدين عن ذلك الفساد حتى يرتدعوا ، فإن هم تركوا ذلك ، وتوانوا فيه لم يلبث الفساد أن يسري في النفوس وينتقل بالعدوى من واحد إلى غيره ، حتى يعم أو يكاد ، فيعسر اقتلاعه من النفوس ، وذلك الاختلالُ يفسد على الصالحين صلاحَهم وينكد عيشهم على الرغم من صلاحهم واستقامتهم ، فظهر أن الفتنة إذا حلّت بقوم لا تصيب الظالم خاصة بل تعمه والصالح ، فمن أجل ذلك وجب اتقاؤها على الكل ، لأن إضرار حلولها تصيب جميعهم .

وبهذا تعلم أن الفتنة قد تكون عقاباً من الله تعالى في الدنيا ، فهي تأخذ حكم العقوبات الدنيوية التي تصيب الأمم ، فإن من سُنتها أن لا تخص المجرمين إذا كان الغالب على الناس هو الفساد ، لأنها عقوبات تحصل بحوادث كونية يستتب في نظام العالم الذي سنه الله تعالى في خلق هذا العالم أن يوزع على الأشخاص كما ورد في حديث النهي عن المنكر في الصحيح : أن النبي قال : مثل القائِم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مرّوا على مَن فوقهم فقالوا : لو أنّا خرقنا في نصيبنا خرقاً ولم نؤذ مَن فوقنا فإنْ يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً وإن أخذوا على أيديهم نجَوا ونجَوا جميعاً وفي « صحيح مسلم » عن زينب بنت جحش أنها قالت : « يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون قال : نعم إذا كثر الخبث ثم يحشْرون على نياتهم » .

وحرف { لا } في قوله : { لا تصيبن } نهي بقرينة اتصال مدخولها بنون التوكيد المختصة بالإثبات في الخبر وبالطلب ، فالجملة الطلبية : إما نعت ل { فتنة } بتقدير قول محذوف ، ومثله وارد في كلام العرب كقول العجاج :

حتى إذا جَن الظلام واختلط *** جاءوا بِمَذْق هَلْ رأيتَ الذئب قط

أي مقول فيه . وباب حذف القول باب متسع ، وقد اقتضاه مقام المبالغة في التحذير هنا والاتقاء من الفتنة فأكد الأمر باتقائها بنهيها هي عن إصابتها إياهم ، لأن هذا النهي من أبلغ صيغ النهي بأن يُوجه النهي إلى غير المراد نهيه تنبيهاً له على تحذيره من الأمر المنهي عنه في اللفظ ، والمقصودُ تحذير المخاطب بطريق الكناية لأن نهي ذلك المذكور في صيغة النهي يستلزم تحذير المخاطب فكأنّ المتكلم يجمع بين نهيين ، ومنه قول العرب : لا أعرِفَنّك تفعل كذا ، فإنه في الظاهر المتكلمِ نفسَه عن فعل المخاطب ، ومنه قوله تعالى : { لا يفتننكم الشيطان } [ الأعراف : 27 ] ويسمى هذا بالنهي المحول ، فلا ضمير في النعت بالجملة الطلبية .

ويجوز أن تكون جملة : { لا تصيبن } نهياً مستأنفاً تأكيداً للأمر باتقائها مع زيادة التحذير بشمولها مَن لم يكن من الظالمين .

ولا يصح جعل جملة : { لا تصيبن } جواباً للأمر في قوله : { واتقوا فتنة } لأنه يمنع منه قوله : { الذين ظلموا منكم خاصة } وإنما كان يجوز لو قال : « لا تصيبنكم » كما يظهر بالتأمل ، وقد أبطل في « مغني اللبيب » جعل ( لا ) نافية هنا ، ورَد على الزمخشري تجويزه ذلك .

و { خاصة } اسم فاعل مؤنث لجريانه على { فتنة } فهو منتصب على الحال من ضمير { تصيبن } وهي حال مفيدة لأنها المقصود من التحذير .

وافتتاح جملة : { واعلموا أن الله شديد العقاب } بفعل الأمر بالعلم للإهتمام لقصد شدة التحذير ، كما تقدم آنفاً في قوله : { واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلْبه } [ الأنفال : 24 ] والمعنى أنه شديد العقاب لمن يخالف أمره ، وذلك يشمل من يخالف الأمر بالاستجابة .

 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{وَٱتَّقُواْ فِتۡنَةٗ لَّا تُصِيبَنَّ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمۡ خَآصَّةٗۖ وَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلۡعِقَابِ} (25)

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يقول تعالى ذكره للمؤمنين به وبرسوله: اتقوا أيها المؤمنون فتنة، يقول: اختبارا من الله يختبركم، وبلاء يبتليكم، لا تصيبنّ هذه الفتنة التي حذرتكموها الذين ظلموا، وهم الذين فعلوا ما ليس لهم فعله، إما أجرام أصابوها وذنوب بينهم وبين الله ركبوها، يحذّرهم جلّ ثناؤه أن يركبوا له معصية أو يأتوا مأثما يستحقون بذلك منه عقوبة...

وأما قوله:"وَاعْلَمُوا أنّ اللّهَ شَدِيدُ العِقابِ" فإنه تحذير من الله ووعيد لمن واقع الفتنة التي حذره إياها بقوله: "وَاتّقُوا فِتْنَةً"، يقول: اعلموا أيها المؤمنون أن ربكم شديد عقابه لمن افتتن بظلم نفسه وخالف أمره، فأثم به.

النكت و العيون للماوردي 450 هـ :

قوله عز وجل: {وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً} فيها أربعة أقاويل:

أحدها: أنه المنكر، أمر الله تعالى المؤمنين ألا يقروه بين أظهرهم فيعمهم العذاب قاله ابن عباس.

والثاني: أنها الفتنة بالأموال والأولاد كما قال تعالى: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُم فِتْنَةٌ} [الأنفال: 28] قاله عبد الله بن مسعود. والثالث: أن الفتنة هاهنا البلية التي يبلى الإنسان بها، قاله الحسن...

التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :

...

. وقوله "لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة "معناه أنها تعم لأن الهرج إذا وقع دخل ضرره على كل أحد...

لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :

احذروا أن ترتكبوا زلَّةً توجب لكم عقوبة لا تخص مرتكبها، بل يعمُّ شؤمُها من تعاطاها ومن لم يتعاطها. وغير المجرم لا يُؤْخَذ بِجُرْم من أذنب، ولكن قد ينفرِد أحدٌ بجرم فيحمل أقوامٌ من المختصين بفاعل هذا الجُرْم، كأن يتعصبوا له إذا أُخِذَ بحكم ذلك الجرم فبعد أن لم يكونوا ظالمين يصيرون ظالمين بمعاونتهم وتعصبهم لهذا الظالم؛ فتكون فتنة لا تختص بمن كان ظالماً في الحال بل إنها تصيب أيضاً ظالماً في المستقبل بسبب تعصبه لهذا الظالم ومطابقته معه، ورضاه به...

ويقال إن الأكابر إذا سكتوا عن التنكير على الأصاغر عند تَرْكِهِم الأذكار أصابتهم فتنةُ ما فعلوه؛ فلقد قيل إنَّ السفيه إذا لم يُنْهَ مأمورُ. فعلى هذا تصيب فتنةُ الزَّلةِ مرتكبَها ومَنْ تَرَكَ النَّهي عن المنكر -مثل مَنْ ترك الأمر بالمعروف- يؤخذ بِجُرمه...

.

الوجيز في تفسير الكتاب العزيز للواحدي 468 هـ :

والتقدير واتقوا فتنة إن لا تتقوها لا تصيب الذين ظلموا منكم خاصة أي لا تقع بالظالمين دون غيرهم ولكنها تقع بالصالحين والطالحين {واعلموا أن الله شديد العقاب} حث على لزوم الاستقامة خوفا من الفتنة ومن عقاب الله بالمعصية فيها...

تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :

وقيل: أراد بالفتنة: تفريق الكلمة واختلاف الآراء، واتقوا فتنة تفريق الكلمة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة...

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :

هذه الآية تحتمل تأويلات، أسبقها إلى النفس أن يريد الله أن يحذر جميع المؤمنين من فتنة إن أصابت لم تخص الظلمة فقط، بل تصيب الكل من ظالم وبريء، وهذا التأويل تأول فيها الزبير بن العوام رضي الله عنه، فإنه قال يوم الجمل وما علمت أنَّا أردنا بهذه الآية إلا اليوم، وما كنت أظنها إلا فيمن خوطب بها ذلك الوقت.

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

لما كان لمجيب ربما قال: ليس عليّ إلا الإجابة في خاصة نفسي، وليس عليّ تعريض نفسي للأذى بالأخذ على يد غيري، نبَّه سبحانه على أن ذلك منابذة للدين واجتثاث له من أصله، لأن ترك العاصي على عصيانه كترك الكافر على كفرانه، وذلك موجب لعموم البلاء، ومزيد القضاء فقال تعالى: {واتقوا فتنة} أي بلاء مميلاً محيلاً إن لا تتقوه يعمكم، هكذا كان الأصل، لكن لما كان نهي الفتنة على إصابتهم أروع من سوق ذلك مساق الشرط ومن نهيهم عن التعرض لها لما فيه من تصوير حضورها وفهمها للنهي أتى به، ولما كان نهيها عن تخصيص الظالم أشد روعة لإفهامه، أمرها بأن تعم؛ قال مجيباً للأمر: {لا تصيبن} ولحقه نون التأكيد لأن فيه معنى النهي {الذين ظلموا} أي فعلوا بموافقة المعصية ما لا يفعله إلا من لا نور له {منكم} أيها المأمورون بالتقوى {خاصة} أي بل تعمكم، فهو نهي للفتنة والمراد نهي مباشرتها، أي لا يفعل أحد منكم الذنب يصيبكم أثره عموماً أو لا يباشر أسباب العذاب بعضكم والبعض الآخر مقر له يعمكم الله به، وذلك مثل: لا أرينك هاهنا، والمعنى فكن هاهنا فأراك فالتقدير: واجعلوا بينكم وبين البلاء العام وقاية بإصلاح ذات بينكم واجتماع كلمتكم على أمر الله ورد من خالف إلى أمر الله ولا تختلفوا كما اختلفتم في أمر الغنيمة فتفشلوا فيسلط عليكم عذاب عام من أعدائكم أو غيرهم، فإن كان الطائع منكم أقوى من العاصي أو ليس أضعف منه فلم يرده فقد اشترك الكل في الظلم، ذلك بفعله وهذا برضاه، فيكون العذاب عذاب انتقام للجميع... ولما حذرهم سبحانه عموم البلاء، أتبعه الإعلام بأنه قادر مربوب ليلزموا سبيل الاستقامه فقال: {واعلموا أن الله} أي الذي له الإحاطة بصفات العظمة {شديد العقاب}...

تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :

{واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة} أي واتقوا وقوع الفتن القومية والملية العامة التي من شأنها أن تقع بين الأمم في التنازع على مصالحها العامة من الملك والسيادة أو التفرق في الدين والشريعة، والانقسام إلى الأحزاب الدينية كالمذاهب، والسياسية كالحكم، فإن العقاب على ذنوب الأمم أثر لازم لها في الدنيا قبل الآخرة كما تقدم مرارا، ولهذا عبر هنا بالفتنة، دون الذنب والمعصية، والفتنة البلاء والاختبار...

{واعلموا أن الله شديد العقاب} لمن خالف سننه في الأمم والأفراد التي لا تبديل لها ولا تحويل، ولمن خالف هداية دينه المزكية للأنفس وقطعيات شرعه المبنية على درء المفاسد والمضار وحفظ المصالح والمنافع. وهذا العقاب منه ما يقع في الدنيا والآخرة ومنه ما يقع في إحداهما فقط، سواء كان للأفراد أو للأمم، وعقاب الأمم المذكور في هذه الآية مطرد في الدنيا، وأول من أصابه من أمتنا الإسلامية أهل القرن الأول الذين كانوا خيرها بل خير الأمم كلها لما قصروا في درء الفتنة الأولى عاقبهم الله عليها عقابا شديدا كما تقدم آنفا، وهكذا تسلسل العقاب في كل جيل وقع فيه ذلك، ثم امتزجت الفتن المذهبية بالفتن السياسية الخاصة بالخلافة والسلطان، ولهذا كانت فتنة الخلاف بين أهل السنة والشيعة أشد مصائب هذه الأمة وأدومها، فزالت الخلافة التي تنازعوا عليها، وتنافسوا فيها، وتقاتلوا لأجلها، ولم تزل هي تزداد قوة وشبابا،...

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

والفتنة: الابتلاء أو البلاء.. والجماعة التي تسمح لفريق منها بالظلم في صورة من صوره -وأظلم الظلم نبذ شريعة الله ومنهجه للحياة- ولا تقف في وجه الظالمين؛ ولا تأخذ الطريق على المفسدين.. جماعة تستحق أن تؤخذ بجريرة الظالمين المفسدين.. فالإسلام منهج تكافلي إيجابي لا يسمح أن يقعد القاعدون عن الظلم والفساد والمنكر يشيع [فضلا على أن يروا دين الله لا يتبع؛ بل أن يروا ألوهية الله تنكر وتقوم ألوهية العبيد مقامها!] وهم ساكتون. ثم هم بعد ذلك يرجون أن يخرجهم الله من الفتنة لأنهم هم في ذاتهم صالحون طيبون!...

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

عُقب تحريضُ جميعهم على الاستجابة، المستلزمُ تحذيرهم من ضدها بتحذير المستجيبين من إعراض المعرضين، ليعلموا أنهم قد يلحقهم أذى من جراء فعل غيرهم إذا هم لمُ يُقَوّموا عِوَج قومهم، كَيلا يحسبوا أن امتثالهم كاف إذا عصى دهماؤهم، فحذّرهم فتنة تلحقهم فتعم الظالم وغيره. فإن المسلمين إن لم يكونوا كلمة واحدة في الاستجابة لله وللرسول عليه الصلاة والسلام دب بينهم الاختلاف واضطربت أحوالهم واختل نظام جماعتهم باختلاف الآراء وذلك الحال هو المعبر عنه بالفتنة. وحاصل معنى الفتنة يرجع إلى اضطراب الآراء، واختلال السير، وحلول الخوف والحذر في نفوس الناس، قال تعالى: {وفتنّاك فتوناً} [طه: 40] وقد تقدم ذكر الفتنة في قوله: {والفتنة أشد من القتل} في سورة [البقرة: 91]. فعلى عقلاء الأقوام وأصحاب الأحلام منهم إذا رأوا دبيب الفساد في عامتهم أن يبادروا للسعي إلى بيان ما حل بالناس من الضلال في نفوسهم، وأن يكشفوا لهم ماهيته وشبهته وعواقبه، وأن يمنعوهم منه بما أوتوه من الموعظة والسلطان، ويزجروا المفسدين عن ذلك الفساد حتى يرتدعوا، فإن هم تركوا ذلك، وتوانوا فيه لم يلبث الفساد أن يسري في النفوس وينتقل بالعدوى من واحد إلى غيره، حتى يعم أو يكاد، فيعسر اقتلاعه من النفوس، وذلك الاختلالُ يفسد على الصالحين صلاحَهم وينكد عيشهم على الرغم من صلاحهم واستقامتهم، فظهر أن الفتنة إذا حلّت بقوم لا تصيب الظالم خاصة بل تعمه والصالح، فمن أجل ذلك وجب اتقاؤها على الكل، لأن إضرار حلولها تصيب جميعهم. وبهذا تعلم أن الفتنة قد تكون عقاباً من الله تعالى في الدنيا، فهي تأخذ حكم العقوبات الدنيوية التي تصيب الأمم، فإن من سُنتها أن لا تخص المجرمين إذا كان الغالب على الناس هو الفساد، لأنها عقوبات تحصل بحوادث كونية يستتب في نظام العالم الذي سنه الله تعالى في خلق هذا العالم أن يوزع على الأشخاص كما ورد في حديث النهي عن المنكر في الصحيح: أن النبي قال: مثل القائِم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مرّوا على مَن فوقهم فقالوا: لو أنّا خرقنا في نصيبنا خرقاً ولم نؤذ مَن فوقنا فإنْ يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً وإن أخذوا على أيديهم نجَوا ونجَوا جميعاً...

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :

... ومفهوم الآية هنا هو أنّ أفراد المجتمع مسؤولين عن أداء وظائفهم، وكذلك فهم مسؤولون عن حثّ الآخرين لأداء وظائفهم أيضاً، لأنّ الاختلاف والتشتت في قضايا المجتمع يؤدي إِلى انهياره، ويتضرر بذلك الجميع، فلا يصحّ أن يقول أحد بأنني أؤدي رسالتي الاجتماعية ولا علاقة لي بالآثار السلبية الناجمة عن عدم أداء الآخرين لواجباتهم، لأنّ آثار القضايا الاجتماعية ليست فردية ولا شخصية. وهذا الموضوع يشبه تماماً ما لو احتجنا لصد هجوم الأعداء إِلى مئة ألف مقاتل، فإذا قام خمسون ألف مقاتل بأداء وظائفهم فمن اليقين أنّهم سيخسرون عند منازلتهم العدو، وهذا الانكسار سيشمل الذين أدوا وظائفهم والذين تقاعسوا عن أدائها وهذه هي خصوصية المسائل الاجتماعية. ويمكن إيضاح هذه الحقيقة بصورة أجلى وهي: أنّ الأخيار من أبناء المجتمع مسؤولون في التصدّي للأشرار لأنّهم لو اختاروا السكوت فسيشاركون أُولئك مصيرهم عند الله ...

...

وتُختتم الآية بلغة التهديد فتقول: (واعلموا أنّ الله شديد العقاب) لئلا يصاب هؤلاء بالغفلة بسبب الألطاف والرحمة الإِلهية وينسوا شدّة الجزاء الإِلهي، فتأكلهم الفتن وتحيط بهم من كل جانب، كما أحاطت المجتمع الإِسلامي، وأرجعته القهقرى بسبب نسيانه السنن والقوانين الإِلهية. فنظرة قصيرة إِلى مجتمعنا الإِسلامي في زماننا الحاضر والانكسارات التي أصابته أمام أعدائه، والفتن الكثيرة، كالاستعمار والصهيونية، والإِلحاد والمادية، والفساد الخلقي وتشتت العوائل وسقوط شبابه في وديان الفساد، والتخلف العلمي، كل ذلك يجسد مضمون الآية، وكيف أنّ تلك الفتن أصابت كل صغير وكبير، وكل عالم وجاهل، وسيستمر كل ذلك حتى اليوم الذي تتحرك فيه الروح الاجتماعية للمسلمين، ويهتم الجميع بصلاح المجتمع ولا يتخلفوا عن الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر...