قال البخاري عند تفسير هذه الآية : حدثنا إبراهيم بن موسى ، حدثنا هشام - هو ابن يوسف - عن ابن جريج : سمعت عبد الله{[4441]} بن أبي مُلَيكة ، يحدث عن ابن عباس ، وسمعت أخاه أبا بكر بن أبي مليكة يحدث عن عبيد بن عُمَير قال : قال عمر بن الخطاب يوما لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : فيمن ترون هذه الآية نزلت : { أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ } ؟ قالوا : الله أعلم . فغضب عمر فقال : قولوا : نعلم أو لا نعلم{[4442]} . فقال ابن عباس : في نفسي منها شيء يا أمير المؤمنين . فقال عمر : يا ابن أخي ، قل ولا تحقر نفسك . فقال ابن عباس : ضربت مثلا لعمل . قال عمر : أيُّ عملٍ ؟ قال ابن عباس : لعمل . قال عمر : لرجل غني يعمل بطاعة الله . ثم بعث الله له الشيطان فعمِل بالمعاصي
حتى أغرق{[4443]} أعماله{[4444]} .
ثم رواه البخاري ، عن الحسن بن محمد الزعفراني ، عن حجاج بن محمد الأعور ، عن ابن جريج ، فذكره{[4445]} . وهو من أفراد البخاري ، رحمه الله .
وفي هذا الحديث كفاية في تفسير هذه الآية ، وتبيين ما فيها من المثل بعمل من أحسن العمل أولا ثم بعد ذلك انعكس سيره ، فبدل الحسنات بالسيئات ، عياذًا بالله من ذلك ، فأبطل بعمله الثاني ما أسلفه فيما تقدم من الصالح{[4446]} واحتاج إلى شيء من الأول في أضيق الأحوال ، فلم يحصل له منه شيء ، وخانه أحوجَ ما كان إليه ، ولهذا قال تعالى : { وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ } وهو الريح الشديد{[4447]} { فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ } أي : أحرق{[4448]} ثمارَها وأباد أشجارها ، فأيّ حال يكون حاله .
وقد روى ابن أبي حاتم ، من طريق العَوْفي ، عن ابن عباس قال : ضرب الله له مثلا حسنًا ، وكل أمثاله حسن ، قال : { أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ } يقول : ضيّعَه في شيبته { وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ } وولده وذريته ضعاف عند آخر عمره ، فجاءه إعصار فيه نار فأحرق {[4449]} بستانه ، فلم يكن عنده قوة أن يغرس مثله ، ولم يكن عند نسله خير يعودون به عليه ، وكذلك الكافر يوم القيامة ، إذ ردّ إلى الله عز وجل ، ليس له خير فيُسْتَعْتَب ، كما ليس لهذا قوة فيغرس مثل بستانه ، ولا يجده قدم لنفسه خيرا يعود عليه ، كما لم يُغْن عن هذا ولدُه ، وحُرم أجره عند أفقر ما كان إليه ، كما حرم هذا جنة الله عند أفقر ما كان إليها عند كبره وضعف ذريته .
وهكذا{[4450]} ، روى الحاكم في مستدركه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول في دعائه : " اللهم اجعل أوسع رزقك علي عند كبر سني وانقضاء عمري " {[4451]} ؛ ولهذا قال تعالى : { كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ } أي : تعتبرون وتفهمون الأمثال والمعاني ، وتنزلونها على المراد منها ، كما قال تعالى : { وَتِلْكَ الأمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلا الْعَالِمُونَ } [ العنكبوت : 43 ] .
أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ ( 266 )
حكى الطبري عن السدي أن هذه الآية مثل آخر لنفقة الرياء ، ورجح هو هذا القول ، وحكى عن ابن زيد أنه قرأ قول الله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى } [ البقرة : 264 ] ، ثم قال ضرب في ذلك مثلاً فقال : { أيود أحدكم } الآية .
قال القاضي أبو محمد : وهذا أبين من الذي رجح الطبري( {[2611]} ) ، وليست هذه الآية بمثل آخر لنفقة الرياء ، هذا هو مقتضى سياق الكلام ، وأما بالمعنى في غير هذا السياق فتشبه حال كل منافق أو كافر عمل وهو يحسب أنه يحسن صنعاً ، فلما جاء إلى وقت الحاجة لم يجد شيئاً( {[2612]} ) ، وقد سأل عمر بن الخطاب رضي الله عنه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية فقالوا الله ورسوله أعلم ، فقال وهو غاضب قولوا نعلم أو لا نعلم ، فقال له ابن عباس هذا مثل ضربه الله كأنه قال : أيود أحدكم أن يعمل عمره بعمل أهل الخير ، فإذا فني عمره واقترب أجله ختم ذلك بعمل من عمل أهل الشقاء ، فرضي ذلك عمر( {[2613]} ) ، وروى ابن أبي مليكة أن عمر تلا هذه الآية : { أيود أحدكم } ، وقال : هذا مثل ضرب للإنسان يعمل عملاً صالحاً حتى إذا كان عند آخر عمره أحوج ما يكون إليه ، عمل عمل السوء( {[2614]} ) .
قال القاضي أبو محمد : فهذا نظر يحمل الآية على كل ما يدخل تحت ألفاظها ، وقال بنحو هذا مجاهد وقتادة والربيع وغيرهم( {[2615]} ) ، وخص النخيل والأعناب بالذكر( {[2616]} ) لشرفهما وفضلهما على سائر الشجر . وقرأ الحسن «جنات » بالجمع ، وقوله { من تحتها } هو تحت بالنسبة إلى الشجر( {[2617]} ) ، والواو في قوله { وأصابه } واو الحال( {[2618]} ) ، وكذلك في قوله : { وله } و { ضعفاء } جمع ضعيف وكذلك ضعاف ، وال { إعصار } الريح الشديدة العاصف التي فيها إحراق لكل ما مرت عليه ، يكون ذلك في شدة الحر ويكون في شدة البرد وكل ذلك من فيح جهنم ونفسها كما تضمن قول النبي صلى الله عليه وسلم : «إذا اشتد الحر فأبردوا عن الصلاة فإن شدة الحر من فيح جهنم ، وإن النار اشتكت إلى ربها »( {[2619]} ) ، الحديث بكماله ، فإما أنه نار على حقيقته وإلا فهو نفسها يوجد عنه كاثرها ، قال السدي : الإعصار الريح ، والنار السموم( {[2620]} ) ، وقال ابن عباس ريح فيها سموم شديدة ، وقال ابن مسعود إن السموم التي خلق الله منها الجان جزء من سبعين جزءاً من النار .
قال القاضي أبو محمد : يريد من نار الآخرة ، وقال الحسن بن أبي الحسن { إعصار فيه نار } ريح فيها صر ، برد ، وقاله الضحاك ، وفي المثل : إن كنت ريحاً فقد لاقيت إعصاراً( {[2621]} ) ، والريح إعصار لأنها تعصر السحاب ، والسحاب معصرات إما أنها حوامل فهي كالمعصر من النساء وهي التي هي عرضة للحمل( {[2622]} ) وإما لأنها تنعصر بالرياح ، وبهذا فسر عبيد الله بن الحسن العنبري القاضي ، وحكى ابن سيده أن المعصرات فسرها قوم بالرياح لا بالسحاب ، وقال الزجاج : الإعصار الريح الشديدة تصعد من الأرض إلى السماء وهي التي يقال لها الزوبعة ، قال المهدوي : قيل لها { إعصار } لأنها تلتف كالثوب إذا عصر .
قال القاضي أبو محمد : وهذا ضعيف( {[2623]} ) ، والإشارة بذلك إلى هذه الأمثال المبينة ، { ولعلكم } ترجّ في حق البشر ، أي إذا تأمل من يبين له هذا البيان رجي له التفكر وكان أهلاً له . وقال ابن عباس { تتفكرون } في زوال الدنيا وفنائها وإقبال الآخرة وبقائها .
استئناف بياني أثارُه ضرب المثل العجيب للمنفق في سبيل الله بمثَل حبَّة أنبتت سبع سنابل ، ومثَل جنة برُبوة إلى آخر ما وصف من المَثَلين . ولمَّا أتبع بما يفيد أنّ ذلك إنّما هو للمنفقين في سبيل الله الذين لا يتبعون ما أنفقوا مناً ولا أذًى ، ثم أتبع بالنهي عن أن يُتبعوا صدقاتهم بالمنّ والأذى ، اسْتشرفت نفس السامع لتلقي مَثَل لهم يوضح حالهم الذميمة كما ضُرب المثل لمن كانوا بضدّ حالهم في حالة محمودة .
ضرب الله هذا مثلاً لمقابل مثل النفقة لمرضاة الله والتصديق وهو نفقة الرئاء ، ووجه الشبه هو حصول خيبة ويأس في وقت تمام الرجاء وإشراف الإنتاج ، فهذا مقابل قوله : { ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضات الله } [ البقرة : 265 ] الآية . وقد وصف الجنّة بأعظم ما يحسن به أحوال الجنّات وما يُرجى منه توفر رَيعها ، ثم وصف صاحبها بأقصى صفات الحاجة إلى فائدة جنّته ، بأنّه ذو عيال فهو في حاجة إلى نفعهم وأنهم ضعفاء أي صغار إذ الضعيف في « لسان العرب » هو القاصر ، ويطلق الضعيف على الفقير أيضاً ، قال تعالى : { فإن كان الذي عليه الحق سفيهاً أو ضعيفاً } [ البقرة : 282 ] ، وقال أبو خالد العتَّابي :
لقد زادَ الحياةَ إليّ حُبا *** بَناتي إنَّهُنّ من الضِّعاف
وقد أصابه الكِبَر فلا قدرة له على الكسب غير تلك الجنة ، فهذه أشدّ الأحوال الحرص كقول الأعْشى :
* كجَابيِة الشَّيخِ العِراقي تَفْهَقُ *
فحصل من تفصيل هذه الحالة أعظم الترقّب لثمرة هذه الجنة كما كان المعطي صدقتُه في ترقّب لثوابها .
فأصابها إعصار ، أي ريح شديدة تَقلع الشجر والنباتَ ، فيها نار أي شدة حرارة وهي المسمّاة بريح السموم ، فإطلاق لفظ نار على شدة الحر تشبيه بليغ ، فأحرَقت الجنةّ أي أشجارها أي صارت أعوادها يابسة ، فهذا مفاجأة الخيبة في حين رجاء المنفعة .
والاستفهام في قوله : { أيَوَدُّ } استفهام إنكار وتحذير كما في قوله : { أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً } [ الحجرات : 12 ] . والهيأة المشبّهة محذوفة وهي هيأة المنفق نفقة متبعة بالمنّ والأذى .
روى البخاري أنّ عمر بن الخطاب سأل يوماً أصحابَ رسول الله صلى الله عليه وسلم فيمَ ترون هذه الآية نَزلت : { أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب } الآية ، فقال بعضهم : « الله أعلم » ، فغضب عمر وقال : « قولوا نَعْلَم أو لا نعلم » ، فقال ابن عباس : « في نفسي منها شيء يا أمير المؤمنين » ، فقال عمر : يا ابن أخي قُل ولا تحقِرْ نفسك » ، قال ابن عباس : « ضُربت مثلاً لعَملٍ » ، قال عمر : « أيُّ عمل » ، قال ابن عباس : « لعملٍ » ، قال : صدقتَ ، لرجل غني يعمل بطاعة الله ، ثم بعث الله عز وجل إليه الشيطان لما فَني عمره فعمل في المعاصي حتى أحرق عمله .
وقوله : { كذلك يبين الله لكم الآيات } تذييل ، أي كَهذا البيان الذي فيه تقريب المعْقول بالمحسوس بين الله نصحاً لكم ، رجاء تفكّركم في العواقب حتى لا تكونوا على غفلة . والتشبيه في قوله : { كذلك يبين الله لكم الآيات } نحو ما في قوله تعالى : { وكذلك جعلناكم أمة وسطاً } [ البقرة : 143 ] .