تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٞ قَدۡ خَلَتۡ مِن قَبۡلِهِ ٱلرُّسُلُۚ أَفَإِيْن مَّاتَ أَوۡ قُتِلَ ٱنقَلَبۡتُمۡ عَلَىٰٓ أَعۡقَٰبِكُمۡۚ وَمَن يَنقَلِبۡ عَلَىٰ عَقِبَيۡهِ فَلَن يَضُرَّ ٱللَّهَ شَيۡـٔٗاۚ وَسَيَجۡزِي ٱللَّهُ ٱلشَّـٰكِرِينَ} (144)

لما انهزم من انهزم من المسلمين يوم أُحُد ، وقُتِل من قتل منهم ، نادى الشيطان : ألا إن محمدًا قد قُتل . ورجع ابن قَمِيئَةَ إلى المشركين فقال لهم : قتلتُ محمدًا . وإنما كان قد ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فَشَجَّه في رأسه ، فوقع ذلك في قلوب كثير من الناس واعتقدوا أن رسول الله قد قُتل ، وجوزوا عليه ذلك ، كما قد قَصَّ الله عن كثير من الأنبياء ، عليهم السلام ، فحصل وهَن وضعف وتَأخر عن القتال ففي ذلك أنزل الله [ عز وجل ]{[5779]} على رسوله صلى الله عليه وسلم : { وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ } أي : له أسْوة بهم في الرسالة وفي جواز القتل عليه .

قال ابن أبي نَجيح ، عن أبيه ، أنّ رجلا من المهاجرين مَر على رجل من الأنصار وهو يتشحط في دمه ، فقال له : يا فلان أشعرتَ أن محمدا صلى الله عليه وسلم قد قُتِل ؟ فقال الأنصاري : إن كان محمد [ صلى الله عليه وسلم ]{[5780]} قد قُتِل فقد بلغ ، فقاتلوا عن دينكم ، فنزل : { وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ } رواه [ الحافظ أبو بكر ]{[5781]} البيهقي في دلائل النبوة{[5782]} .

ثم قال تعالى منكرا على من حصل له ضعف : { أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ } أي : رجعتم القَهْقرى { وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ } أي : الذين قاموا بطاعته وقاتلوا عن دينه ، واتبعوا رسوله حيا وميتا .

وكذلك ثبت في الصحاح والمساند والسنن{[5783]} وغيرها من كتب الإسلام من طُرق متعددة تفيد القطْع ، وقد ذكرت ذلك في مُسْندي الشيخين أبي بكر وعُمَرَ ، رضي الله عنهما ؛ أن الصدّيق - رضي الله عنه - تلا هذه الآية لما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم{[5784]} .

وقال البخاري : حدثنا يحيى بن بُكَير ، حدثنا الليث ، عن عُقيل عن ابن شهاب ، أخبرني أبو سَلَمة ؛ أن عائشة ، رضي الله عنها ، أخبرته أن أبا بكر ، رضي الله عنه ، أقبل على فَرَس من مَسْكنه بالسَّنْح {[5785]} حتى نزل فدخل المسجد ، فلم يُكلم الناس حتى دخل على عائشة فتيمَّم رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وهو مُغَشى بثوب حبرة ، فكشف عن وجهه [ صلى الله عليه وسلم ]{[5786]} ثم أكب عليه وقَبَّله وبكى ، ثم قال : بأبي أنت وأمي . والله لا يجمع الله عليك موْتَتَين ؛ أما الموتة التي كُتبت عليك فقد مُتَّها .

وقال الزهري : وحدثني أبو سَلمة عن ابن عباس ، أن أبا بكر خرج وعمر يُحَدِّث{[5787]} الناس فقال : اجلس يا عمر فأبى عمرُ أن يجلس ، فأقبل الناس إليه وتركوا عُمَرَ ، فقال أبو بكر : أما بعد ، مَنْ كانَ يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات ، ومن كان يعبد الله فإن الله حَيّ لا يموت ، قال الله تعالى : { وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ } إلى قوله : { وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ } قال : فوالله لكَأنّ الناس لم يعلموا أن الله أنزل هذه الآية حتى تلاها أبو بكر ، فتلقاها الناس منه{[5788]} كلهم ، فما سمعها{[5789]} بشر من الناس إلا تلاها{[5790]} .

وأخبرني سعيد بن المُسَيَّب أن عُمر قال : والله ما هو إلا أن سمعت أبا بكر تلاها فَعقرتُ حتى ما تقلني رجلاي{[5791]} وحتى هَوَيتُ إلى الأرض{[5792]} .

وقال أبو القاسم الطبراني : حدثنا علي بن عبد العزيز ، حدثنا عمرو بن حماد بن طلحة القنَّاد ، حدثنا أسباط بن نصر ، عن سماك بن حَرْب ، عن عكْرمة ، عن ابن عباس أن عليا كان يقول في حياة رسول الله : { أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ } والله لا ننقلب على أعقابنا بعد إذ هدانا الله ، والله لئن مات أو قتل لأقاتلن على ما قاتل عليه حتى أموت ، والله إني لأخوه ، ووليُّه ، وابن عمه ، ووارثه فمن أحق به مني ؟{[5793]} .


[5779]:زيادة من و.
[5780]:زيادة من ر.
[5781]:زيادة من و.
[5782]:(2/248) من طريق آدم بن أبي إياس عن ورقاء عن ابن أبي نجيح به.
[5783]:في جـ، ر، أ، و: "السنن والمسانيد".
[5784]:انظر: البداية والنهاية (5/213) ودلائل النبوة للبيهقي (7/215 - 217).
[5785]:في ر: "بالسيح" وهو خطأ، والمثبت من البخاري (4452، 4453) وهو الصواب.
[5786]:زيادة من جـ.
[5787]:في جـ، ر، أ، و: "يكلم".
[5788]:في جـ، أ، و: "فتلاها منه الناس" في ر: "فتلاها الناس منه".
[5789]:في جـ، ر، أ، و: "أسمع".
[5790]:في جـ، ر، أ، و: "يتلوها".
[5791]:في و: "رجلان".
[5792]:صحيح البخاري برقم (4452، 4453، 4454).
[5793]:ورواه أبي حاتم في تفسيره (2/581) والحاكم في المستدرك (3/126) من طريق عمرو بن حماد بن طلحة به. قال الهيثمي في المجمع (9/134): "رجاله رجال الصحيح".
 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٞ قَدۡ خَلَتۡ مِن قَبۡلِهِ ٱلرُّسُلُۚ أَفَإِيْن مَّاتَ أَوۡ قُتِلَ ٱنقَلَبۡتُمۡ عَلَىٰٓ أَعۡقَٰبِكُمۡۚ وَمَن يَنقَلِبۡ عَلَىٰ عَقِبَيۡهِ فَلَن يَضُرَّ ٱللَّهَ شَيۡـٔٗاۚ وَسَيَجۡزِي ٱللَّهُ ٱلشَّـٰكِرِينَ} (144)

هذا استمرار في عتبهم ، وإقامة لحجة الله عليهم ، المعنى : أن محمداً صلى الله عليه وسلم رسول كسائر الرسل ، قد بلغ كما بلغوا ، ولزمكم أيها المؤمنون العمل بمضمن الرسالة وليست حياة الرسول وبقاؤه بين أظهركم شرطاً في ذلك ، لأن الرسول يموت كما مات الرسل قبله ، و { خلت } معناه مضت وسلفت ، وصارت إلى الخلاء من الأرض . وقرأ جمهور الناس «الرسل » بالتعريف ، وفي مصحف ابن مسعود «رسل » دون تعريف ، وهي قراءة حطان بن عبد الله{[3576]} ، فوجه الأولى تفخيم ذكر الرسل ، والتنويه ، بهم على مقتضى حالهم من الله تعالى ، ووجه الثانية ، أنه موضع تيسير لأمر النبي عليه السلام في معنى الحياة ، ومكان تسوية بينه وبين البشر في ذلك ، فيجيء تنكير «الرسل » جارياً في مضمار هذا الاقتصاد به صلى الله عليه وسلم ، وهكذا يفعل في مواضع الاقتصاد بالشي ، فمنه قوله تعالى : { وقليل من عبادي الشكور }{[3577]} وقوله تعالى : { وما آمن معه إلا قليل }{[3578]} إلى غير ذلك من الأمثلة ، ذكر ذلك أبو الفتح{[3579]} ، والقراءة بتعريف «الرسل » أوجه في الكلام ، وقوله تعالى : { أفإن مات } الآية ، دخلت ألف الاستفهام على جملة الكلام على الحد الذي يخبر به ملتزمه ، لأن أقبح الأحوال أن يقولوا : إن مات محمد أو قتل انقلبنا ، فلما كان فعلهم ينحو هذا المنحى وقفوا على الحد الذي به يقع الإخبار ، وقال كثير من المفسرين : ألف الاستفهام دخلت في غير موضعها ، لأن الغرض إنما هو : أتنقلبون على أعقابكم إن مات محمد ؟ فالسؤال إنما هو عن جواب الشرط .

قال الفقيه القاضي أبو محمد : وبذلك النظرالذي قدمته يبين وجه فصاحة دخول الألف على الشرط ، وذلك شبيه بدخول ألف التقريب في قوله : { أو لو كان آباؤهم }{[3580]} ونحوه من الكلام ، كأنك أدخلت التقرير على ما ألزمت المخاطب أنه يقوله ، والانقلاب على العقب يقتضي التولي عن المنقلب عنه ، ثم توعد تعالى المنقلب على عقبه بقوله تعالى : { فلن يضر الله شيئاً } لأن المعنى فإنما يضر نفسه وإياها يوبق ، ثم وعد الشاكرين وهم الذين صدقوا وصبروا ولم ينقلب منهم أحد على عقبيه بل مضى على دينه قدماً حتى مات ، فمنهم سعد بن الربيع{[3581]} وتقضي بذلك وصيته إلى الأنصار ، ومنهم أنس بن النضر ، ومنهم الأنصاري الذي ذكر الطبري عنه بسند أنه مر عليه رجل من المهاجرين ، والأنصاريّ يتشحط في دمه ، فقال : يا فلان أشعرت أن محمداً قد قتل : فقال الأنصاري : إن كان محمد قد قتل فإنه قد بلغ ، فقاتلوا عن دينكم .

قال الفقيه أبو محمد : فهؤلاء أصحاب النازلة يومئذ صدق فعلهم قولهم : ثم يدخل في الآية الشاكرون إلى يوم القيامة : قال ابن إسحاق معنى { وسيجزي الله الشاكرين } أي من أطاعه وعمل بأمره ، وذكر الطبري بسند عن علي بن أبي طالب وذكر غيره : أنه قال في تفسير هذه الآية : «الشاكرون » : الثابتون على دينهم ، أبو بكر وأصحابه وكان يقول : أبو بكر أمير الشاكرين ، وهذه عبارة من علي بن أبي طالب رضي الله عنه إنما هي إلى صدع أبي بكر رضي الله عنه بهذه الآية في يوم موت النبي عليه السلام وثبوته في ذلك الموطن ، وثبوته في أمر الردة ، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قبض وشاع موته ، هاج المنافقون وتكلموا ، وهموا بالاجتماع والمكاشفة ، أوقع الله تعالى في نفس عمر رضي الله عنه أن النبي لم يقبض فقام بخطبته المشهورة المخوفة للمنافقين برجوع النبي عليه السلام ، ففت ذلك في أعضاد المنافقين وتفرقت كلمتهم ثم جاء أبو بكر بعد أن نظر إلى النبي عليه السلام فسمع كلام عمر فقال له : اسكت ، فاستمر عمر في كلامه فتشهد أبو بكر فأصغى الناس إليه ، فقال : أما بعد فإنه من كان يعبد الله تعالى ، فإن الله حي لا يموت ومن كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات ، { وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل } ، وتلا الآية كلها ، فبكى الناس ولم يبق أحد إلا قرأ الآية كأن الناس ما سمعوها قبل ذلك اليوم ، قالت عائشة رضي الله عنها في البخاري : فنفع الله بخطبة عمر ، ثم بخطبة أبي بكر .

قال الفقيه الإمام أبو محمد : فهذا من المواطن التي ظهر فيها شكر أبي بكر وشكر الناس بسببه .


[3576]:- هو حطان بن عبد الله الرقاشي البصري، ويقال: السدوسي، كبير القدر، صاحب زهد وورع وعلم، قرأ على أبي موسى الأشعري عرضا، وقرأ عليه عرضا الحسن البصري، مات سنة نيف وسبعين، وهو ثقة، قليل الحديث، (طبقات القراء للجزري 1/253. وتهذيب التهذيب).
[3577]:- من الآية (13) من سورة سبأ.
[3578]:- من الآية (40) من سورة هود.
[3579]:- انظر المحتسب 1/168.
[3580]:- تكررت في سورة البقرة في الآية (170) وفي سورة المائدة في الآية (104).
[3581]:- هو سعيد بن الربيع بن عمرو الأنصاري الخزرجي، أحد نقباء الأنصار، كان كاتبا في الجاهلية، شهد العقبة الأولى و الثانية وبدرا، وقتل يوم أحد شهيدا، أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يلتمس عن خبره أهو في الأحياء أم في الأموات، فوجده المتطوع للبحث عنه به رمق، فقال له: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم لآتيه بخبرك، فقال له سعد: اذهب إليه فأقرئه مني السلام، وأخبره أني قد طعنت اثنتي عشرة طعنة، وأني قد نفذت مقاتلي، وأخبر قومك أنهم لا عذر لهم عند الله إن قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم وواحد منهم حي، فلما أخبر صلى الله عليه وسلم بحالته قال: نصح لله ولرسوله حيا وميتا. (الإصابة والاستيعاب).
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٞ قَدۡ خَلَتۡ مِن قَبۡلِهِ ٱلرُّسُلُۚ أَفَإِيْن مَّاتَ أَوۡ قُتِلَ ٱنقَلَبۡتُمۡ عَلَىٰٓ أَعۡقَٰبِكُمۡۚ وَمَن يَنقَلِبۡ عَلَىٰ عَقِبَيۡهِ فَلَن يَضُرَّ ٱللَّهَ شَيۡـٔٗاۚ وَسَيَجۡزِي ٱللَّهُ ٱلشَّـٰكِرِينَ} (144)

عطف الإنكار على الملام المتقدّم في قوله تعالى : { أم حسبتم أن تدخلوا الجنة } [ آل عمران : 142 ] وقوله : { ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه } [ آل عمران : 143 ] وكُلّ هاته الجمل ترجع إلى العتاب والتقريع على أحوال كثيرة ، كانت سبب الهزيمة يوم أُحُد ، فيأخذ كُلّ من حضر الوقعة من هذا الملام بنصِيبه المناسب لما يعلمه من حاله ظاهراً كان أم باطناً .

والآية تشير إلى ما كان من المسلمين من الاضطراب حين أرجَف بموت الرّسول صلى الله عليه وسلم فقال المنافقون : لو كان نبيّاً ما قتل ، فارجعوا إلى دينكم القديم وإخوانكم من أهل مكَّة ونكلّم عبد الله بن أبَي يأخذ لنا أماناً من أبي سفيان ، فهمّوا بترك القتال والانضمام للمشركين ، وثبت فريق من المسلمين ، منهم : أنس بن النضر الأنصاري ، فقال : إن كان قُتل محمد فإنّ ربّ محمد حيّ لا يموت ، وما تصنعون بالحياة بعده ، فقاتلوا على ما قاتل عليه .

ومحمد اسم رسول الله محمد بن عبد الله بن عبد المطلب صلى الله عليه وسلم سمَّاه به جدّه عبد المطلب وقيل له : لِمَ سَمّيتَه محمّداً وليس من أسماء آبائك ؟ فقال : رجوت أن يحمده النَّاس . وقد قيل : لم يسمّ أحد من العرب محمداً قبل رسول الله . ذكر السهيلي في « الروض » أنّه لم يُسمّ به من العرب قبل ولادة رسول الله إلاّ ثلاثة : محمد بن سفيان بن مجاشع ، جدّ جدّ الفرزدق ، ومحمد بن أحَيْحَةَ بن الجُلاَح الأوسي . ومحمد بن حمران مِن ربيعة .

وهذا الاسم منقول من اسم مفعول حَمَّده تحميداً إذا أكثر من حمده ، والرسول فَعول بمعنى مَفعول مثل قولهم : حَلُوب ورَكوب وجَزور .

ومعنى { خلت } مضت وانقرضت كقوله : { قد خلت من قبلكم سنن } [ آل عمران : 137 ] وقول امرىء القيس : ( مَن كان في العصر الخالي ) وقَصر محمداً على وصف الرسالة قَصْرَ موصوف على الصفة . قصراً إضافياً ، لردّ ما يخالف ذلك ردّ إنكار ، سواء كان قصر قلب أو قصر إفراد .

والظاهر أنّ جملة { قد خلت من قبله الرسل } صفة « لرسول » ، فتكون هي محطّ القصر : أي ما هو إلاّ رسول موصوف بخلوّ الرسل قبله أي انقراضهم . وهذا الكلام مسوق لردّ اعتقاد من يعتقد انتفاء خلوّ الرسلِ مِن قبله ، وهذا الاعتقاد وإن لم يكن حاصلاً لأحد من المخاطبين ، إلاّ أنَّهم لمّا صدر عنهم ما من شأنه أن يكون أثراً لهذا الاعتقاد ، وهو عزمهم على ترك نصرة الدّين والاستسلام للعدوّ كانوا أحرياء بأن ينزلوا منزلة من يعتقد انتفاء خلوّ الرسل مِن قبله ، حيث يجدون أتباعهم ثابتين على مللهم حتّى الآن فكان حال المخاطبين حال من يتوهّم التلازم بين بقاء الملّة وبقاء رسولها ، فيستدلّ بدوام الملّة على دوام رسولها ، فإذا هلك رسول ملّة ظنّوا انتهاء شرعه وإبطال اتّباعه .

فالقصر على هذا الوجه قصر قلب ، وهو قلب اعتقادهم لوازم ضدّ الصّفة المقصور عليها ، وهي خلوّ الرسل قبله ، وتلك اللوازم هي الوهَن والتردّد في الاستمرار على نشر دعوة الإسلام ، وبهذا يشعر كلام صاحب « الكشّاف » .

وجعَل السكاكي المقصور عليه هو وصف الرسالة فيكون محطّ القصر هو قوله : « رسول » دون قوله : { قد خلت من قبله الرسل } ويكون القصر قصرَ إفْراد بتنزيل المخاطبين منزلة من اعتقد وصفه بالرسالة مع التنزّه عن الهلاك ، حين رتَّبوا على ظنّ موته ظنوناً لا يفرضها إلاّ من يعتقد عصمته من الموت ، ويكون قوله : { قد خلت من قبله الرسل } على هذا الوجه استئنافاً لا صفة ، وهو بعيد ، لأنّ المخاطبين لم يصدر منهم ما يقتضي استبعاد خبر موته ، بل هم ظنّوه صدقاً .

وعلى كلا الوجهين فقد نُزّل المخاطبون منزلَة من يَجهل قصر الموصوف على هذه الصفة وينكره ، فلذلك خوطبوا بطريق النَّفي والاستثناء ، الَّذي كثر استعماله في خطاب من يجهل الحكم المقصورَ عليه وينكره دون طريق ، إنَّما كما بيّنه صاحب « المفتاح » .

وقوله : { أفإين مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم } عطف على قوله : { وما محمد إلا رسول } إلخ . . . والفاء لتعقيب مضمون الجملة المعطوف عليها بمضمون الجملة المعطوفة ، ولمَّا كان مضمون الجملة المعطوفة إنشاء الاستفهام الإنكاري على مضمونها ، وهو الشرط وجزاؤه ، لم يكن للتعقيب المفاد من فاء العطف معنى إلاّ ترتّب مضمون المعطوفة على المعطوف عليها ، ترتّب المسبّب على السبب ، فالفاء حينئذ للسببية ، وهمزة الاستفهام مقدّمة من تأخير ، كشأنها مع حروف العطف ، والمعنى ترتّب إنكار أن ينقبلوا على أعقابهم على تحقّق مضمون جملة القصر : لأنّه إذا تحقّق مضمون جملة القصر ، وهو قلب الاعتقاد أو إفرادُ أحد الاعتقادين ، تسبّب عليه أن يكون انقلابهم على الأعقاب على تقدير أن يموت أو يقتل أمراً منكراً جديراً بعدم الحصول ، فكيف يحصل منهم ، وهذا الحكم يؤكِّد ما اقتضته جملة القصر ، من التعريض بالإنكار عليهم في اعتقادهم خلاف مضمون جملة القصر ، فقد حصل الإنكار عليهم مرتين : إحداهما بالتَّعريض المستفاد ، من جملة القصر ، والأخرى بالتَّصريح الواقع في هاته الجملة .

وقال صاحب « الكشاف » : الهمزة لإنكار تسبّب الانقلاب على خلوّ الرسول ، وهو التسّبب المفاد من الفاء أي إنكار مجموع مدلول الفاء ومدلول مدخولها مثل إنكار الترتّب والمهلة في قوله تعالى : { أثم إذا ما وقع آمَنْتم به } [ يونس : 51 ] وقول النابغة :

أثُمّ تَعَذّراننِ إلَيّ منهَا *** فإنّي قد سمِعْتُ وقد رأيتُ

بأن أنكر عليهم جعلهم خلوّ الرسل قبله سبباً لارتدادهم عند العلم بموته . وعلى هذا فالهمزة غير مقدّمة من تأخير لأنَّها دخلت على فاء السَّببية . ويَرِد عليه أنَّه ليس علمهم بخلوّ الرسل من قبله مع بقاء أتباعهم متمسكين سبباً لانقلاب المخاطبين على أعقابهم ، وأجيب بأنّ المراد أنَّهم لمَّا علموا خلوّ الرسل من قبله مع بقاء مللهم ، ولم يَجْروا على موجَب علمهم ، فكأنَّهم جعلوا علمهم بذلك سبباً في تحصيل نقيض أثره ، على نحو ما يعرض من فساد الوضع في الاستدلال الجدلي ، وفي هذا الوجه تكلّف وتدقيق كثير .

وذهب جماعة إلى أنّ الفاء لِمجرّد التَّعقيب الذكري ، أو الاستئناف ، وأنَّه عطف إنكار تصريحي على إنكار تعريضي ، وهذا الوجه وإن كان سهلاً غير أنَّه يفيت خصوصية العطف بالفاء دون غيرها ، على أنّ شأن الفاء المفيدة للترتيب الذكري المحض أن يعطف بها الأوصاف نحو { والصافات صفا فالزاجرات زجراً } [ الصافات : 1 ، 2 ] أو أسماء الأماكن نحو قوله :

بَيْنَ الدّخول فحَوْمَل *** فتُوضِحَ فالمقراة . . إلخ

والانقلاب : الرجوع إلى المكان ، يقال : انقلب إلى منزله ، وهو هنا مجاز في الرجوع إلى الحال الَّتي كانوا عليها ، أي حال الكفر . و { على } للاستعلاء المجازي لأنّ الرجوع في الأصل يكونُ مُسبَّباً على طريق . والأعقاب جمع عقب وهو مؤخّر الرّجل ، وفي الحديث « وَيْل للأعقاب من النَّار » والمراد منه جهة الأعقاب أي الوراء .

وقوله : { ومن ينقلب على عاقبيه فلن يضر الله شيئاً } أي شيئاً من الضر ، ولو قليلاً ، لأنّ الارتداد عن الدّين إبطال لما فيه صلاح النَّاس ، فالمرتدّ يضرّ بنفسه وبالنَّاس ، ولا يضرّ الله شيئاً ، ولكن الشاكر الثَّابت على الإيمان يجازي بالشكر لأنَّه سعى في صلاح نفسه وصلاح النَّاس ، والله يحبّ الصلاح ولا يحبّ الفساد .

والمقصود من الآية العتاب على ما وقع من الاضطراب ، والثناءُ على الَّذين ثبتوا ووعظوا النَّاس ، والتحذيرُ من وقوع الارتداد عند موت الرسول عليه السَّلام ، وقد وقع ما حذّرهم الله منه بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم إذا ارتد كثير من المسلمين ، وظنّوا اتِّباعَ الرسول مقصوراً على حياته ، ثُمّ هداهم الله بعد ذلك ، فالآية فيها إنباء بالمستقبل .