التفسير الشامل لأمير عبد العزيز - أمير عبد العزيز  
{وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٞ قَدۡ خَلَتۡ مِن قَبۡلِهِ ٱلرُّسُلُۚ أَفَإِيْن مَّاتَ أَوۡ قُتِلَ ٱنقَلَبۡتُمۡ عَلَىٰٓ أَعۡقَٰبِكُمۡۚ وَمَن يَنقَلِبۡ عَلَىٰ عَقِبَيۡهِ فَلَن يَضُرَّ ٱللَّهَ شَيۡـٔٗاۚ وَسَيَجۡزِي ٱللَّهُ ٱلشَّـٰكِرِينَ} (144)

قوله تعالى : ( وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابا مؤجلا ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها وسنجزي الشاكرين ) .

قال ابن عباس وآخرون في سبب نزول هذه الآية : لما نزل النبي صلى الله عليه و سلم بأحد أمر الرماة أن يلزموا أصل الجبل ، وأن لا ينتقلوا عن سواء كان الأمر لهم أو عليهم .

فلما وقفوا وحملوا على الكفار وهزموهم وقتل علي طلحة بن أبي طلحة صاحب لوائهم ، وشد الزبير والمقداد على المشركين ، وحمل النبي ومعه الصحابة فهزموا أبا سفيان . ولما رأى بعض المسلمين انهزام الكفار بادر قوم من الرماة إلى الغنيمة ، وكان خالد بن الوليد صاحب ميمنة الكفار ، فلما رأى تفرق الرماة حمل على المسلمين فهزمهم وفرق جمعهم وكثر القتل في المسلمين ، ورمى عبد الله بن قميئة فظن أنه قتل رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : قد قتلت محمدا . وصرخ صارخ : ألا إن محمدا قد قتل ، وكان الصارخ هو الشيطان . ففشا في الناس خبر القتل ، وحينئذ تعثر المسلمون واضطرب حالهم ، فقال بعضهم : ليت عبد الله بن أبي بن سلول يأخذ لنا أمانا من أبي سفيان . وقال قوم من المنافقين : لو كان نبيا لما قتل ارجعوا إلى إخوانكم وإلى دينكم . فقال أنس بن النضر : يا قوم إن كان قد قتل محمد فإن رب محمد لا يموت وما تصنعون بالحياة بعد رسول الله صلى الله عليه و سلم ؟ قاتلوا على ما قاتل عليه وموتوا على ما مات عليه . ومر بعض المهاجرين بأنصاري يتشحط في دمه ، فقال : يا فلان أشعرت أن محمدا قد قتل ؟ فقال : إن كان قد قتل فقد بلّغ ، قاتلوا على دينكم . ولما شج ابن قميئة وجه رسول الله صلى الله عليه و سلم وكسر رباعيته ، احتمله طلحة بن عبيد الله ودافع عنه أبو بكر وعلي رضي الله عنهم ونفر آخرون معهم{[603]} .

قوله : ( وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل ) الآية . ( ما ) نافية . ( محمد ) مبتدأ ، ( رسول ) خبره . يبين الله في ذلك أن الرسل جميعا ليسوا باقين ولا مخلدين على وجه هذه الأرض ، بل إنهم سيرحلون عن هذه الدنيا ليمضوا إلى رحاب الله . وتلك سنة الله في العباد ومنهم رسل الله ، ومحمد صلى الله عليه و سلم أحد الرسل الذين خلوا ( مضوا ) وسيخلوا هو مثلما خلوا . وإن كان المرسلون السابقون قد خلوا فإن أتباعهم لم يستنكفوا عن الحق بل ظلوا مستمسكين بدين الله . فعليكم أن تمسكوا بدين نبيكم بعد خلوه ؛ لأن الغرض من بعثه الرسل هو تبليغ الرسالة وإلزام الحجة وليس الغرض وجودهم بين قومهم أبدا .

قوله : ( أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ) الهمزة للاستفهام الإنكاري والفاء للسببية . والمعنى : أتنقلبون على أعقابكم إن مات محمدا أو قتل ؟ وانقلابهم على أعقابهم يراد به رجوعهم القهقرى . أو إدبارهم عما كان عليه رسول الله صلى الله عليه و سلم من أمر الجهاد وغيره من الدعوة إلى الله . وقيل : معناه الارتداد أي صيرورتهم كفارا بعد أن كانوا مؤمنين . والأعقاب مفرده العقب وهو مؤخر القدم . والمراد بالانقلاب على الأعقاب : الانهزام والتراجع . ويقال لمن عاد إلى ما كان عليه : انقلب على عقبيه .

قوله : ( ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا ) ذلك وعيد من الله للمنقلبين على أعقابهم المدبرين عن القتال أو المرتدين عن الإسلام ، فإن هؤلاء لأن يضروا الله شيئا ؛ العالمين بل هؤلاء لا يضرون إلا أنفسهم إذ يوردون أنفسهم موارد العقاب والخسران .

قوله : ( وسيجزي الله الشاكرين ) وهم الذين صبروا وقاتلوا ولم ينقلبوا على أعقابهم ، فهم بذلك شاكرون ؛ لأنهم شكروا الله على إسلامهم وعلى ثباتهم على الإيمان وشدة تمسكهم به . وهم من أمثال أبي بكر وأنس بن النضر وعمر وعلي رضي الله عنهم جميعا .


[603]:- تفسير الرازي جـ 9 ص 21 ، 22.