السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٞ قَدۡ خَلَتۡ مِن قَبۡلِهِ ٱلرُّسُلُۚ أَفَإِيْن مَّاتَ أَوۡ قُتِلَ ٱنقَلَبۡتُمۡ عَلَىٰٓ أَعۡقَٰبِكُمۡۚ وَمَن يَنقَلِبۡ عَلَىٰ عَقِبَيۡهِ فَلَن يَضُرَّ ٱللَّهَ شَيۡـٔٗاۚ وَسَيَجۡزِي ٱللَّهُ ٱلشَّـٰكِرِينَ} (144)

{ وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل } فسيخلو كما خلوا بالموت أو القتل ومحمد هو المستغرق لجميع المحامد ؛ لأنّ الحمد لا يستوجبه إلا الكافل والتحميد فوق الحمد فلا يستحقه إلا المستولي على الأمر في الكمال وأكرم الله تعالى نبيه وصفيه صلى الله عليه وسلم باسمين مشتقين من اسمه جل وعلا محمد وأحمد وفيه يقول حسان بن ثابت :

وشق له من اسمه ليجله *** فذو العرش محمود وهذا محمد

وقوله تعالى : { أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم } إنكار لارتدادهم وانقلابهم على أعقابهم عن الدين لخلوه صلى الله عليه وسلم بموت أو قتل بعد علمهم بخلو الرسل قبله وبقاء دينهم متمسكاً به .

فإن قيل : قوله تعالى : { أفإن مات أو قتل } شك وهو على الله محال ؟ أجيب : بأن المراد أنه سواء وقع هذا أو ذاك فلا تأثير له في ضعف الدين ووجود الارتداد ، قال ابن عباس وأصحاب المغازي : لما رأى خالد بن الوليد الرماة يوم أحد اشتغلوا بالغنيمة ورأى ظهورهم خالية صاح في خيله من المشركين ثم حمل على أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم من خلفهم ، فهزموهم وقتلوهم ورمى عبد الله ابن قمئة رسول الله صلى الله عليه وسلم بحجر فكسر أنفه ورباعيته وشجه في وجهه فأثقله وتفرّق عنه أصحابه ، ونهض رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى صخرة ليعلوها وكان قد ظاهر بين درعين فلم يستطع فجلس تحته طلحة فنهض حتى استوى عليها ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أوجب طلحة » ووقعت هند والنسوة معها يمثلن بالقتلى من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يجدعن الآذان والأنوف حتى اتخذت هند من ذلك قلائد وأعطتها وحشياً وبقرت عن كبد حمزة فلاكتها فلم تستطع أن تسيغها فلفظتها وأقبل عبد الله بن قمئة يريد قتل النبيّ صلى الله عليه وسلم فذب مصعب بن عمير وهو صاحب راية النبيّ صلى الله عليه وسلم فقتله ابن قمئة وهو يرى أنه قتل النبيّ صلى الله عليه وسلم فرجع وقال : إني قتلت محمداً وصاح صارخاً ، ألا إن محمداً قد قتل فقيل : إن ذلك الصارخ كان إبليس فانكفأ الناس وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو الناس : ( إليّ عباد الله إليّ عباد الله ) فاجتمع إليه ثلاثون رجلاً فحموه حتى كشفوا عنه المشركين ، ورمى سعد بن أبي وقاص حتى اندقت سية قوسه ونثل له رسول الله صلى الله عليه وسلم كنانته فقال : «ارم فداك أبي وأمي ) .

وكان أبو طلحة رجلاً رامياً شديد النزع كسر يومئذٍ قوسين أو ثلاثاً ، فكان الرجل يمرّ ومعه جعبته من النبل فيقول : انثرها لأبي طلحة وكان إذا رمى يشرف النبيّ صلى الله عليه وسلم فينظر إلى موضع نبله وأصيبت يد طلحة بن عبيد الله فيبست وقى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصيبت عين قتادة بن النعمان يومئذٍ حتى وقعت على وجنته فردّها رسول الله صلى الله عليه وسلم مكانها ، فعادت كأحسن ما كانت ، فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم أدركه أبيّ بن خلف الجمحي وهو يقول : لا نجوت ، لا نجوت ، فقال القوم : يا رسول الله ألا يعطف عليه رجل منا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( دعوه حتى إذا دنا منه وكان أبيّ قبل ذلك يلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول : عندي رمكة أعلفها يوم فرق ذرة أقتلك عليها ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «بل أنا أقتلك إن شاء الله » فلما دنا منه تناول رسول الله صلى الله عليه وسلم الحربة من الحارث بن الصمة ثم استقبله فطعنه في عنقه وخدشه خدشة فتدهده عن فرسه وهو يخور كما يخور الثور وهو يقول : قتلني محمد واحتمله أصحابه وقالوا : ليس عليك بأس قال : بلى لو كانت هذه الطعنة بربيعة ومضر لقتلتهم أليس قال لي : أقتلك فلو بزق عليّ بعد تلك المقالة لقتلني فلم يلبث إلا يوماً حتى مات بموضع يقال له سرف ) .

قال ابن عباس : اشتدّ غضب الله على من قتله نبيّ ، واشتدّ غضب الله على من رمى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : وفشا في الناس أن محمداً قد قتل ، فقال بعض المسلمين : ليت لنا رسولاً إلى عبد الله بن أبي فيأخذ لنا أماناً من أبي سفيان وبعض الصحابة جلسوا وألقوا بأيديهم وقال أناس من أهل النفاق : إن كان محمد قد قتل فالحقوا بدينكم الأوّل ، فقال أنس بن مالك بن النضر : يا قوم إن كان محمد قد قتل ، فإن رب محمد لم يقتل وما تصنعون في الحياة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقاتلوا على ما قاتل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وموتوا على ما مات عليه ثم قال : اللهمّ إني أعتذر إليك مما يقول هؤلاء يعني المسلمين وأبرأ إليك مما جاء به هؤلاء يعني المنافقين ثم شدّ بسيفه فقاتل حتى قتل ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم انطلق إلى الصخرة وهو يدعو الناس ، فأوّل من عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم كعب بن مالك وقال : عرفت عينيه تحت المغفر تزهران فناديت بأعلى صوتي : يا معشر المسلمين أبشروا هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم «فأشار إليّ أن أمسك » فانحازت إليه طائفة من أصحابه فلامهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على الفرار ، فقالوا : يا نبيّ الله فديناك بآبائنا وأمّهاتنا أتانا الخبر بأنك قد قتلت فرعبت قلوبنا فولينا مدبرين ، فأنزل الله تعالى هذه الآية .

فإن قيل : إنه تعالى بيّن في آيات كثيرة أنه عليه الصلاة والسلام لا يقتل فقال : { إنك ميت وإنهم ميتون } ( الزمر ، 30 ) وقال : { والله يعصمك من الناس } ( المائدة ، 67 ) وقال : { ليظهره على الدين كله } ( التوبة ، 33 )

وإذا علم أنه لا يقتل فلم قال أو قتل ؟ أجيب : بأن هذا ورد على سبيل الإلزام ، فإن موسى عليه الصلاة والسلام مات ولم ترجع أمّته عن دينه ، والنصارى زعموا أن عيسى عليه الصلاة والسلام قتل ولم يرجعوا عن دينه فكذا ههنا { ومن ينقلب على عقبيه فلن يضرّ الله شيئاً } بارتداده وإنما يضرّ نفسه { وسيجزي الله الشاكرين } على نعمة الإسلام بالثبات عليه كأنس وأضرابه .