الهداية إلى بلوغ النهاية لمكي بن ابي طالب - مكي ابن أبي طالب  
{وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٞ قَدۡ خَلَتۡ مِن قَبۡلِهِ ٱلرُّسُلُۚ أَفَإِيْن مَّاتَ أَوۡ قُتِلَ ٱنقَلَبۡتُمۡ عَلَىٰٓ أَعۡقَٰبِكُمۡۚ وَمَن يَنقَلِبۡ عَلَىٰ عَقِبَيۡهِ فَلَن يَضُرَّ ٱللَّهَ شَيۡـٔٗاۚ وَسَيَجۡزِي ٱللَّهُ ٱلشَّـٰكِرِينَ} (144)

قوله : ( وَمَا مُحَمَّدٌ اِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ )( {[10951]} ) الآية [ 144 ] .

معنى الآية أن الله أخبرهم أن محمداً كبعض رسله المتقدمين في الرسالة والدعاء ، الذين قد مضوا وخلوا ، فلما حضرت آجالهم ماتوا فمحمد صلى الله عليه وسلم مثلهم ميت عند انقضاء أجله ، وهذا إنما هو معاتبة من الله المؤمنين على ما كان منهم من الهلع والجزع حين قيل في( {[10952]} ) أحد إن محمد صلى الله عليه وسلم قد قتل ، ومقبحاً لهم انهزام من انهزم منهم حين سمع ذلك .

ومعنى : ( انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ )( {[10953]} ) أي : ارتددتم عن دينكم لو مات ، وهل هو إلا مثل من تقدمه من الرسل ميت عند انقضاء أجله ؟ فلو مات أكنتم تكفرون ؟

( وَمَن يَّنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ ) أي : من يرتدد عن دينه ( فَلَنْ يَّضُرَّ اللَّهَ ) سبحانه ارتداده . وفي لفظ الاستفهام( {[10954]} ) تقديم وتأخير ، وذلك أنهم إنما وبخوا وعوذلوا( {[10955]} ) على الانقلاب على العقبين( {[10956]} ) ، فهم لم ينكروا موت محمد صلى الله عليه وسلم فيقع عليه لفظ الاستفهام الذي يدل على التوبيخ ، ولا أنكر عليهم ذلك ، إنما أنكر عليهم وهو انقلابهم ، ومثله ( أَفَإِيْنَ مِّتَّ( {[10957]} ) فَهُمُ الخَالِدُونَ )( {[10958]} ) لم يستفهم عن الموت وإنما استفهم عن خلودهم بعد موت محمد صلى الله عليه وسلم ؟ أيكون أم لا ؟ فحق الاستفهام أن يقع عليهم ، فيكون : أفهم الخالدون إن مت ؟ وكذلك هذا حقه . أتنقلبون على أعقابكم إن مات محمد أو قتل ؟ ففيه اتساع معروف في كلام العرب مشهور قد علم معناه( {[10959]} ) . والأصل في ذلك أن كل استفهام دخل على حرف الجزاء ، فالاستفهام في غير موضعه وحقه ، وموضعه أن يكون قبل جواب الشرط داخلاً على الجواب ، فهذا تقديره حيث وقع( {[10960]} ) .

أو قولهم ( وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ ) أي : وسيثيب الله عز وجل من شكره على هدايته له ، وتوفيقه إياه .

قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : أبو بكر أمير الشاكرين ، فالآية إنما نزلت فيمن انهزم بأحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم . قال قتادة : لما كان يوم أحد من الشناعة( {[10961]} ) ما كانت( {[10962]} ) في قتل النبي صلى الله عليه وسلم قال ناس : لو كان نبياً ما قتل( {[10963]} ) .

وقال ناس من علية أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : قاتلوا على ما قاتل عليه نبيكم حتى يفتح الله ، أو تلحقوا به ، فأنزل الله تبارك وتعالى في عتاب من قال : لو كان نبياً ما قتل ( وَمَا مُحَمَّدٌ اِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ )( {[10964]} ) .

وذكر الربيع أن رجلاً من المهاجرين مر على( {[10965]} ) رجل من الأنصار وهو يتشحط( {[10966]} ) في دمه ، فقال : يا فلان أشعرت أن محمداً صلى الله عليه وسلم قد قتل ؟ فقال الأنصاري : وإن كان محمد صلى الله عليه وسلم قد قتل فقد بلغ ، فقاتلوا عن دينكم( {[10967]} ) .

قال السدي : لما برز رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم يوم أحد بعد صلاة الجمعة يوم الجمعة( {[10968]} ) ، أمر الرماة فقاموا في أصل الجبل في وجوه خيل المشركين . وقال لهم : لا تبرحوا مكانكم إن رأيتمونا قد هزمناهم( {[10969]} ) ، فإنا لن نزال غالبين ما ثبتم مكانكم ، وأمر عليهم عبد الله بن جبير( {[10970]} ) أخا خوات( {[10971]} ) ، ثم شد الزبير بن العوام والمقداد بن الأسود( {[10972]} ) على المشركين فهزموهم وحمل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فهزموهم وهزموا أبا سفيان .

فلما رأى ذلك خالد بن الوليد وهو على خيل المشركين حمل فرمته الرماة من المسلمين ، فانقطع ، فلما نظر الرماة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه في جوف عسكر المشركين ينهبونه بادروا الغنيمة ، فقال بعضهم لبعض : لا تتركوا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وانطلق عامتهم فلحقوا بالمعسكر فلما رأى خالد قلة من بقي من الرماة صاح فيه خيله ، ثم حمل فقتل الرماة ، وحمل على أصحاب محمد ، فلما رأى المشركون( {[10973]} ) خيلهم تقاتل شدوا على المسلمين وتنادوا فقتلوا من المسلمين عدداً ، وأتى ابن قميئة الحاري فرمى [ رسول الله صلى الله عليه وسلم بحجر فكسر رباعيته ، وشجه في وجهه ، وتفرق عن النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه ، فدخل بعضهم المدينة ، وصعد بعضهم الجبل إلى الصخرة فقاموا عليها وجعل ]( {[10974]} ) رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوا الناس ويقول : [ إلي عباد الله ] فاجتمع إليه ثلاثون رجلاً ، وجعلوا يسيرون بين يديه ، ولم( {[10975]} ) يقف أحد إلا طلحة( {[10976]} ) وسهل بن حنيف( {[10977]} ) ، وأقبل أبي بن خلف الجمحي( {[10978]} ) وقد حلف ليقتلن النبي صلى الله عليه وسلم فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : بل أنا أقتلك( {[10979]} ) فقال : يا كذاب ، أين تفر ؟ فحمل عليه فطعنه النبي صلى الله عليه وسلم طعنة في الدرع ، فجرحة فوقع يخور خوار الثور ، فحمله( {[10980]} ) المشركون وقالوا : ليس بك بأس ، فما يجزعك ؟ فقال : أليس قال : لأقتلنك( {[10981]} ) ، لو كانت الضربة لجميع ربيع ومضر لقتلتهم فلم يلبث حتى مات [ و ]( {[10982]} ) فشا في الناس أن محمداً صلى الله عليه وسلم قد قتل فقال بعض أصحاب الصخرة : ليتنا أخذنا من المشركين أماناً ، وضعفوا( {[10983]} ) ، وقال بعضهم : يا قوم إن كان محمد صلى الله عليه وسلم قد قتل ، فإن رب محمد صلى الله عليه وسلم لم يُقتل ، فقاتلوا على ما قاتل عليه نبيكم صلى الله عليه وسلم اللهم إنا نعتذر إليك مما قال هؤلاء( {[10984]} ) .

ويروى أن الذي قال ذلك واعتذر : أنس بن النضر( {[10985]} ) ، ثم اشتد بسيفه فقاتل حتى قتل( {[10986]} ) . وانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو حتى أتى أصحاب الصخرة فلما رأوه أراد رجل منهم أن يرميه ، ولم يعرفه فقال : أنا رسول الله ، ففرحوا وفرح رسول الله بهم ، وذهب عنهم الحزن وأنزل الله تعالى ( وَمَا مُحَمَّدٌ اِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ ) الآية( {[10987]} ) .

وقال الضحاك : نادى منادٍ( {[10988]} ) يوم أحد : ألا إن محمداً قد قتل فارجعوا إلى دينكم الأول فأنزل الله ( وَمَا مُحَمَّدٌ ) الآية( {[10989]} ) .


[10951]:- هذا استمرار في عتاب المنهزمين في غزوة أحد، وإقامة لحجة الله عليهم، انظر: المحرر 3/142 والجامع للأحكام 4/222.
[10952]:- (ب) و(د): بأحد.
[10953]:- الأعقاب جمع عقب وهو مؤخر الرحل، انظر: اللسان عقب 1/611.
[10954]:- (أ): استفهام.
[10955]:- (أ): عودوا.
[10956]:- (أ): القبين.
[10957]:- (أ): مات وهو خطأ.
[10958]:- الأنبياء آية 34.
[10959]:- انظر: الكتاب 2/419 و3/173، وانظر: معاني الزجاج 1/474 وإعراب النحاس 1/368 والإملاء 1/88 والمغني لابن هشام 10.
[10960]:- انظر: معاني الفراء 1/236.
[10961]:- لعل الكلمة هي: الإشاعة. [المدقق].
[10962]:- (أ): كنت وهو تحريف.
[10963]:- انظر: جامع البيان 4/11.
[10964]:- انظر: المصدر السابق.
[10965]:- (ج): علينا وهو تحريف.
[10966]:- يقال: تشحط المقتول في دمه إذا تخبط فيه واضطراب، انظر: اللسان (شحط) 7/328.
[10967]:- انظر: جامع البيان 4/112 والدر المنثور 2/335.
[10968]:- كذا في جميع النسخ، وهل هناك صلاة للجمعة في غير الجمعة...؟
[10969]:- (ب) (د): هازمناهم فهازمناهم.
[10970]:- عبد الله بن جبير بن النعمان الأنصاري توفي 3 هـ شهد العقبة وبدراً وكان أمير الرماة يوم أحد وفيها قتل. انظر: أسد الغابة 3/90.
[10971]:- انظر: جامع البيان 4/111.
[10972]:- المقداد بن الأسود توفي 33 هـ من أبطال الصحابة وهو أحد السبعة الذين أظهروا إسلامهم شهد بدراً وأُحداً. انظر: صفة الصفوة 1/423.
[10973]:- (ب) (د): المشركين وهو خطأ.
[10974]:- ساقط من (د).
[10975]:- (ب) (د): فلم، ومعنى ولم يقف: ولم يثبت.
[10976]:- هو أبو محمد طلحة بن عبد الله بن عثمان القرشي توفي 36 هـ أحد العشرة المبشرين بالجنة. انظر: صفة الصفوة 1/336.
[10977]:- سهل بن حنيف توفي 38 هـ أنصاري أوسي. انظر: أسد الغابة 2/318.
[10978]:- أُبي بن خلف الجمحي توفي 3 هـ أدرك الإسلام ولم يسلم. انظر: طبقات ابن سعد 1/225 والكامل لابن الأثير 2/48.
[10979]:- في كل النسخ اقتله وهو خطأ.
[10980]:- (ب) و(د): وحمله.
[10981]:- انظر: سيرة ابن هشام 2/84.
[10982]:- ساقط من (ب) (ج) (د).
[10983]:- انظر: كتاب المغازي 1/216.
[10984]:- انظر: جامع البيان 4/112.
[10985]:- هو أنس بن النضر بن ضمضم من بني عدي توفي 3 هـ، عم أنس بن مالك انظر: صفة الصفوة 1/623 وأسد الغابة 1/155.
[10986]:- انظر: جامع البيان 4/113.
[10987]:- انظر: سيرة ابن هشام 2/54.
[10988]:- (ج): نادى منادياً.
[10989]:- انظر: جامع البيان 4/113.