الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٞ قَدۡ خَلَتۡ مِن قَبۡلِهِ ٱلرُّسُلُۚ أَفَإِيْن مَّاتَ أَوۡ قُتِلَ ٱنقَلَبۡتُمۡ عَلَىٰٓ أَعۡقَٰبِكُمۡۚ وَمَن يَنقَلِبۡ عَلَىٰ عَقِبَيۡهِ فَلَن يَضُرَّ ٱللَّهَ شَيۡـٔٗاۚ وَسَيَجۡزِي ٱللَّهُ ٱلشَّـٰكِرِينَ} (144)

قوله تعالى : { وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ } : " ما " نافيةٌ ولا عملَ لها هنا مطلقاً أعني على لغة الحجازيين والتميميين ، لأنَّ التميميين لا يُعْملونها البتة ، والحجازيون يُعْملونها بشروط منها : ألاَّ ينتقضَ النفيُ ب " إلا " ، إذ يزول السبب الذي عَمِلَتْ لأجله وهو شَبَهُها ب " ليس " في نفي الحال ، فيكونُ " محمد " مبتدأً ، و " رسول " خبرَه ، هذا هو مذهب الجمهور ، أعني إهمالَها إذا نُقِضَ نفيُها ، وقد أجاز إعمالَها منتقضةً النفيِ بإلاَّ يونس

وأنشد :

وما الدهرُ إلا منجَنوناً بأهلِه *** وما صاحبُ الحاجات إلا مُعَذَّبا

فَنَصَبَ " منجنوناً " و " مُعَذَباً " على خبرِ " ما " ، وهما بعدَ " إلاَ " ، ومثلُه قول الآخر :

وما حَقُّ الذي يَعْتُو نهاراً *** ويَسْرِقُ ليلَه إلاَّ نَكالا

ف " حق " اسمُ " ما " و " نَكالاً " خبرُها . وتأوَّلَ الجمهور هذه الشواهدَ على أنَّ الخبرَ محذوفٌ ، وهذا المنصوبُ معمولٌ لذلك الخبر المحذوفِ والتقديرُ : وما الدهرُ إلاَّ يدورُ دورانَ منجنون ، فحُذِفَ الفعلُ الناصبُ ل " دوران " ، ثم حُذِفَ المضافُ وأُقيم المضافُ إليه مُقامه في الإِعراب ، وكذا " إلا معذباً " تقديره : يُعَذَّب تعذيباً ، فَحُذِفَ الفعل وأُقيم " مُعَذَّباً " مُقامَ " تَعْذيب " كقولِه : { وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ } [ سبأ : 19 ] أي : كلَّ تمزيق ، وكذا " إلا نكالاً " وفيه التكلُّفِ ما ترى .

قوله : { قَدْ خَلَتْ } في هذه الجملةِ وجهان ، أظهرهما : أنها في محلِّ رفعٍ صفةً ل " رسولِ " . والثاني : أنها في محل نصب على الحال من الضمير المستكنِّ في " رسول " ، وفيه نظرٌ لجريانِ هذه الصفةِ مَجْرى الجوامد فلا تتحمَّل ضميراً .

و " من قبله " : فيه وجهان أيضاً ، أحدهما : أنه متعلِّقٌ ب " خَلَتْ " . والثاني : أنه متعلق بمحذوفٍ على أنه حال من " الرسل " مُقَّدَماً عليها ، وهي حينئذٍ حالٌ مؤكدة ، لأنَّ ذِكْرَ الخلوِّ يُشْعِرُ بالقبلية . وقرأ ابن عباس : " رسُل " بالتنكير . قال أبو الفتح : " ووجهُها أنه موضعُ تبشيرٍ لامر النبي صلى الله عليه وسلم في أمر الحياة ومكانُ تسوية بينه وبين البشر في ذلك ، وهكذا يُفْعل في أماكن الاقتصاد نحو : { وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ }

[ سبأ : 13 ] { وَمَآ آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ } [ هود : 40 ] وقال أبو البقاء : " وهو قريب من معنى المعرفة " كأنه يُريدُ أنَّ المرادَ بالرسلِ الجنسُ ، فالنكرةُ قريبةٌ منه بهذه الحيِثِيَّةِ ، وقراءةُ الجمهور أَوْلى لأنَّها تَدُلُّ على تفخيمِ الرسل وتعظيمِهم .

قوله : { أَفإِنْ مَّاتَ } الهمزةُ لاستفهام الإِنكار ، والفاءُ للعطف ورتبتُها التقديمُ لأنها حرفُ عطف ، وإنما قُدِّمَت الهمزة لأنَّها لها صَدْرُ الكلام ، وقد تقدَّم تحقيقُ ذلك ، وأنَّ الزمخشري يُقَدِّرُ بينهما فِعْلاً محذوفاً تَعْطِفُ الفاءُ عليه ما بعدَها .

وقال ابن خطيب زَمَلَّكى : " الأوْجَهُ أَنْ يُقَدَّرَ محذوفٌ بعد الهمزة وقيل الفاء تكونُ الفاءُ عاطفةً عليه ، ولو صرح به لقيل : أتؤمنون به مدةَ حياته فإنْ مات ارتدَدْتم فتخالِفوا سُنَنَ اتِّباع الأنبياءِ قبلَكم في ثباتِهم على مِلَلِ أنبيائِهم بعد مَوْتِهم " وهذا هو مذهب الزمخشري ، إلاَّ أنَّ الزمخشري هنا عَبَّر بعبارةٍ لا تقتضي مذهبَه الذي هو حَذْفُ جملةٍ بعد الهمزةِ فإنه قال : " الفاءُ مُعَلَّقةٌ للجملةِ الشرطيةِ بالجملةِ قبلَها على معنى التسبيبِ ، والهمزةُ لإِنكار أَنْ يَجْعَلُوا خُلُوَّ الرسلِ قبلَه سبباً لانقلابِهم على أَعْقابِهم بعدَ هلاكِه بموتٍ أو قَتْلٍ ، مع عِلْمِهِم أَنَّ خُلُوَّ الرسلِ قبله وبقاءَ ديِنهم مُتَمَسَّكاً به يجبُ أَنْ يُجْعَلَ سبباً للتمسك بدين محمد صلى الله عليه وسلم لا للانقلابِ عنه " فظاهرُ هذا الكلام أنَّ الفاءَ عَطَفَتْ هذه الجملةَ المشتملة على الإِنكارِ على ما قبلها من قوله : { قَدْ خَلَتْ } مِنْ غير تقديرِ جملةٍ أخرى .

وقال أبو البقاء قريباً من هذا فإنَّه قال : " الهمزةُ عند سيبويه في موضِعها ، والفاء تدلُّ على تعلُّقِ الشرطِ بما قبله " . انتهى . لا يقال : إنه جَعَل الهمزةَ في موضعِها فيُوهِمُ هذا أنَّ الفاءَ ليست مُقَدَّمَةً عليها لأنه جَعَلَ هذا مقابلاً لمذهبِ يونس ، فإنَّ يونس يزعم أنَّ هذه الهمزةَ في مِثْلِ هذا التركيبِ داخلةٌ على جوابِ الشرط ، فهي في مَذْهَبِه [ في ] غيرِ موضِعها . وسيأتي تحريرُ هذا كلِّه .

و " إنْ " شرطيةٌ . و " ماتَ " و " انقلبتم " شرطٌ وجزاءٌ ، ودخولُ الهمزةِ على أداةِ الشرطِ لا يغيِّر شيئاً مِنْ حكمِها ، وزَعَم يونس أنَّ الفعلَ الثاني الذي هو جزاءُ الشرطِ ليس بجزاءٍ للشرطِ ، إنما هو المُسْتَفْهَمُ عنه ، وأنَّ الهمزةَ داخلةٌ عليه تقديراً فيُنْوى به التقديمُ وحينئذ فلا يكونُ جواباً ، بل الجوابُ محذوفٌ ، ولا بد إذ ذاك من أن يكونَ فعلُ الشرط ماضياً ، إذ لا يُحْذَفُ الجوابُ إلا والشرطُ ماضٍ ، ولا اعتبارَ بالشعرِ فإنه ضرورةٌ ، فلا يجوزُ عندَه أَنْ تقولَ : " أإنْ تُكْرِمْنِي أُكْرِمْك " [ لا بجَزْمهما ولا بجزم الأول ورفع الثاني ] لأنَّ الشرط مضارعٌ ، ولا : " أإن أكرمتني أكرمْك " بجزم " أكرمْك " لأنه ليس الجوابَ بل دالاً عليه ، والنيةُ به التقديمُ ، فإنْ رَفَعْتَ " أكرمك " وقلت : " أإنْ أكرَمْتَني أكرمُك " صَحَّ عنده ، فالتقديرُ عند يونس : آنقلبتم على أعقابِكم إنْ ماتَ محمدٌ ؟ لأنَّ الغرضَ إنكارُ انقلابِهم على أعقابِهم بعد مَوْتِه .

وبقولِ يونس قال كثيرٌ من المفسرين ، فإنَّهم يقولون : ألفُ الاستفهامِ دَخَلَتْ في غير موضعها ، لأنَّ الغرضَ إنما هو : أتنقلبون إنْ ماتَ محمد " . وقال أبو البقاء : " وقال يونُس : الهمزةُ في مثلِ هذا حَقُّها أَنْ تَدْخُلِ على جوابِ الشرطِ تقديرُه : " أتنقلبون إنْ مات " ؛ لأنَّ الغرضَ التنبيهُ أو التوبيخُ على هذا الفعلِ المشروط .

ومذهبُ سيبويه الحقُّ لوجهينِ ، أحدهما : أنك لو قَدَّمْتَ الجوابَ لم يكن للفاءِ وجهٌ إذ لا يَصِحُّ أَنْ تقولَ : " أتزورُوني فإنْ زُرْتُكِ " ، ومنه قولُه تعالى : { أَفَإِنْ مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ } [ الأنبياء : 34 ] ، والثاني : أنَّ الهمزةَ لها صدرٌ الكلام ، و " إنْ " لها صدرُ الكلامِ ، فقد وقعا في موضِعِهما ، والمعنى يَتِمُّ بدخولِ الهمزةِ على جملةِ الشرط والجواب ، لأنهما كالشيءِ الواحد " انتهى . وقد رَدَّ النحويون على يونس بقوله : { أَفَإِنْ مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ } فإنَّ الفاءَ في قولِه : " فهم " تُعَيِّنُ أن يكون جواباً للشرط . ولهذه المسألةِ موضعٌ هو أليقُ بها من هذا الكتاب . وأتى هنا ب " إنْ " التي تقتضي الشك ، والموتُ أمرٌ محقق ، إلا أنه أُورد مَوْرِدَ المشكوك فيه للتردُّدِ بين الموتِ والقتلِ .

قوله : { عَلَى أَعْقَابِكُمْ } فيه و جهان ، أظهرُهما : أنَّه متعلِّقٌ ب " انقلبتم " . والثاني : أنه حالٌ من فاعلِ " انقلبتم " كأنه قيل : انقلبتم راجعين . وقرأ ابن أبي إسحاق : " ومَنْ ينقلِبْ علىعَقِبه " بالإِفراد . و " شيئاً " نُصِبَ على المصدرِ أي : شيئاً مِنَ الضررِ لا قليلاً ولا كثيراً . وقد تقدَّم نظيرُه .