الدر المنثور في التفسير بالمأثور للسيوطي - السيوطي  
{وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٞ قَدۡ خَلَتۡ مِن قَبۡلِهِ ٱلرُّسُلُۚ أَفَإِيْن مَّاتَ أَوۡ قُتِلَ ٱنقَلَبۡتُمۡ عَلَىٰٓ أَعۡقَٰبِكُمۡۚ وَمَن يَنقَلِبۡ عَلَىٰ عَقِبَيۡهِ فَلَن يَضُرَّ ٱللَّهَ شَيۡـٔٗاۚ وَسَيَجۡزِي ٱللَّهُ ٱلشَّـٰكِرِينَ} (144)

أخرج ابن المنذر عن كليب قال : خطبنا عمر فكان يقرأ على المنبر آل عمران ، ويقول : إنها أحدية ، ثم قال : تفرقنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد ، فصعدت الجبل فسمعت يهوديا يقول : قتل محمد فقلت لا أسمع أحدا يقول : قتل محمد إلا ضربت عنقه ، فنظرت فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس يتراجعون إليه ، فنزلت هذه الآية { وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل } .

وأخرج ابن جرير من طريق العوفي عن ابن عباس . أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتزل هو وعصابة معه يومئذ على أكمة والناس يفرون ، ورجل قائم على الطريق يسألهم : ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ وجعل كلما مروا عليه يسألهم فيقولون : والله ما ندري ما فعل ! فقال : والذي نفسي بيده لئن كان قتل النبي صلى الله عليه وسلم لنعطينهم بأيدينا ، إنهم لعشائرنا وإخواننا وقالوا : لو أن محمدا كان حيا لم يهزم ، ولكنه قد قتل ، فترخصوا في الفرار حينئذ . فأنزل الله { وما محمد إلا رسول . . . } الآية كلها .

وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن الربيع في الآية قال : ذلك يوم أحد حين أصابهم ما أصابهم من القتل والقرح ، وتداعوا نبي الله . . . ؟ قالوا : قد قتل . وقال أناس منهم : لو كان نبيا ما قتل . وقال أناس من علية أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : قاتلوا على ما قتل عليه نبيكم حتى يفتح الله عليكم أو تلحقوا به ، وذكر لنا أن رجلا من المهاجرين مر على رجل من الأنصار وهو يتخبط في دمه فقال : يا فلان أشعرت أن محمدا قد قتل ؟ فقال الأنصاري : إن كان محمدا قد قتل فقد بلغ ، فقاتلوا عن دينكم . فأنزل الله { وما محمد إلا رسول الله قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم } يقول : ارتددتم كفارا بعد إيمانكم .

وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة نحوه .

وأخرج ابن جرير عن الضحاك قال : نادى مناد يوم أحد حين هزم أصحاب محمد : أن محمدا قد قتل فارجعوا إلى دينكم الأول ، فأنزل الله { وما محمد إلا رسول . . . } الآية .

وأخرج ابن جرير عن ابن جريج قال : قال أهل المرض والارتياب والنفاق حين فر الناس عن النبي صلى الله عليه وسلم : قد قتل محمد فالحقوا بدينكم الأول . فنزلت هذه الآية { وما محمد إلا رسول . . . } الآية .

وأخرج ابن جرير عن السدي قال : فشا في الناس يوم أحد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قتل ، فقال بعض أصحاب الصخرة : ليت لنا رسولا إلى عبد الله بن أبي ، فيأخذ لنا أمانا من أبي سفيان . يا قوم إن محمدا قد قتل فارجعوا إلى قومكم قبل أن يأتوكم فيقتلونكم . قال أنس بن النضر : يا قوم إن كان محمد قد قتل فإن رب محمد لم يقتل ، فقاتلوا على ما قاتل عليه محمد صلى الله عليه وسلم ، اللهم إني أعتذر إليك مما يقول هؤلاء ، وأبرأ إليك مما جاء به هؤلاء . فشد بسيفه فقاتل حتى قتل . فأنزل الله { وما محمد إلا رسول } الآية .

وأخرج ابن جرير عن القاسم بن عبد الرحمن بن رافع أخي بني عدي بن النجار قال : انتهى أنس بن النضر عم أنس بن مالك إلى عمر وطلحة بن عبيد الله في رجال من المهاجرين والأنصار وقد ألقوا بأيديهم فقال : ما يجلسكم ؟ قالوا : قتل محمد رسول الله قال : فما تصنعون بالحياة بعده ؟ قوموا فموتوا على ما مات عليه رسول الله . واستقبل القوم فقاتل حتى قتل .

وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن عطية العوفي قال : لما كان يوم أحد وانهزموا قال بعض الناس : إن كان محمد قد أصيب فأعطوهم بأيديكم إنما هم إخوانكم . وقال بعضهم : إن كان محمد قد أصيب ألا تمضون على ما مضى عليه نبيكم حتى تلحقوا به . فأنزل الله { وما محمد إلا رسول } إلى قوله { فآتاهم الله ثواب الدنيا } .

وأخرج ابن سعد في الطبقات عن محمد بن شرحبيل العبدري قال : حمل مصعب بن عمير اللواء يوم أحد فقطعت يده اليمنى ، فأخذ اللواء بيده اليسرى وهو يقول { وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم } ثم قطعت يده اليسرى فجثا على اللواء وضمه بعضديه إلى صدره وهو يقول { وما محمد إلا رسول . . } الآية . وما نزلت هذه الآية { وما محمد إلا رسول } يومئذ حتى نزلت بعد ذلك .

وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن مجاهد { ومن ينقلب على عقبيه } قال : يرتد .

وأخرج البخاري والنسائي من طريق الزهري عن أبي سلمة عن عائشة . أن أبا بكر أقبل على فرس من مسكنه بالسخ حتى نزل فدخل المسجد ، فلم يكلم الناس حتى دخل على عائشة ، فتيمم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مغشى بثوب حبرة ، فكشف عن وجهه ثم أكب عليه وقبله وبكى ، ثم قال : بأبي أنت وأمي ، والله لا يجمع الله عليك موتتين ، وأما الموتة التي كتبت عليك فقد متها . قال الزهري : وحدثني أبو سلمة عن ابن عباس أن أبا بكر خرج وعمر يكلم الناس فقال : اجلس يا عمر . وقال أبو بكر : أما بعد من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات ، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت . قال الله { وما محمد إلا رسول } إلى قوله { الشاكرين } فقال : فوالله لكان الناس لم يعلموا أن الله أنزل هذه الآية حتى تلاها أبو بكر ، فتلاها الناس منه كلهم . فما أسمع بشرا من الناس إلا يتلوها .

وأخرج ابن المنذر عن أبي هريرة قال : لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم قام عمر بن الخطاب فقال : إن رجالا من المنافقين يزعمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توفي ، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم - والله - ما مات ، ولكن ذهب إلى ربه كما ذهب موسى بن عمران ، فقد غاب عن قومه أربعين ليلة ثم رجع إليهم بعد أن قيل قد مات . والله ليرجعن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما رجع موسى ، فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم زعموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مات . فخرج أبو بكر فقال : على رسلك يا عمر أنصت . فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : أيها الناس أنه من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات ، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت . ثم تلا هذه الآية { وما محمد إلا رسول } الآية . فوالله لكأن الناس لم يعلموا أن هذه الآية نزلت حتى تلاها أبو بكر يومئذ ، وأخذ الناس عن أبي بكر فإنما هي في أفواههم . قال عمر : فوالله ما هو إلا أن سمعت أبا بكر تلاها فعقرت حتى وقعت إلى الأرض ، ما تحملني رجلاي ، وعرفت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد مات .

وأخرج البيهقي في الدلائل عن عروة قال : لما توفي النبي صلى الله عليه وسلم قام عمر بن الخطاب فتوعد من قال قد مات بالقتل والقطع ، فجاء أبو بكر فقام إلى جانب المنبر وقال : إن الله نعى نبيكم إلى نفسه وهو حي بين أظهركم ، ونعاكم إلى أنفسكم ، فهو الموت حتى لا يبقى أحد إلا الله . قال الله { وما محمد إلا رسول } إلى قوله { الشاكرين } فقال عمر : هذه الآية في القرآن ؟ والله ما علمت أن هذه الآية أنزلت قبل اليوم وقال : قال الله لمحمد صلى الله عليه وسلم ( إنك ميت وإنهم ميتون ) ( الزمر الآية 30 ) .

وأخرج ابن المنذر والبيهقي من طريق ابن عباس أن عمر بن الخطاب قال : كنت أتأول هذه الآية ( وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا ) ( البقرة الآية 143 ) فوالله إن كنت لأظن أنه سيبقى في أمته حتى يشهد عليها بآخر أعمالها ، وأنه هو الذي حملني على أن قلت ما قلت .

وأخرح ابن جرير عن علي بن أبي طالب في قوله { وسيجزي الله الشاكرين } قال : الثابتين على دينهم . أبا بكر وأصحابه ، فكان علي يقول : كان أبو بكر أمين الشاكرين .

وأخرح الحاكم والبيهقي في الدلائل عن الحسن بن محمد قال : " قال عمر : دعني يا رسول الله أنزع ثنيتي سهيل بن عمرو فلا يقوم خطيبا في قومه أبدا فقال : دعها فلعلها أن تسرك يوما . فلما مات النبي صلى الله عليه وسلم نفر أهل مكة ، فقام سهيل عند الكعبة فقال : من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات والله حي لا يموت " .

وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم عن ابن عباس . أن عليا كان يقول في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الله يقول { أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم } والله لا ننقلب على أعقابنا بعد إذ هدانا الله ، والله لئن مات أو قتل لأقاتلن على ما قاتل عليه حتى أموت .

وأخرج ابن المنذر عن الزهري قال : لما نزلت هذه الآية ( ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم ) ( الفتح الآية 4 ) قالوا : يا رسول الله قد علمنا أن الإيمان يزداد فهل ينقص ؟ قال : إي والذي بعثني بالحق إنه لينقص قالوا : يا رسول الله فهل لذلك دلالة في كتاب الله ؟ قال : نعم . ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية { وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم } فالإنقلاب نقصان ولا كفر .