تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{۞كُلُّ ٱلطَّعَامِ كَانَ حِلّٗا لِّبَنِيٓ إِسۡرَـٰٓءِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسۡرَـٰٓءِيلُ عَلَىٰ نَفۡسِهِۦ مِن قَبۡلِ أَن تُنَزَّلَ ٱلتَّوۡرَىٰةُۚ قُلۡ فَأۡتُواْ بِٱلتَّوۡرَىٰةِ فَٱتۡلُوهَآ إِن كُنتُمۡ صَٰدِقِينَ} (93)

قال الإمام أحمد : حدثنا هاشم بن القاسم ، حدثنا عبد الحميد ، حدثنا شَهْر قال : قال ابن عباس [ رضي الله عنه ]{[5306]} حضرت عصابة من اليهود نبيّ الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : حدِّثنا عن خلال نسألك عنهن لا يعلمهن إلا نبي . قال : " سَلُونِي عَمَّا شِئْتُمْ ، وَلَكِنْ اجْعَلُوا لِي ذِمَّةَ اللَّهِ ، وَمَا أَخَذَ يَعْقُوبُ عَلَى بَنِيهِ لَئِنْ أنا حَدَّثْتُكُمْ شَيْئًا فَعَرَفْتُمُوهُ لَتُتَابِعُنِّي{[5307]} عَلَى الإسْلامِ " . قَالُوا : فَذَلِكَ لَكَ . قَالَ : " فَسَلُونِي عَمَّا شِئْتُمْ " قالوا : أَخْبرْنَا عن أربع خلال : أَخْبرْنَا أَيُّ الطعام حَرَّمَ إسرائيل على نفسه ؟ وكيف ماء المرأة وماء الرجل ؟ كيف{[5308]} هذا النبي الأمّي في النوم ؟ ومن وَليّه من الملائكة ؟ فأخذ عليهم العهد لئن أخبرهم ليتابعنه{[5309]} وقال : " أَنْشُدُكُمْ بِالَّذِي أَنزلَ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى : هَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّ إِسْرَائِيلَ مَرِضَ مَرَضًا شَدِيدًا وَطَالَ{[5310]} سُقْمُهُ ، فَنَذَرَ لِلَّهِ نَذْرًا لَئِنْ شَفَاهُ اللَّهُ مِنْ سُقْمِهِ لَيُحَرِّمَنَّ أَحَبَّ الشَّرَابِ إِلَيْهِ وَأَحَبَّ الطَّعَامِ إِلَيْهِ ، وَكَانَ أَحَبَّ الطَّعَامِ إِلَيْهِ لُحْمان الإبِلِ ، وَأَحَبَّ الشَّرَابِ إِلَيْهِ أَلْبَانُهَا " فقالوا : اللهم نعم . قال : " اللَّهُمَّ اشْهَدْ عَلَيْهِمْ " . وقال : أَنْشُدُكُمْ بِاللَّهِ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ ، الَّذِي{[5311]} أَنزلَ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى : هَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّ مَاءَ الرَّجُلِ أَبْيَضُ غَلِيظٌ ، ومَاءَ الْمَرْأَةِ أَصْفَر رَقِيقٌ ، فَأَيُّهُمَا عَلا كَانَ لَهُ الولد وَالشَّبَهُ بإذنِ اللَّهِ ، إِنْ عَلا مَاءُ الرَّجُلِ مَاءَ المرأة{[5312]} كَانَ ذَكَرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَإِنْ عَلا مَاءُ الْمَرْأَةِ{[5313]} مَاءَ الرَّجُلِ كَانَ أُنْثَى بِإِذْنِ اللَّهِ " . قالوا : نعم . قال : " اللَّهُمَّ اشْهَدْ عَلَيْهِمْ " . وقال : " أَنْشُدُكُمْ{[5314]} بِالَّذِي أَنزلَ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى : هَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّ هَذَا النَّبِيَّ الأمِّيَّ تَنَامُ عَيْنَاهُ {[5315]} وَلا يَنَامُ قَلْبُهُ " . قالوا : اللهم نعمْ . قَالَ : " اللَّهُمَّ اشْهَدْ " . قالوا : وأنت الآن فحدثنا منْ وليُّك من الملائكة ؟ فعندها نجامعك أو نفارقك قال : " إِنَّ وَلِيِّيَ جِبْرِيلُ ، وَلَمْ يَبْعَث اللَّهُ نَبِيًّا قَطُّ إِلا وَهُوَ وَلِيُّهُ " . قالوا : فعندها{[5316]} نفارقك ، ولو كان وليك غيره لتابعنَاك{[5317]} ، فعند ذلك قال الله تعالى : { قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ } الآية [ البقرة : 97 ] .

ورواه أحمد أيضًا ، عن حسين بن محمد ، عن عبد الحميد ، به{[5318]} .

طريق أخرى : قال أحمد : حدثنا أبو أحمد الزبيري{[5319]} حدثنا عبد الله بن الوليد العِجْليّ ، عن بُكَير{[5320]} بن شهاب ، عن سعيد بن جُبَير ، عن ابن عباس قال : أقبلت يهودُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : يا أبا القاسم ، نسألك{[5321]} عن خمسة أشياء ، فإن{[5322]} أنبأتنا بهن عرفنا أنك نبي واتبعناك ، فأخذ عليهم ما أخذ إسرائيل على بنيه إذ قال : { اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ } [ يوسف : 66 ] . قال : " هاتوا " . قالوا : أخبرنا عن علامة النبي ؟ قال : " تَنَامُ عَيْنَاهُ وَلا يَنَامُ قَلْبُه " . قالوا : أخبرنا كيف تُؤنِّثُ المرأةُ وكيف تُذْكرُ ؟ قال : " يَلْتَقِي الماءَان ، فإذا{[5323]} علا مَاءُ الرَّجُلِ مَاءَ الْمَرْأَةِ أذْكَرَتْ ، وإذَا عَلا مَاءُ الْمَرْأَةِ{[5324]} آنثَتْ . قالوا : أخبرنا ما حَرَّم إسرائيل على نفسه ، قال : " كَانَ يَشْتَكِي عِرْقَ النَّسَا ، فَلَمْ يَجِدْ شَيْئًا يُلائِمُهُ إلا ألْبَانَ كَذَا وكَذَا - قال أحمد : قال بعضهم : يعني الإبل - فَحَرَّم لُحُومَهَا " . قالوا : صدقت . قالوا : أخبرنا ما هذا الرَّعد ؟ قال : " مَلَكٌ مِنْ مَلائِكَةِ اللهِ مُوَكلٌ بِالسَّحَابِ بِيدِهِ{[5325]} - أو فِي يَدِه - مِخْرَاقٌ مِنْ نَارٍ يَزْجُر بِهِ السّحابَ ، يَسُوقُهُ حَيْثُ أَمَرَهُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ " . قالوا : فما هذا الصوت الذي يُسمع ؟ قال : " صَوْتُه " . قالوا : صدقت ، إنما بقيت واحدة ، وهي التي نتابعك إن أخبرتنا بها ، فإنه ليس من نبي إلا له ملك يأتيه بالخبر ، فأخبرنا من صاحبُك ؟ قال : " جبْرِيلُ عَلَيْه السَّلامُ " . قالوا : جبريل ذاك يَنزل بالحَرْب والقتال والعذاب عَدُوُّنا . لو قلتَ : ميكائيل الذي ينزل بالرحمة والنبات والقَطْر لَكَانَ ، فأنزل الله عز وجل : { قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نزلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ } [ البقرة : 97 ]{[5326]} .

وقد رواه الترمذي ، والنسائي ، من حديث عبد الله بن الوليد العِجْلي ، به نحوه ، وقال الترمذي : حسن غريب{[5327]} .

وقال ابن جُرَيْج والعَوْفَيّ ، عن ابن عباس : كان إسرائيل - وهو يعقوب عليه السلام - يَعْتَريه عِرق النَّسَا بالليل ، وكان{[5328]} يقلقه ويُزعِجه عن النوم ، ويُقْلعُ الوَجَعُ عنه بالنهار ، فنذر لله لئن عافاه الله لا يأكل عِرْقًا ولا يأكل ولد ما له عِرْق .

وهكذا قال الضحاك والسدي . كذا حكاه ورواه ابن جرير في تفسيره . قال : فاتَّبعه بَنُوه في تحريم ذلك استنَانًا به واقتداء بطريقه . قال : وقوله : { مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنزلَ التَّوْرَاةُ } أي : حرم ذلك على نفسه من قبل أن تنزل التوراة .

قلت : ولهذا السياق بعد ما تقدم مناسبتان{[5329]} .

إحداهما : أن إسرائيل ، عليه السلام ، حرّم أحب الأشياء إليه وتركها لله ، وكان هذا سائغًا في شريعتهم{[5330]} فله مناسبة بعد قوله : { لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ } فهذا هو المشروع عندنا وهو الإنفاق في طاعة الله مما يحبُّه العبد ويشتهيه ، كما قال : { وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ } [ البقرة : 177 ] وقال { وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ } [ الإنسان : 8 ] .

المناسبة الثانية : لمَّا تقدّم السياق في الرد على النصارى ، واعتقادهم الباطل في المسيح وتبين زَيْف ما ذهبوا إليه . وظهور {[5331]} الحق واليقين في أمر عيسى وأمه ، وكيف خلقه الله بقدرته ومشيئته ، وبعثه إلى بني إسرائيل يدعو إلى عبادة ربه تعالى - شَرَع في الرد على اليهود ، قَبَّحهم الله ، وبيان أن النَّسْخ الذي أنكروا وقوعه وجوازه قد وقع ، فإن الله ، عز وجل ، قد نصّ في كتابهم التوراة أن نوحا ، عليه السلام ، لما خرج من السفينة أباح الله له جميع دواب الأرض يأكل منها ، ثم بعد هذا حرّم إسرائيل على نفسه لُحْمان الإبل وألبانها ، فاتبعه بنوه في ذلك ، وجاءت التوراة بتحريم ذلك ، وأشياء أخر زيادة على ذلك . وكان الله ، عز وجل ، قد أذن لآدم في تزويج بناته من بنيه ، وقد حرَّم ذلك بعد ذلك . وكان التَّسَرِّي على الزوجة مباحا في شريعة إبراهيم ، وقد فعله [ الخليل ]{[5332]} إبراهيم في هاجر لما تسرَّى بها على سارّة ، وقد حُرِّم مثل هذا في التوراة عليهم . وكذلك كان الجمع بين الأختين شائعا {[5333]} وقد فعله يعقوب ، عليه السلام ، جمع بين الأختين ، ثم حُرِّم ذلك عليهم في التوراة . وهذا كله منصوص عليه في التوراة عندهم ، فهذا هو النسخ بعينه ، فكذلك{[5334]} فليكن ما شرعه الله للمسيح ، عليه السلام ، في إحلاله بعض ما حرم في التوراة ، فما بالهم لم يتبعوه ؟ بل كذبوه وخالفوه ؟ وكذلك ما بعث الله به محمدا صلى الله عليه وسلم من الدين القويم ، والصراط المستقيم ، ومِلَّة أبيه إبراهيم فما بَالُهم{[5335]} لا يؤمنون ؟ ولهذا قال [ تعالى ]{[5336]} { كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنزلَ التَّوْرَاةُ } أي : كان حِلا{[5337]} لهم جميعُ الأطعمة قبل نزول التوراة إلا ما حرَّمه إسرائيل ، ثم قال : { قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } ؛ فإنها ناطقة بما قلناه .


[5306]:زيادة من أ.
[5307]:في جـ، ر، أ،: "لتبايعني".
[5308]:في جـ، و: "وماء الرجل ؟ كيف يكون الذكر منه ؟ وأخبرنا وكيف".
[5309]:في جـ، أ: "ليبايعنه".
[5310]:في أ، و: "فطال".
[5311]:في جـ، م، و: "والذي".
[5312]:في جـ، ر، أ، و: "ماء الرجل على ماء المرأة".
[5313]:في جـ، ر، أ، و: "علا ماء المرأة على ماء الرجل".
[5314]:في أ: "أشهدكم".
[5315]:في جـ: "عينه".
[5316]:في أ: "فعندنا".
[5317]:في جـ، أ: "لبايعناك".
[5318]:المسند (1/278).
[5319]:في أ: "أبو أحمد عن الزبيري"، وفي جـ، و: "أبو أحمد هو الزبيري".
[5320]:في جـ، أ: "بكر".
[5321]:في أ: "يا أبا القاسم، إنا نسألك".
[5322]:في جـ، أ: "وإن".
[5323]:في جـ: "فإن".
[5324]:في جـ، ر، أ: "وإذا علا ماء المرأة ماء الرجل آنثت".
[5325]:في جـ، ر، أ، و: "بيديه".
[5326]:في جـ، ر، أ، و: "قل من كان عدوا لجبريل إلى آخر الآية".
[5327]:المسند (1/274) وسنن الترمذي برقم (3117) والنسائي في السنن الكبرى برقم (9072).
[5328]:في جـ، أ، و: "فكان".
[5329]:في ر: "مناسبات".
[5330]:في جـ، أ، و: "شرعهم".
[5331]:في ر، أ، و: "ظهر".
[5332]:زيادة من أ.
[5333]:في أ، و: "سائغا".
[5334]:في أ: "فلذلك".
[5335]:في جـ، ر، أ، و: "فما لهم".
[5336]:زيادة من أ، و.
[5337]:في و: "حلالا".
 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{۞كُلُّ ٱلطَّعَامِ كَانَ حِلّٗا لِّبَنِيٓ إِسۡرَـٰٓءِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسۡرَـٰٓءِيلُ عَلَىٰ نَفۡسِهِۦ مِن قَبۡلِ أَن تُنَزَّلَ ٱلتَّوۡرَىٰةُۚ قُلۡ فَأۡتُواْ بِٱلتَّوۡرَىٰةِ فَٱتۡلُوهَآ إِن كُنتُمۡ صَٰدِقِينَ} (93)

قوله تعالى : { كل الطعام } الآية ، إخبار بمغيب عن محمد صلى الله عليه وسلم وجميع الأميين لا يعلمه إلا الله وعلماء أهل الكتاب ، وذهب كثير من المفسرين إلى أن معنى الآية : الرد على اليهود في قولهم في كل ما حرموه على أنفسهم من الأشياء : إنها محرمة عليهم بأمر الله في التوراة ، فأكذبهم الله بهذه الآية ، وأخبر أن جميع الطعام كان حلاً لهم ، إلا ما حرم إسرائيل على نفسه خاصة ، ولم يرد به ولده ، فلما استنوا هم به جاءت التوراة بتحريم ذلك عليهم ، وليس من التوراة شيء من الزوائد التي يدعون أن الله حرمها ، وإلى هذا تنحو ألفاظ السدي ، وقال : إن الله تعالى حرم ذلك عليهم في التوراة عقوبة لاستنانهم في تحريم شيء إنما فعله يعقوب خاصة لنفسه ، قال : فذلك قوله تعالى : { فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم }{[3324]} .

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : والظاهر في لفظة ظلم أنها مختصة بتحريم ونحوه ، يدل على ذلك أن العقوبة وقعت بذلك النوع ، وذهب قوم من العلماء إلى أن معنى الآية : الرد على قوم من اليهود قالوا : إن ما نحرمه الآن على أنفسنا من الأشياء التي لم تذكر في التوراة كان علينا حراماً في ملة أبينا إبراهيم ، فأكذبهم الله وأخبر أن الطعام كله كان حلالاً لهم قبل التوراة { إلا ما حرم إسرائيل } في خاصته ، ثم جاءت التوراة بتحريم ما نصت عليه ، وبقيت هذه الزوائد في حيز افترائهم وكذبهم ، وإلى هذا تنحو ألفاظ بن عباس رضي الله عنهما وترجم الطبري في تفسير هذه الآية بتراجم ، وأدخل تحتها أقوالاً توافق تراجمه ، وحمل ألفاظ الضحاك أن الاستثناء منقطع وكأن المعنى : كل الطعام كان حلاً لهم قبل نزول التوراة وبعد نزولها .

قال الفقيه الإمام أبو محمد : فيرجع المعنى إلى القول الأول الذي حكيناه ، وحمل الطبري قول الضحاك إن معناه : لكن إسرائيل حرم على نفسه خاصة ولم يحرم الله على بني إسرائيل في توراة ولا غيرها .

قال الفقيه الإمام : وهذا تحميل يرد عليه قوله تعالى : { حرمنا عليهم }{[3325]} وقوله صلى الله عليه وسلم : ( حرمت عليهم الشحوم ) {[3326]} إلى غير ذلك من الشواهد ، وقوله تعالى : { حِلاًّ } معناه : حلالاً ، و { إسرائيل } هو يعقوب ، وانتزع من هذه الآية أن للأنبياء أن يحرموا باجتهادهم على أنفسهم ما اقتضاه النظر لمصلحة أو قربة أو زهد ، ومن هذا على جهة المصلحة تحريم النبي صلى الله عليه وسلم جاريته على نفسه{[3327]} ، فعاتبه الله تعالى في ذلك ولم يعاتب يعقوب ، فقيل : إن ذلك لحق آدمي ترتب في نازلة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وقيل : إن هذه تحريم تقرب وزهد ، وتحريم الجارية تحريم غضب ومصلحة نفوس ، واخلتف الناس في الشيء الذي حرمه يعقوب على نفسه فقال يوسف بن ماهك{[3328]} : جاء أعرابي إلى ابن عباس فقال له : إنه جعل امرأته عليه حراماً ، فقاله ابن عباس : إنها ليست عليك بحرام ، فقال الأعرابي : ولم ؟ والله تعالى يقول في كتابه { إلا ما حرم إسرائيل على نفسه } فضحك ابن عباس وقال : وما يدريك ما حرم إسرائيل ؟ ثم أقبل على القوم يحدثهم ، فقال : إن إسرائيل عرضت له الأنساء{[3329]} فأضنته فجعل لله إن شفاه من ذلك أن لا يطعم عرقاً ، قال : فلذلك اليهود تنزع العروق من اللحم ، وقال بمثل هذا القول قتادة وأبو مجلز وغيرهم ، وقال ابن عباس والحسن بن أبي الحسن وعبد الله بن كثير ومجاهد أيضاً : إن الذي حرم إسرائيل هو لحوم الإبل وألبانها ، ولم يختلف فيما علمت أن سبب التحريم هو بمرض أصابه ، فجعل تحريم ذلك شكراً لله تعالى إن شفي ، وقيل : هو وجع عرق النسا ، وفي حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أن عصابة من بني إسرائيل قالوا له : يا محمد ما الذي حرم إسرائيل على نفسه ؟ فقال لهم : أنشدكم بالله هل تعلمون أن يعقوب مرض مرضاً شديداً فطال سقمه منه فنذر لله نذراً إن عافاه الله من سقمه ليحرمنَّ أحب الطعام والشراب إليه ، وكان أحب الطعام إليه لحوم الإبل وألبانها ؟ قالوا : اللهم نعم{[3330]} ، وظاهر الأحاديث والتفاسير في هذا الأمر أن يعقوب عليه السلام حرم الإبل وألبانها ، وهو يحبها ، تقرباً إلى الله بذلك ، إذ ترك الترفه والتنعم من القرب ، وهذا هو الزهد في الدنيا ، وإليه نحا عمر بن الخطاب رضي الله عنه بقوله : إياكم وهذه المجازر فإن لها ضراوة كضراوة الخمر{[3331]} ومن ذلك قول أبي حازم الزاهد{[3332]} ، وقد مر بسوق الفاكهة فرأى محاسنها فقال : موعدك الجنة إن شاء الله ، وحرم يعقوب عليه السلام أيضاً العروق ، لكن بغضه لها لما كان امتحن بها ، وهذا شيء يعتري نفوس البشر في غير ما شيء وليس في تحريم العروق قربة فيما يظهر ، والله أعلم ، وقد روي عن ابن عباس : أن يعقوب حرم العروق ولحوم الإبل ، وأمر الله نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم أن يأمرهم بالإتيان بالتوراة ، حتى يبين منها كيف الأمر ، المعنى : فإنه أيها اليهود ، كما أنزل الله عليَّ لا كما تدعون أنتم ، قال الزجّاج : وفي هذا تعجيز لهم وإقامة الحجة عليهم ، وهي كقصة المباهلة مع نصارى نجران .


[3324]:- من الآية (160) من سورة النساء
[3325]:- من الآية (146) من سورة الأنعام [حرمنا عليهم شحومها إلا ما حملت ظهورهما].
[3326]:- أخرجه الإمام أحمد، والبخاري، ومسلم، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجة، عن جابر بن عبد الله، وأخرجه البخاري، ومسلم- عن أبي هريرة، كما أخرجه الإمام أحمد، والبخاري، ومسلم، والنسائي وابن ماجة، عن عمر. "الجامع الصغير 2/192"
[3327]:- جاريته صلى الله عليه وسلم هي مارية القبطية أم سيدنا إبراهيم. سورة التحريم عند قوله تعالى: {يا أيها النبي لم تحرم..] الآية.
[3328]:- هو يوسف بن ماهك- بفتح الهاء- بن مهران الفارسي المكي، مولى قريش، روى عن أبيه، وأبي هريرة، وعائشة، وعبد بن صفوان، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمر، وغيرهم، وروى عنه عطاء بن أبي رباح، وأيوب، وأبو بسر، وحميد، وابن جريج، وأبو خيثم، وغيرهم، ثقة عدل، توفي سنة 103 وقيل 110 (تهذيب التهذيب. 11/421) .
[3329]:- الأنساء: جمع نسا وهو عرق من الورك إلى الكعب.
[3330]:- أخرجه الترمذي وحسنه، وابن جرير الطبري عن ابن عباس، وأخرجه أيضا الإمام أحمد والنسائي. "تفسير الشوكاني" و "ابن كثير" و"ابن جرير".
[3331]:- هذا الحديث ذكره ابن الأثير في الغريب. "ابن الأثير 3/20|
[3332]:- هو سلمة بن دينار المخزومي المدني مولاهم، التمار، الواعظ، الزاهد، أبو حازم عالم المدينة وقاضيها أو شيخها، سمع سهل بن سعد الساعدي، وسعيد بن المسيب، وأبا صالح السمان، وعدة، وروى عنه مالك، والسفيانان، والحمادان، وخلق، قال ابن خزيمة: لم يكن في زمانه أحد مثله. وقوله في الفاكهة لما مر بها في السوق ذكره أبو نعيم في الحلية. توفي سنة 140 "تذكرة الحفاظ: 1/133" وكذا "حلية الأولياء 3/229.
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{۞كُلُّ ٱلطَّعَامِ كَانَ حِلّٗا لِّبَنِيٓ إِسۡرَـٰٓءِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسۡرَـٰٓءِيلُ عَلَىٰ نَفۡسِهِۦ مِن قَبۡلِ أَن تُنَزَّلَ ٱلتَّوۡرَىٰةُۚ قُلۡ فَأۡتُواْ بِٱلتَّوۡرَىٰةِ فَٱتۡلُوهَآ إِن كُنتُمۡ صَٰدِقِينَ} (93)

هذا يرتبط بالآي السَّابقة في قوله تعالى : { ما كان إبراهيم يهودياً ولا نصرانياً } [ آل عمران : 67 ] وما بينهما اعتراضات وانتقالات في فنون الخطاب .

وهذه حجّة جزئية بعد الحجج الأصليّة على أنّ دين اليهودية ليس من الحنيفية في شيء ، فإنّ الحنيفية لم يكن ما حرّم من الطّعام بنصّ التَّوراة محرّماً فيها ، ولذلك كان بنو إسرائيل قبل التَّوراة على شريعة إبراهيم ، فلم يكن محرّماً عليهم ما حُرّم من الطعام إلاّ طعاماً حرّمه يعقوب على نفسه . والحجَّة ظاهرة ويدلّ لهذا الارتباط قوله في آخرها : { قل صدق الله فاتبعوا ملة إبراهيم حنيفاً } [ آل عمران : 95 ] .

ويحتمل أنّ اليهود مع ذلك طعنوا في الإسلام ، وأنَّه لم يكن على شريعة إبراهيم ، إذْ أباح للمسلمين أكل المحرّمات على اليهود ، جهلاً منهم بتاريخ تشريعهم ، أو تضليلاً من أحبارهم لعامّتهم ، تنفيراً عن الإسلام ، لأن الأمم في سذاجتهم إنَّما يتعلّقون بالمألوفات ، فيعدّونها كالحقائق ، ويقيمونها ميزاناً للقبول والنّقد ، فبيّن لهم أنّ هذا ممّا لا يُلتفت إليه عند النّظر في بقيّة الأديان ، وحسبكم أنّ ديناً عظيماً وهو دين إبراهيم ، وزُمرة من الأنبياء من بنيه وحفدته ، لم يكونوا يحرّمون ذلك .

وتعريف ( الطّعام ) تعريف الجنس ، و ( كُلّ ) للتنصيص على العموم .

وقد استدلّ القرآن عليهم بهذا الحكم لأنَّه أصرح ما في التَّوراة دلالة على وقوع النسخ فإنّ التوراة ذكرت في سفر التكوين ما يدلّ على أنّ يعقوب حرّم على نفسه أكل عِرق النَّسَا الَّذِي على الفخذ ، وقد قيل : إنَّه حرّم على نفسه لحوم الإبل وألبانها ، فقيل : إنّ ذلك على وجه النذر ، وقيل : إنّ الأطبَّاء نهوه عن أكل ما فيه عرق النّسا لأنَّه كان مبتلى بوجع نَساه ، وفي الحديث أنّ يعقوب كان في البدو فلم تستقم عافيته بأكل اللّحم الّذي فيه النّسا . وما حرّمه يعقوب على نفسه من الطعام : ظاهر الآية أنَّه لم يكن ذلك بوحي من الله إليه ، بل من تلقاء نفسه ، فبعضه أراد به تقرّباً إلى الله بحرمان نفسه من بعض الطيِّبات المشتهاة ، وهذا من جهاد النَّفس ، وهو من مقامات الزّاهدين ، وكان تحريم ذلك على نفسه بالنذر أو بالعزم . وليس في ذلك دليل على جواز الاجتهاد للأنبياء في التشّريع لأنّ هذا من تصرّفه في نفسه فيما أبيح له ، ولم يدع إليه غيرَه ، ولعلّ أبناء يعقوب تأسَّوا بأبيهم فيما حرَّمه على نفسه فاستمرّ ذلك فيهم .

وقوله : { من قبل أن تنزل التوراة } تصريح بمحلّ الحجَّة من الردّ إذ المقصود تنبيههم على ما تناسوه فنُزلوا منزلة الجاهل بكون يعقوب كان قبل موسى ، وقال العصام : يتعلّق قوله : { من قبل أن تنزل التوراة } بقوله : { حِلاًّ } لئلاّ يلزم خلوّه عن الفائدة ، وهو غير مُجد لأنّه لمّا تأخّر عن الاستثناء من قوله { حلاّ } وتبيّن من الاستثناء أنّ الكلام على زمن يعقوب ، صار ذكر القيد لغواً لولا تنزيلهم منزلة الجاهل ، وقصد إعلان التّسجيل بخطئهم والتعريض بغباوتهم .

وقوله : { قل فأتوا بالتوراة فأتلوها إن كنتم صادقين } أي في زعمكم أنّ الأمر ليس كما قلناه أو إن كنتم صادقين في جميع ما تقدّم : من قولكم إنّ إبراهيم كان على دين اليهودية ، وهو أمر للتعجيز ، إذ قد علم أنَّهم لا يأتون بها إذا استدلّوا على الصّدق .

والفاء في قوله : { فأتوا } فاء التفريع .

وقوله : { إن كنتم صادقين } شرط حذف جوابه لدلالة التفريع الَّذي قبله عليه . والتَّقدير : إن كنتم صادقين فأتوا بالتَّوراة .