تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{سَيَقُولُ ٱلَّذِينَ أَشۡرَكُواْ لَوۡ شَآءَ ٱللَّهُ مَآ أَشۡرَكۡنَا وَلَآ ءَابَآؤُنَا وَلَا حَرَّمۡنَا مِن شَيۡءٖۚ كَذَٰلِكَ كَذَّبَ ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡ حَتَّىٰ ذَاقُواْ بَأۡسَنَاۗ قُلۡ هَلۡ عِندَكُم مِّنۡ عِلۡمٖ فَتُخۡرِجُوهُ لَنَآۖ إِن تَتَّبِعُونَ إِلَّا ٱلظَّنَّ وَإِنۡ أَنتُمۡ إِلَّا تَخۡرُصُونَ} (148)

هذه مناظرة ذكرها الله تعالى وشبهة تشبثت بها المشركون في شركهم وتحريم ما حرموا ؛ فإن الله مطلع على ما هم فيه من الشرك والتحريم لما حرموه ، وهو قادر على تغييره بأن يلهمنا الإيمان ، أو يحول بيننا وبين الكفر ، فلم يغيره ، فدل على أنه بمشيئته وإرادته ورضاه منا ذلك ؛ ولهذا قال : { لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ } كما في قوله [ تعالى ]{[11324]} : { وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ [ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ ] }{[11325]} [ الزخرف : 20 ] ، وكذلك{[11326]} التي في " النحل " مثل هذه سواء{[11327]} قال{[11328]} الله تعالى : { كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ } أي : بهذه الشبهة ضل من ضل قبل هؤلاء . وهي حجة داحضة باطلة ؛ لأنها لو كانت صحيحة لما أذاقهم الله بأسه ، ودمر عليهم ، وأدال عليهم رسله الكرام ، وأذاق المشركين من أليم الانتقام .

{ قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ } أي : بأن الله[ تعالى ]{[11329]} راض عنكم فيما أنتم فيه { فَتُخْرِجُوهُ لَنَا } أي : فتظهروه لنا وتبينوه وتبرزوه ، { إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ } أي : الوهم والخيال . والمراد بالظن هاهنا : الاعتقاد الفاسد . { وَإِنْ أَنْتُمْ إِلا تَخْرُصُونَ } أي : تكذبون على الله فيما ادعيتموه .

قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس [ رضي الله عنهما ]{[11330]} : { لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا } وقال { كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ } ثُمَّ قَالَ { وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا } [ الأنعام : 107 ] ، فإنهم قالوا : عبادتنا الآلهة تقربنا إلى الله زُلْفَى فأخبرهم الله أنها لا تقربهم ، وقوله : { وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا }{[11331]} ، يقول تعالى : لو شئت لجمعتهم على الهدى أجمعين .


[11324]:زيادة من م، أ.
[11325]:زيادة من م، أ.
[11326]:في أ: "وكذا".
[11327]:الآية: 35 وهي قوله تعالى: (وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء).
[11328]:في م: "وقال".
[11329]:زيادة من م.
[11330]:زيادة من أ.
[11331]:في أ: "أشركنا" وهو خطأ، والصواب: "أشركوا" الآية: 107 من سورة الأنعام.
 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{سَيَقُولُ ٱلَّذِينَ أَشۡرَكُواْ لَوۡ شَآءَ ٱللَّهُ مَآ أَشۡرَكۡنَا وَلَآ ءَابَآؤُنَا وَلَا حَرَّمۡنَا مِن شَيۡءٖۚ كَذَٰلِكَ كَذَّبَ ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡ حَتَّىٰ ذَاقُواْ بَأۡسَنَاۗ قُلۡ هَلۡ عِندَكُم مِّنۡ عِلۡمٖ فَتُخۡرِجُوهُ لَنَآۖ إِن تَتَّبِعُونَ إِلَّا ٱلظَّنَّ وَإِنۡ أَنتُمۡ إِلَّا تَخۡرُصُونَ} (148)

وأخبر الله عز وجل نبيه عليه السلام : أن المشركين سيحتجون لصواب ما هم عليه من شركهم وتدينهم بتحريم تلك الأشياء بإمهال الله تعالى وتقريره حالهم وأنه شاء غير ذلك لما تركهم على تلك الحال .

قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه : وبين أن المشركين لا حجة لهم فيما ذكروه لأنّا نحن نقول : إن الله عز وجل لو شاء ما أشركوا ولكنه عز وجل شاء إشراكهم وأقدرهم على اكتساب الإشراك والمعاصي ومحبته{[5145]} والاشتغال به ، ثم علق العقاب والثواب على تلك الأشياء والاكتسابات ، وهو الذي يقتضيه ظواهر القرآن في قوله { جزاء بما كانوا يكسبون }{[5146]} ونحو ذلك ، ويلزمهم على احتجاجهم أن تكون كل طريقة وكل نحلة صواباً ، إذ كلها لو شاء الله لم تكن .

قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه : وقال بعض المفسرين : إنما هذه المقالة من المشركين على جهة الاستهزاء ، وهذا ضعيف ، وتعلقت المعتزلة بهذه الآية فقالت : إن الله قد ذم لهم هذه المقالة وإنما ذمها لأن كفرهم ليس بمشيئة الله تعالى بل هو خلق لهم .

قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه : وليس الأمر على ما قالوا ، وإنما ذم الله تعالى ظن المشركين أن ما شاء الله لا يقع عليه عقاب ، وأما أنه ذم قولهم : لولا المشيئة لم نكفر فلا ، ثم قال { كذلك كذب الذين من قبلهم } وفي الكلام حذف يدل عليه تناسق الكلام ، كأنه قال : سيقول المشركون كذا وكذا وليس في ذلك حجة لهم ، ولا شيء يقتضي تكذيبك ولكن { كذلك كذب الذين من قبلهم } بنحو هذه الشبهة من ظنهم أن ترك الله لهم دليل على رضاه بحالهم ، وفي قوله { حتى ذاقوا بأسنا } وعيد بيّن ، وليس في الآية رد منصوص على قولهم : لو شاء الله ما أشركنا ، وإنما ترك الرد عليهم مقدراً في الكلام لوضوحه وبيانه ، وقوله { ولا آباؤنا } معطوف على الضمير المرفوع في { أشركنا } والعطف على الضمير المرفوع لا يرده قياس ، بخلاف المظنون ، لكن سيبويه قد قبح العطف على الضمير المرفوع ، ووجه قبحه أنه لما بني الفعل صار كحرف من الفعل فقبح العطف عليه لشبهه بالحرف ، وكذلك كقولك : قمت وزيد ، لأن تأكيده فيه يبين معنى الاسمية ، ويذهب عنه شبه الحرف ، وحسن عند سيبويه العطف في قوله { وما أشركنا ولا آباؤنا } لما طال الكلام ، ب { لا } ، فكأن معنى الاسمية اتضح واقتضت [ لا ] ما يعطف بعدها{[5147]} وقوله تعالى : { قل هل عندكم من علم } الآية : المعنى قل يا محمد للكفرة : هل عندكم من علم من قبل الله تعالى فتبينوه حتى تقوم به الحجة ، و { من } في قوله { من علم } زائدة مؤكدة وجاءت زيادتها لأن الاستفهام داخل في غير الواجب ، { إن تتبعون إلا الظن } أي لا شيء عندكم إلا الظن وهو أكذب الحديث . وقرأ جمهور الناس : «تتبعون » على المخطابة ، وقرأ النخعي وإبراهيم وابن وثاب : «إن يتبعوا » بالياء حكاية عنهم .

قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه : وهذه قراءة شاذة يضعفها قوله { وإن أنتم } و { تخرصون } معناه : تقدرون وتظنون وترجمون .


[5145]:- الضمير في (محبته) يعود على (الإشراك).
[5146]:- تكررت في الآيتين (82) و (95) من سورة (التوبة).
[5147]:- البصريون لا يجيزون العطف على الضمير المرفوع إلا بالفصل، وقد جاء الفصل هنا بـ (لا) ويستثنون من ذلك الشعر فيجيزون فيه ذلك بدون فصل، أما الكوفيون فيجيزون ذلك في كل الأحوال وهو عندهم فصيح، وقد جاء الفصل في سورة النحل في قوله تعالى: {وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا فقال سبحانه [من دونه]، وقال [نحن] فأكد بالضمير، قاله أبو حيان في البحر المحيط".
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{سَيَقُولُ ٱلَّذِينَ أَشۡرَكُواْ لَوۡ شَآءَ ٱللَّهُ مَآ أَشۡرَكۡنَا وَلَآ ءَابَآؤُنَا وَلَا حَرَّمۡنَا مِن شَيۡءٖۚ كَذَٰلِكَ كَذَّبَ ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡ حَتَّىٰ ذَاقُواْ بَأۡسَنَاۗ قُلۡ هَلۡ عِندَكُم مِّنۡ عِلۡمٖ فَتُخۡرِجُوهُ لَنَآۖ إِن تَتَّبِعُونَ إِلَّا ٱلظَّنَّ وَإِنۡ أَنتُمۡ إِلَّا تَخۡرُصُونَ} (148)

استئناف رجع به الكلام إلى مجادلة المشركين بعد أن اعترض بينها بقوله : { قل لا أجد في مآ أوحي إليّ محرماً على طاعم يطعمه إلى قوله { فإنّ ربّك غفور رحيم } [ الأنعام : 145 ] ، فلمّا قطع الله حجّتهم في شأن تحريم ما حرّموه ، وقسمة ما قسموه ، استقصى ما بقي لهم من حجّة وهي حجّة المحجوج المغلوب الذي أعيته المجادلة ولم تبق له حجّة ، إذ يتشبّث بالمعاذير الواهية لترويج ضلاله ، بأن يقول : هذا أمر قضي وقدّر .

فإن كان ضمير الرّفع في قوله : { فإن كذبوك } [ الأنعام : 147 ] عائداً إلى المشركين كان قوله تعالى هنا : { سيقول الذين أشركوا } إظهاراً في مقام الإضمار لزيادة تفظيع أقوالهم ، فإخبار الله عنهم بأنَّهم سيقولون ذلك إن كان نزول هذه الآية قبلَ نزول آية سورة النّحل ( 35 ) : { وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا ولا حرمنا من دونه من شيء } وهو الأرجح ، فإنّ سورة النَّحل معدودة في النّزول بعد سورة الأنعام ، كان الإخبار بأنَّهم سيقولونه اطلاعاً على ما تُكنّه نفوسهم من تزوير هذه الحجّة ، فهو معجزة من معجزات القرآن من نوع الإخبار بالغيب كقوله تعالى : { فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا } [ البقرة : 24 ] . وإن كان نزول هذه الآية بعد نزول آية سورة النّحل فالإخبار بأنَّهم سيقولونه معناه أنَّهم سيعيدون معذرتهم المألوفة .

وحاصل هذه الحجّة : أنَّهم يحتجّون على النّبيء صلى الله عليه وسلم بأنّ ما هم عليه لو لم يكن برضى الله تعالى لصَرَفَهم عنه ولَمَا يسَّره لهم ، يقولون ذلك في معرض إفحام الرّسول عليه الصّلاة والسّلام وإبطال حُكمه عليهم بالضّلالة ، وهذه شبهة أهل العقول الأفِنة الذين لا يُفرّقون بين تصرّف الله تعالى بالخَلْق والتّقدير وحفظِ قوانين الوجود ، وهو التصرّف الذي نسمّيه نحن بالمشيئة وبالإرادة ، وبين تصرّفه بالأمر والنّهي ، وهو الذي نسمّيه بالرّضى وبالمحبّة ، فالأوّل تصرّف التّكوين والثّاني تصرف التّكليف ، فهم يحسبون أنّ تمكّنهم من وضع قواعد الشّرك ومن التّحريم والتّحليل ما هو إلاَّ بأن خلق الله فيهم التمكّن من ذلك ، فيحسبون أنَّه حين لم يمسك عِنان أفعالهم كان قد رضي بما فعلوه ، وأنَّه لو كان لا يرضى به لما عجز عن سلب تمكّنهم ، يحسبون أنّ الله يُهمّه سوءُ تصرّفهم فيما فطرهم عليه ، ولو كان كما يتوهَّمون لكان الباطل والحقّ شيئاً واحداً ، وهذا ما لا يفهمه عقل حَصيف ، فإنّ أهل العقول السّخيفة حين يتوهَّمون ذلك كانوا غير ملتفتين إلاّ إلى جانب نحلتهم ومعرضين عن جانب مخالفهم ، فإنَّهم حين يقولون : { لو شاء الله ما أشركنا } غافلون عن أن يقال لهم . من جانب الرّسول : لو شاء الله ما قلتُ لكم أنّ فعلكم ضلال ، فيكون الله على حسب شبهتهم قد شاء الّشيء ونقيضه إذ شاء أنَّهم يشركون وشاء أن يقول لهم الرّسول لا تشركوا .

وسبب هذه الضّلالة العارضة لأهل الضّلال من الأمم ، التي تلوح في عقول بعض عوام المسلمين في معاذيرهم للمعاصي والجرائم أن يقولوا : أمْرُ الله أو مَكْتُوبُ عند الله أو نحو ذلك ، هو الجهل بأنّ حكمة الله تعالى في وضع نظام هذا العالم اقتضت أن يجعل حجاباً بين تصرّفه تعالى في أحوال المخلوقات ، وبين تصرّفهم في أحوالهم بمقتضى إرادتهم ، وذلك الحجاب هو ناموس ارتباط المسبّبات بأسبابها ، وارتباطِ أحوال الموجودات في هذا العالم بعضِها ببعض ، ومنه ما يسمّى بالكَسب والاستطاعة عند جمهور الأشاعرة ، ويسمّى بالقدرة عند المعتزلة وبعضضِ الأشاعرة ، وذلك هو مورد التّكليف الدالّ على ما يرضاه الله وما لا يرضى به ، وأنّ الله وضع نظام هذا العالم بحكمة فجعل قِوامه هو تدبير الأشياء أمورَها من ذواتها بحسب قوى أودعها في الموجودات لتسعى لما خُلقت لأجله ، وزاد الإنسانَ مزيَّةً بأن وضع له عقلاً يمكّنه من تغيير أحواله على حسب احتياجه ، ووضّع له في عقله وسائل الاهتداء إلى الخير والشرّ ، كما قيّض له دعاة إلى الخير تنبّهه إليه إن عرته غفلة ، أو حجبته شهوة ، فإن هو لم يرعوِ غيِّهْ ، فقد خَانَ بساطَ عقله بطَيِّهْ .

وبهذا ظهر تخليط أهل الضّلالة بين مشيئة العباد ومشيئة الله ، فلذلك ردّ الله عليهم هنا قولهم : { لو شاء الله مآ أشركنا ولا أباؤنا } لأنَّهم جعلوا ما هو مشيئة لهم مشيئة لله تعالى ، ومع ذلك فهو قد أثبت مشيئته في قوله : { ولو شاء الله ما أشركوا } [ الأنعام : 107 ] فهي مشيئة تكوين العقول وتكوين نظام الجماعة .

فهذه المشيئة التي اعتلّوا بها مشيئة خفيّة لا تتوصّل إلى الاطّلاع على كنهها عقول البشر ، فلذلك نعى الله عليهم استنادهم إليها على جهلهم بكنهها ، فقال : كذلك كذب الذين من قبلهم فَشَبَّه بتكذيبِهم تكذيبَ المكذّبين الذين من قبلهم ، فكنّى بذلك عن كون مقصد المشركين من هذه الحجّة تكذيب النّبيء صلى الله عليه وسلم وقد سبق لنا بيان في هذا المعنى في هذه السّورة ( 107 ) عند قوله تعالى : { ولو شاء الله ما أشركوا . } وليس في هذه الآية ما ينهض حجّة لنا على المعتزلة ، ولا للمعتزلة علينا ، وإن حاول كلا الفريقين ذلك لأنّ الفريقين متّفقان على بطلان حجّة المشركين . وفي الآية حجّة على الجبرية .

وقوله تعالى : { كذلك كذب الذين من قبلهم } أي كذّب الذين من قبلهم أنبياءهم مثل ما كذّبك هؤلاء . وهذا يدلّ على أنّ الذين أشركوا قصدوا بقولهم : { لو شاء الله ما أشركنا } تكذيب النّبيء صلى الله عليه وسلم إذ دعاهم إلى الإقلاع عمّا يعتقدون بحجّة أنّ الله رضيه لهم وشاءه منهم مشيئة رضى ، فكذلك الأمم قبلهم كذّبوا رسلهم مستندين إلى هذه الشبهة فسمّى الله استدلالهم هذا تكذيباً ، لأنَّهم ساقوه مساق التّكذيب والإفحام ، لا لأنّ مقتضاه لا يقول به الرّسول صلى الله عليه وسلم والمسلمون ، فإنَّا نقول ذلك كما قال تعالى : { ولو شاء الله ما أشركوا } [ الأنعام : 107 ] نريد به معنى صحيحاً فكلامهم من باب كلام الحقّ الذي أريد به باطل ، ووقع في « الكشاف » أنّه قرىء : { كذلك كذب الذين من قبلهم } بتخفيف ذال كذب وقال الطيّبي : هي قراءة موضوعة أو شاذّة يعني شاذّة شذوذاً شديداً ولم يروها أحد عن أحد من أهل القراءات الشاذّة ، ولعلّها من وضع بعض المعتزلة في المناظرة كما يؤخذ من كلام الفخر .

وقوله : { حتى ذاقوا بأسنا } غاية للتكذيب مقصود منها دوامهم عليه إلى آخر أوقات وجودهم . فلمّا ذاقوا بأس الله هلكوا واضمحلّوا ، وليست الغاية هنا للتّنهية : والرّجوع عن الفعل لظهور أنَّه لا يتصوّر الرّجوع بعد استئصالهم .

والذّوق مجاز في الإحساس والشّعور ، فهو من استعمال المقيّد في المطلق ، وقد تقدّم الكلام عليه عند قوله تعالى : { ليذوقَ وبال أمره } في سورة العقود ( 95 ) .

والبأس تقدّم الكلام عليه في سورة البقرة وإضافته إلى ضمير الله تعالى لتعظيمه وتهويله .

وأمَرَ الله رسولَه بالجواب عن مقالهم الواقع أو المتوقّع بقوله : { قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا } ، ففصل جملة : { قل } لأنَّها جارية مجرى المقاولة والمجاوبة كما تقرّر غير مرّة ، وجاء بالاستفهام المقصود منه الإفحَام والتهكّم بما عُرف من تشبّثُهم بمثل هذا الاستدلال .

وجُعل الاستفهام ب { هَلْ } لأنَّها تدلّ على طلب تحقيق الإسناد المسؤول عنه ، لأنّ أصل { هل } أنَّها حرف بمعنى « قد » لاختصاصها بالأفعال ، وكثرَ وقوعها بعد همزة الاستفهام ، فغلب عليها معنى الاستفهام ، فكثر حذف الهمزة معها حتّى تنوسيت الهمزة في مشهور الكلام ولم تظهر معها إلا في النّادر ، وقد تقدّم شيء من هذا عند قوله تعالى : { فهل أنتم منتهون } في سورة العقود ( 91 ) . فدلّ هل } على أنَّه سائل عن أمر يريد أن يكون محقّقا كأنَّه يرغب في حصوله فيغريهم بإظهاره حتّى إذا عجزوا كان قطعاً لدعواهم .

والمقصود من هذا الاستفهام التهكّم بهم في قولهم : { لو شاء الله ما أشركنا } ألى { ولا حرمنا } ، فأظهر لهم من القول من يظهره المعجَب بكلامهم . وقرينة التّهكّم بادية لأنَّه لا يظنّ بالرّسول عليه الصلاة والسلام والمؤمنين أن يطلبوا العلم من المشركين ، كيف وهو يصارحهم بالتّجهيل والتّضليل صباحَ مساءَ .

والعِلم : ما قابل الجهل ، وإخراجه الإعلام به ، شبهت إفادة المعلوم لمن يجهله بإخراج الشّيء المخبوء ، وذلك مثل التّشبيه في قول النّبي صلى الله عليه وسلم « وعلم بثّه في صدور الرّجال » ولذلك كان للإتيان : ب { عندكم } موقع حسن ، لأنّ ( عند ) في الأصل تدلّ على المكان المختصّ بالذي أضيف إليه لفظُها ، فهي ممّا يناسب الخفاء ، ولولا شيوع استعمالها في المعنى المجازي حتّى صارت كالحقيقة لقلْتُ : إنّ ذكر ( عند ) هنا ترشيح لاستعارة الإخراج للإعلام .

وجعل إخراج العلم مرتَّباً بفاء السَّببيّة على العندية للدّلالة على أنّ السّؤال مقصود به ما يتسبّب عليه .

واللاّم في : { فتخرجوه لنا } للأجْل والاختصاص ، فتؤذن بحاجة مجرورها لمتعلّقها ، أي فتخرجوه لأجلنا : أي لنفعنا ، والمعنى : لقد أبدعتم في هذا العلم الذي أبديتموه في استفادتكم أنّ الله أمركم بالشّرك وتحريم ما حرّمتموه بدلالة مشيئة على ذلك إذ لو شاء لما فعلتم ذلك فزيدونا من هذا العلم .

وهذا الجواب يشبه المنع في اصطلاح أهل الجدل ، ولمّا كان هذا الاستفهام صورياً وكان المتكلّم جازماً بانتفاء ما استَفْهَم عنه أعقبه بالجواب بقوله : { إن تتبعون إلا الظن } .

وجملة : { إن تتبعون إلا الظن } مستأنفة لأنَّها ابتداء كلام بإضراب عن الكلام الذي قبله ، فبعد أن تهكّم بهم جدّ في جوابهم ، فقال : { إن تتبعون إلا الظن } أي : لا علم عندكم . وقصارى ما عندكم هو الظنّ الباطل والخَرْص . وهذا يشبه سند المنع في عرف أهل الجدل . والمراد بالظنّ الظنّ الكاذب وهو إطلاق له شائع كما تقدّم عند قوله تعالى : { إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون } في هذه السّورة ( 116 ) .