ثم نبه تعالى على شرف هذا القرآن العظيم ، فأخبر أنه لو اجتمعت الإنس والجن كلهم ، واتفقوا{[17838]} على أن يأتوا بمثل ما أنزله على رسوله ، لما أطاقوا ذلك ولما استطاعوه ، ولو تعاونوا وتساعدوا وتظافروا ، فإن هذا أمر لا يستطاع ، وكيف يشبه كلام المخلوقين{[17839]} كلام الخالق ، الذي لا نظير له ، ولا مثال له ، ولا عديل له ؟ !
وقد روى محمد بن إسحاق عن محمد بن أبي محمد ، عن سعيد [ بن جبير ]{[17840]} أو عكرمة ، عن ابن عباس : أن هذه الآية نزلت في نفر من اليهود ، جاءوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا له : إنا نأتيك بمثل ما جئتنا به ، فأنزل الله هذه الآية .
وفي هذا نظر ؛ لأن هذه السورة مكية ، وسياقها كله مع قريش ، واليهود إنما اجتمعوا به في المدينة . فالله أعلم .
وقوله تعالى : { قل لئن اجتمعت الإنس والجن } الآية ، سبب هذه الآية أن جماعة من قريش قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم : يا محمد جئتنا بآية غريبة غير هذا القرآن ، فإنا نقدر على المجيء بمثل هذا ، فنزلت هذه الآية المصرحة بالتعجيز ، المعلمة بأن جميع الخلائق لو تعاونوا إنساً وجناً على ذلك لم يقدروا عليه ، والعجز في معارضة القرآن إنما وقع في النظم والرصف لمعانيه ، وعلة ذلك الإحاطة التي لا يتصف بها إلا الله عز وجل ، والبشر مقصر ضرورة بالجهل والنسيان والغفلة وأنواع النقص ، فإذا نظم كلمة خفي عنه للعلل التي ذكرنا أليق الكلام بها في المعنى ، وقد ذكرت هذه المسألة في صدر هذا الديوان ، وقوله { لا يأتون بمثله } في موضع رفع ، و { لا } متلقية قسماً ، واللام في قوله { لئن } مؤذنه غير لازمة قد تحذف أحياناً ، وقد تجيء هذه اللام مؤكدة فقط ، ويجيء الفعل المنفي مجزوماً ، وهذا اعتماد على الشرط ومنه قول الأعمش : [ البسيط ]
لئن منيت بنا عن غر معركة . . . لا تلفنا عن دماء القوم ننتقل{[7692]}
و «الظهير » المعين ، ومنه قوله عز وجل { وإن تظاهرا عليه }{[7693]} الآية : وفهمت العرب بخلوص فهمها في ميز الكلام ودربتها به ما لا نفهمه نحن ، ولا كل من خالطته حضارة ، ففهموا العجز عنه ضرورة ومشاهدة ، وعلمه الناس بعدهم استدلالاً ونظراً ، ولكل حصل علم قطعي ، لكن ليس في مرتبة واحدة ، وهذا كما علمت الصحابة شرع النبي وأعماله مشاهدة علم ضرورة وعلمنا نحن المتواتر من ذلك بنقل التواتر ، فحصل للجميع القطع ، لكن في مرتبتين ، وفهم إعجاز القرآن أرباب الفصاحة الذين لهم غرائب في ميز الكلام ، ألا ترى إلى فهم الفرزدق شعر جرير في شعر ذي الرمة في قوله : يُعد الناسبون إلى تميم{[7694]} .
الأبيات كلها ، وألا ترى قصة جرير في نوادره مع الفرزدق : في قول الفرزدق : على م تلفتين ، وفي قوله : تلفت أنها تحت ابن قين{[7695]} .
وألا ترى إلى قول الأعرابي : عز فحكم فقطع ، وألا ترى إلى استدلال الآخر على البعث بقوله { حتى زرتم المقابر }{[7696]} فقال إن الزيارة تقتضي الانصراف ومنه علم بشار بقول أبي عمرو بن العلاء في شعر الأعشى : وأنكرتني وما كان الذي نكرت{[7697]} ، ومنه قول الأعرابي للأصمعي : من أحوج الكريم إلى أن يقسم ؟ ومن فهمهم أنهم ببدائههم يأتون بكلمة منثورة تفضل المنقح من الشعر ، وأمثلة ذلك محفوظة ، ومن ذلك أجوبتهم المسكتة إلى غير ذلك من براعتهم في الفصاحة ، وكونهم فيها النهاية ، كما كان السحر في زمن موسى ، والطب في زمن عيسى ، فهم مع هذه الأفهام أقروا بالعجز ، ولجأ المحاد{[7698]} منهم إلى السيف ، ورضي بالقتل والسبا وكشف الحرم ، وهو كان يجد المندوحة عن ذلك بالمعارضة ، وكذلك التحدي بالعشر السور ، والتحدي بالسورة إنما وقع كله على حد واحد في النظم خاصة ، وقيد العشر بالافتراء{[7699]} لأنهم ذكروا أن القرآن مفترى ، فدعاهم بعقب ذكر ذلك إلى الإتيان بعشر سور مفتريات ، ولم يذكر الافتراء في السورة لأنه لم يجر عنهم ذكر ذلك قبل ، بل قال
{ إن كنتم في ريب }{[7700]} على أنه قد جاء ذكر السورة مع ذكرهم الافتراء في سورة هود وقد اختلف الناس في هذا الموضع فقيل دعوا إلى السورة المماثلة في النظم والغيوب وغير ذلك من الأوصاف ، وكان ذلك من تكليف ما لا يطاق ، فلما عسر عليهم خفق بالدعوة إلى المفتريات ، وقيل غير هذا مما ينحل عند تحصيله .