تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{وَلَا تَدۡعُ مَعَ ٱللَّهِ إِلَٰهًا ءَاخَرَۘ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَۚ كُلُّ شَيۡءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجۡهَهُۥۚ لَهُ ٱلۡحُكۡمُ وَإِلَيۡهِ تُرۡجَعُونَ} (88)

وقوله : { وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا إِلَهَ إِلا هُوَ } أي : لا تليق العبادة إلا له ولا تنبغي الإلهية إلا لعظمته .

وقوله : { كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَهُ } : إخبار بأنه الدائم الباقي الحي القيوم ، الذي تموت الخلائق ولا يموت ، كما قال تعالى : { كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإكْرَامِ } [ الرحمن : 26 ، 27 ] ، فعبر بالوجه عن الذات ، وهكذا قوله ها هنا : { كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَهُ } أي : إلا إياه .

وقد ثبت في الصحيح ، من طريق أبي سلمة ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أصدق كلمة قالها شاعر [ كلمة ]{[22473]} لبيد :

ألا كلُّ شَيْء مَا خَلا اللهَ بَاطِلُ{[22474]} وقال مجاهد والثوري في قوله : { كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَهُ } أي : إلا ما أريد به وجهه ، وحكاه البخاري في صحيحه كالمقرر له .

قال ابن جرير : ويستشهد من قال ذلك بقول الشاعر :

أسْتَغْفِرُ اللهَ ذنبًا لَسْتُ مُحْصِيَهُ *** رَبّ العبَاد ، إلَيه الوَجْهُ والعَمَلُ

وهذا القول لا ينافي القول الأول ، فإن هذا إخبار عن كل الأعمال بأنها باطلة إلا ما أريد بها وجه الله{[22475]} عز وجل من الأعمال الصالحة المطابقة للشريعة . والقول الأول مقتضاه أن كل الذوات فانية{[22476]} وهالكة وزائلة إلا ذاته{[22477]} تعالى ، فإنه الأول الآخر الذي هو قبل كل شيء وبعد كل شيء .

قال{[22478]} أبو بكر عبد الله بن محمد بن أبي الدنيا في كتاب " التفكر والاعتبار " : حدثنا أحمد بن محمد بن أبي بكر ، حدثنا مسلم بن إبراهيم ، حدثنا عمر بن سليم الباهلي ، حدثنا أبو الوليد قال : كان{[22479]} ابن عمر إذا أراد أن يتعاهد قلبه ، يأتي الخربة فيقف على بابها ، فينادي بصوت حزين فيقول : أين أهلك ؟ ثم يرجع إلى نفسه فيقول : { كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَهُ } .

وقوله : { لَهُ الْحُكْمُ } أي : الملك والتصرف ، ولا معقب لحكمه ، { وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } أي : يوم معادكم ، فيجزيكم{[22480]} بأعمالكم ، إن كان خيرا فخير ، وإن شرا فشر .

[ والله أعلم . آخر تفسير سورة " القصص " ]{[22481]} .


[22473]:- زيادة من ف ، أ ، وصحيح البخاري.
[22474]:- صحيح البخاري برقم (3841) وصحيح مسلم برقم (2256).
[22475]:- في ف : "به وجه الله" وفي أ : "به وجهه".
[22476]:- في ت : "تفنى".
[22477]:- في ت : "وجهه".
[22478]:- في ت : "وروى".
[22479]:- في ت : "بسنده أن".
[22480]:- في ت : "فيجازيكم".
[22481]:- زيادة من ف ، أ.
 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَلَا تَدۡعُ مَعَ ٱللَّهِ إِلَٰهًا ءَاخَرَۘ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَۚ كُلُّ شَيۡءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجۡهَهُۥۚ لَهُ ٱلۡحُكۡمُ وَإِلَيۡهِ تُرۡجَعُونَ} (88)

وقوله تعالى : { ولا تدع مع الله إلهاً آخر } نهي عما هم بسبيله ، فهم المراد وإن عري اللفظ من ذكرهم ، وقوله تعالى : { إلا وجهه } قالت فرقة : هي عبارة عن الذات ، المعنى هالك إلا هو ، قاله الطبري وجماعة منهم أبو المعالي رحمه الله ، وقال الزجاج : إلا إياه ، وقال سفيان الثوري : المراد إلا ذا وجهه ، أي ما عمل لذاته ومن طاعته وتوجه به نحوه ومن هذا قول الشاعر :

«رب العباد إليه الوجه والعمل »{[9196]} . . . ومنه قول القائل أردت بفعلي وجه الله تعالى ومنه قوله عز وجل : { ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه }{[9197]} [ الأنعام : 52 ] وقوله تعالى : { له الحكم } أي فصل القضاء وإنفاذ القدرة في الدنيا والآخرة ، وقوله : { وإليه ترجعون } إخبار بالحشر والعودة من القبور ، وقرأ الجمهور «تُرجَعون » بضم التاء وفتح الجيم ، وقرأ عيسى «تَرجِعون » بفتح التاء وكسر الجيم ، وقرأ أبو عمرو بالوجهين .


[9196]:هذا عجز بيت، وهو من الأبيات الخمسين التي استشهد بها سيبويه ولم يعرف قائلها، وهو شاهد عند النحويين على أن أصله: (أستغفر الله من ذنب)، ثم أسقط الجار، فاتصل المجرور بالفعل، فنصب مفعولا به، ولكن الشاهد هنا أن الوجه بمعنى: ما عمل لذات الله، والبيت بتمامه: أستغفر الله ذنبا لست محصيه رب العباد إليه الوجه والعمل
[9197]:من الآية 52 من سورة الأنعام، ومثلها قوله تعالى في الآية 28 من سورة الكهف: {واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه}.